لماذا تتراجع ثقافة الانتماء الوطني في اليمن؟
بقلم/ د. احمد ابن اسحاق
نشر منذ: 14 سنة و 3 أشهر و 13 يوماً
الخميس 12 أغسطس-آب 2010 01:11 ص

لعل ما قاد تفكيرنا اليوم للحديث عن علاقة التحديات المعاصرة التي تواجهها اليمن بمستوى التراجع في ثقافة الانتماء الوطني لدى المواطنين، هو الخاطرة التي قدمها هذا الصباح أستاذ علم النفس والتقويم التربوي الفاضل الدكتور عبد الرحمن بلخير في موقع المكلا اليوم الالكتروني عن قراءته لمستوى ثقافة الانتماء الوطني في اليمن من خلال تحليله لسلوك المشجعين الرياضيين في المباريات الدولية ومقارنة ذلك بمصر.

وكذلك أيضا لهواجس التفكير الوطني التي بثها في عقولنا هذا الأسبوع أساتذتنا باتحاد الأدباء فرع م/حضرموت خلال إحياء الذكرى العاشرة لرحيل الشاعر الغنائي المسرحي حسين ابوبكر المحضار باحاديثهم وأبحاثهم عن وطنية المحضار وقوة انتماءه للأرض والتاريخ في روائعه الخالدة التي جعلت الجميع يدندن لاشعورياً:

حبي لها رغم الظروف القاسية رغم المحن ××× حبي لها أمي سقتني ياه في وسط اللبن

إن عشت فيها لأجلها عانيت ××× وإن غبت عنها كم لها حنيت

والحاصل أن الحب شيء ماله ثمن ××× من قال محبوبتك من قلت اليمن

وانطلاقا من اعتبار ثقافة الانتماء الوطني جملة معتقدات الأفراد المعززة لاتجاهاتهم نحو بيئتهم ومن حولها ووطنهم وإيمانهم به وتوحدهم معه، واعتبارها سلوكا مكتسب لاوراثي، شدد عليه الإسلام معتبراً حب الوطن من الإيمان، فوعد الله عز وجل من مات دفاعاً عن أرضه بالشهادة، ونظراً لأهمية هذا السلوك الانفعالي لدى أفراد المجتمع في مستوى قيامهم بمختلف واجباتهم المحققة للمصلحة الوطنية سنحاول الدردشة قليلا حول مايلي:

عوامل تراجع ثقافة الانتماء الوطني:

ان الجدل الدائر في الأوساط التربوية العربية العالمية حول الكيفية التي ينبغي ان تعمل بها المناهج المدرسية وأنشطتها الصفية واللاصفية على تعزيز ثقافة سلوك الانتماء الوطني، لشعورهم بانحسارها الشديد كنتيجة لهيمنة الشركات الرأسمالية ونفوذها في صناعة القرار السياسي الذي اصبح يخدم مصالحها لامصالح الجماهير فاصبحت ثروات الشعوب ترحل من من خزائن الحكومات وجيوب ملايين الافراد الى جيوب حفنه من الافراد. وشعورهم أيضا بتأثير الأزمات السياسية والاقتصادية والسياسات الخاطئة على إضعاف قوة ونفوذ الدولة المركزية في العديد من البلدان النامية والذي القى بظلاله على اتجاهات الشعوب نحو الدولة المركزية لعدم رضاهم عن مستوى اهتمامها بتحقيق طموحاتهم وأحلامهم وشعورهم بتمييز الحكومات بين أفراد شعوبها وفقاً لانتماءاتهم الحزبية والقبلية والمناطقية والمذهبية التي جعلت من أفراد الشعوب الباحثة عن تحقيق الأمان المعيشي وسط عالم اللارحمة يبحثون عن تكتلات يرونها تحقق لهم مستوى من الأمان فمنهم من ذهب باتجاه صناعة تكتلات قبلية مؤثرة ومنهم من ذهب باتجاه صناعة تكتلات حزبية ومنهم من ذهب باتجاه صناعة تكتلات مناطقية (كحالة تنظيم الحراك في المحافظات الجنوبية) ومنهم من ذهب باتجاه تكتلات دينية (كتنظيم القاعدة) ومنهم من ذهب باتجاه تكتلات مذهبية (كالحركة الحوثية في صعدة وحالات الشيعة والسنة في العراق ولبنان وبلدان أخرى) فأصبحت البلدان تتجاذب مصائرها مراكز القوى والنفوذ هذه، فتشوش مفهوم الانتماء الوطني لدى الشباب لسيادة ثقافة الدفاع عن القبيلة والدفاع عن الحزب والدفاع عن المصالح المالية التي قزّمت الوطن في عقل المواطن ليصبح قبيلة أو حزب سياسي او منطقة...

تعزيز الثقة في الدولة المركزية يتطلب سلوكا وليس خطابا:

وإذا كانت اليمن اليوم تمر بمواجهة أصعب التحديات التي قد تكون اكبرها (التمرد العسكري الحوثي في صعدة، والدعوة للانفصال من قبل انصار الحراك في المحافظات الجنوبية، والأزمة المالية العالمية، والقرصنة البحرية في المياه الإقليمية، والفساد المالي والإداري) فان أي من هذا كله يتطلب التغلب عليه –بدون أدنى شك- تعزيز الانتماء الوطني لدى المواطن أولا وذلك لن يتم من خلال تقويم وتطوير محتوى أنشطة المناهج المدرسية وحده ولا من خلال الخطاب السياسي وبرامج الإعلام والأناشيد الوطنية، بل من خلال مراجعة دور الدولة المركزية في التخطيط والرقابة الفاعلة على المشاريع الوطنية الشاملة وتقليص حالات النفوذ والفساد ليتولد الشعور الحقيقي لدى المواطن بالمواطنة المتساوية والأمان الاجتماعي والثقة بالدولة المركزية.

عيوب اللامركزية، الديمقراطية، والتعددية الحزبية وأثرها على تكريس تراجع الانتماء:

ان تغني اليمنيون بإشادة العالم بالنجاح الفريد في تطبيق اللامركزية وكذلك الديمقراطية والتعددية الحزبية وخاصة خلال انتخابات عام 2006م التي تابعها العالم من خلال إتاحة وسائل الإعلام الرسمية لكل الأحزاب السياسية، قد جعل اليمنيون يعتقدون ان الديمقراطية والتعددية الحزبية واللامركزية علاجاً لكل مشاكلهم الاقتصادية، الا ان عدم الانتباه إلى الأعراض الجانبية لهذا العلاج هو ماولد هذه الانتكاسات الخطرة:

الحكم المحلي

فلنبدأ بعيوب الحكم المحلي: فدعنا عزيزي القارئ ننطلق من خبرة متابعتك لبعض ما تتداوله الكتابات في وسائل الإعلام المختلفة وحتى ضمن نقاشات أعضاء مجلس النواب والمجالس المحلية منذ بدايات تطبيق نظام الحكم المحلي والتي ستجد من تحليلها بامعان ان هناك حالة من التناحر افرزها التطبيق الخاطئ للامركزية الإدارية بين الهيئات اللامركزية المختلفة لاسيما الهيئات التي من نوع واحد وتمارس ذات الاختصاص، والمطالبة بعدالة توزيع الأعباء المالية على جميع المحافظات مما افرز اصواتاً ترجح المصالح المحلية على المصالح الوطنية(زرع النزعة المناطقية الجهوية) والميل إلى الاستقلال خاصة في حالة بروز نزعات ايدلوجية أو مذهبية كما هو في صعدة وجوانب من المحافظات الجنوبية، وتنازعات اتخاذ القرار وتعدد القرارات الذي ألقى بظلال من التهديد للوحدة الإدارية في الدولة وقوة سلطتها بتقسيمها للوظيفة الإدارية بين السلطات المركزية في العاصمة والهيئات اللامركزية في المحافظات، الأمر الذي اصبح ينذر بإضعاف التنسيق بين المركز والمحافظات، وبين المحافظات نفسها، والتي هي من مسؤولية الإدارة المركزية، وتجاوز سلطات المحافظات ولجانها المحلية على الخطط الموضوعة في المركز وانعكاسه في إضعاف تنفيذ السياسات العامة للدولة، كما ستلاحظ ان هناك انتقادات توجه للهيئات المحلية الأقل خبرة - التي يتم تعيينها عن طريق الانتخاب والذي لا يقوم بالضرورة على الخبرة والكفاءة بفعل وتأثير الدعاية الحزبية فقد ينجم عن ذلك هبوط مستوى أداء وكفاءة الجهاز الإداري نظرا لتوالي إدارة الهيئات المحلية بواسطة أعضاء قد لا تكون لهم الدراية والمعرفة بأساليب العمل الإداري وتقنياته وقواعده العلمية – وبروز الفوضى والمحسوبية و ضعف الرقابة وسيادة البروقراطية الإدارية التي انعكست على بطء العمل الإداري في المحافظات، بالإضافة إلى انتقادات إسراف نثريات تعدد لجان الهيئات المحلية في اثنان وعشرون محافظة (إدارات جهوية) والتي تحمل الخزينة العامة مبالغ ضخمة سنويا ونفقات كثيرة في ظل صعوبة الظروف الاقتصادية التي يمر بها اليمن، ومن هنا فان النظر الى محاولات تباهي السلطة بتفويض صلاحيات مطلقة للمجالس المحلية ومبالغة البرلمان في قانون السلطة المحلية من جهة والنظر من جهة اخرى الى تداعيات الأحداث في الساحة الوطنية التي أصبحت تهدد امن واستقرار الوطن يدعونا إلى المطالبة بإعادة النظر في هذه الهرولة ليس بالعودة إلى المركزية المطلقة وإنما بالموائمة بين المركزية واللامركزية والانتفاع من محاسن كلا الاتجاهين وتجنب سلبياتهما.

الديمقراطية:

أما المبالغون في المطالبة بالديمقراطية مطلقة العنان وعدم الالتفات إلى عيوبها في ظل مجتمع لاتزال نسبة الأمية به مرتفعة، فأنني اذكرهم - وخاصة ذوي الفكر الماركسي- بما قاله ماركس وفيبر نفسهما من تأييد لرؤية سقراط وأفلاطون حول شكوكهم في نجاح الديمقراطية المطلقة العنان لدى المجتمعات التي تسودها الأمية والمجتمعات التي تعودت ثقافة الحكم العسكري وقالا بأنه في حالة ان يتم ذلك سينتج لنا ما أطلقا عليه (حكم الغوغاء)، والذي لعله يتجسد جلياً أمامنا اليوم في تناحر الأحزاب السياسية والطوائف الدينية في العراق بعد سقوط النظام البعثي العسكري واستيراد الديمقراطية الأمريكية لتحل الغوغاء المنبوذة بدلا عن الدكتاتورية القمعية المنبوذة، ولعله أيضا ينطبق تماما على حالنا في اليمن اليوم. وقبل الخوض أكثر في تفاصيل تأثيرات عيوب الديمقراطية في اليمن على ثقافة الانتماء فدعني أوجه لك عزيزي القارئ هذا السؤال (ما هي المكاسب والخسائر التي حققها الشعب اليمني المترتبة على تقليعة الديمقراطية وأسلوب تطبيقها؟) فستجد أن جملة كبيرة من الأزمات المعاصرة مردها إلى هذا التطبيق الخاطئ للديمقراطية وفي الوقت نفسه ستجد ان هناك فوائد ولكن لا ترقى إلى مستوى هذا التعصب الأعمى لأسلوب إطلاق العنان وما تبعها من حالة غوغائية، فعلى سبيل المثال دعنا نحلل "مكسب التمثيل العام" ومستوى المبالغة والوهم حين نقول ان مجلس النواب يمثل سلطة الشعب كامل، فمجلس النواب لم ينتخبه الشعب كاملا لكون نسبة كبيرة لم تشارك في التصويت ونسبة أخرى ممن اشتركوا في التصويت ذهبت أصواتهم أدراج الرياح لكونهم أعطوا أصواتهم لمن لم يُكتب لهم الفوز في الانتخابات بالإضافة إلى الأصوات الباطلة، أما من حيث ممارسة السلطة داخل المجلس فانك قد تستغرب اذا قلت لك ان قرارات كثيرة يتخذها نحو ربع أعضاء المجلس وذلك لكون نصاب انعقاد الجلسات يكون (نصف العدد + 1) وان هذا العدد الذي تنعقد به الجلسة يتطلب القرار تصويت الأغلبية علية وبذلك قد تتخذ قرارات بموافقة 26 عضو (نصف النصف)، فأين وهم التمثيل العام الذي نتغنى به، ناهيك عن تأثر قرارات الكثير من هؤلاء الأفراد بالتزاماتهم نحو مصالح أحزابهم السياسية ومصالح دوائرهم الانتخابية وتقديمها على الصالح العام، أضف إلى ما يصحب عملية اختيار هؤلاء الأفراد من دعاية انتخابية وولائم وتضليل للرأي الشعبي لجعل الناخب يختار من يرتبط بمصلحة شخصية دون الاهتمام بالمصلحة الوطنية، وتأثير حالة الجهل والأمية لدى الكثير على عدم قدرته على تحديد الأصلح للوطن فيميل باختياره لمسايرة رأي شيخ القبيلة او زعامات الأحزاب او بعض الأصدقاء والأقارب وهذه هي حالة الكسل الفكري المولدة للغوغاء (الديماغوجية) التي احتقرها سقراط، ناهيك عن تقليص دور الشعب في ممارسة السيادة بأن ينتهي دوره بمجرد انتهاء الاقتراع ولا يصبح له سلطة أو تأثير على عضو مجلس النواب او المجلس المحلي بعد انتخابه وتصبح هذه القلعة الحاكمة تخلع عليها كل خصائص السيادة والتفرد والسمو والعصمة من الخطأ، واعتبار إرادتها معياراً للحقيقة المطلقة تهدر أمامها كل قواعد السلوك العاقلة لأنه إذا تكلم القانون يجب ان يسكت الضمير فأصبحت الحالة كأنما استبدل طغيان بطغيان ويصبح دور الناخب في تقديم حلول أو الاعتراض معدوم فتتعزز حالة العدائية تجاه السياسات والتشريعات الوطنية والنظام وبالتالي المزيد من التكريس للجحود الوطني لا الانتماء الوطني، ومن هنا نقول بان هذه العيوب للتطبيق الخاطئ للديمقراطية لا تدعو إلى التراجع عن الديمقراطية وهدم المعبد كاملا بل إلى تصحيح مسار الممارسة.

التعددية الحزبية:

كما ان عيوب التعددية الحزبية في اليمن التي تضاف إلى ما سبق ذكره الناتجة عن ضعف مستوى وتقبل الرأي الآخر وضعف مستوى القدرة على التعايش في إطار الاختلافات الأيدلوجية المجسدة لتعدد الفكر و حريته ، وكذا ضعف مستوى الحوار الديمقراطي لخلق رأي مشترك جعل من هذه المساحة من الحرية سببا لتقسيم البلاد وإشاعة الضغائن والأحقاد ، إضافة إلى تحول الصراع الإيديولوجي إلى صراع مسلح في كثير من الأحيان كنتيجة لضعف الوعي بمفهوم التعددية والتي من الطبيعي ان تخلق معارضين لسياسة الدولة ويعملون علنيا ولهم مشروعية للوصول إلى السلطة او الدفاع عن أهدافهم وأفكارهم لان المعارضة صمام الأمان والأداة الحيوية في السلطة وبغيابها تكون التعددية الحزبية صورية، كما أسهمت المناكفات السياسية بين الأحزاب إلى تشويه صورة الوطن في نظر المواطن والتأثير على معتقداته من خلال حملات الدعاية التي تقودها الأحزاب المتصارعة ناهيك عن لجو بعض الأحزاب إلى تزييف الحقائق، إضافة إلى سيطرة حزب الأغلبية على القرار وتغييب البقية، وتكريس حالة التباعد بتنفيذ برنامج حزب الأغلبية دون غيره، إضافة الى عدم شعور بعض القيادات الحزبية بان بمسئولية أحزابهم في التعبير عن رغبات جميع فئات المجتمع وإبراز مشاكلهم ومطالبهم، والأدهى من ذلك ان الحزب الذي يصل إلى الحكم يعمل عادة على اضطهاد خصومه السياسيين واستبعادهم عن المناصب العليا بصرف النظر عن كفاءتهم وصلاحياتهم، وهذا في حد ذاته أقوى أشكال تعزيز ثقافة الجحود الوطني وبروز مظاهر عدم الإنماء، ورغم هذه العيوب المرتبطة بالتعددية الحزبية الا انها تعد محدودة مقارنة بعيوب الحزب الواحد، وعليه فان تلافي كل هذه الآثار الجانبية يتطلب مراجعة جوانب هذه القصور في الميدان لتطوير قوانين الأحزاب وتفعيل الرقابة القانونية على نشاطها الوطني.

والآن عزيزي القارئ جاء دورك لتفكر معنا بمفهوم الانتماء الوطني والتأصيل الشرعي من جهة، وما هي المفاهيم الخاطئة الشائعة في أيامنا هذه عن الانتماء الوطني؟ وما هي مجمل الآثار المترتبة على الإخلال بالانتماء الوطني؟

yemenaa@hotmail.com