سيل العرم وسد مأرب.. تساؤلات الانهيار الكبير 3
بقلم/ توفيق السامعي
نشر منذ: سنتين و 8 أشهر و 26 يوماً
الأحد 27 فبراير-شباط 2022 08:51 م
 

مثل انهيار سد مارب قديماً، في المصادر التاريخية وعند الإخباريين العرب، حدثاً مزلزلاً ومحطة تاريخية فاصلة ليس في تاريخ اليمن وحسب بل في التاريخ العربي كله، فزيد في الحدث ونقص، ونسجت الروايات المختلفة للحدث حتى تداخل غثها في سمينها، وصار الغث منها والأساطير هي الطاغي الأكبر على الأصل دون تمحيص وروية، ولم يدون الحدث في المصادر المادية كالنقوش المشندي والآثارية التي تعتبر أهم الدلائل المادية والشواهد التاريخية على ذلك.
وفي هذه الدراسة إعادة تمحيص لكتابة تاريخ ذلك الحدث، وتفنيد الكثير من الروايات التاريخية والأساطير الملفقة لنصل إلى الحقيقة.

بناء السد وتهدمه:
تفتقد الأراضي اليمنية إلى أنهار طبيعية تجري فيها طوال العام للاعتماد عليها في الزراعة كما هو الحال مثلاً في مصر والسودان مع وجود نهر النيل، أو بلاد الرافدين مع وجود نهري دجلة والفرات، والتي كونت تلك الدول حضارات زراعية واستقراراً سكانياَ كبيراَ، فاليمنيون يعتمدون في زراعتهم على مياه الأمطار الموسمية في الصيف وقليل من الربيع وقليل من الخريف أيضاً.
تلك الحاجة للمياه جعلت الإنسان اليمني يفكر في إنشاء نمط ري زراعي يعوضه عن الأنهار الطبيعية التي تجري طوال العام، خاصة مع كثرة الجبال والأودية وأنقابها وثغورها ومسناتها ومأزماتها فاهتدى إلى فكرة بناء السدود والحواجز المائية والمآجل والبرك، وإنشاء القنوات والأفلاج التي تنقل المياه من أماكن بعيدة ليخزنها ويستفيد منها عند الحاجة إليها شتاءً.
من هنا جاءت فكرة بناء سد مارب في مملكة سبأ القديمة، وغيره من السدود اليمنية الأخرى، وتم دراسة موقع إنشائه بعناية فائقة؛ فإقامته في ميزاب اليمن الشرقي ومن خلفه سلسلة جبلية مفتوحة عبارة عن حوض صخري بإمكانه خزن ملايين الأطنان من المياه.
و"شيد سد مارب في وادي أذنة بين مأزمي الجبلين؛ البلق الشمالي والبلق الأوسط، وجبال البلق هي سلسلة من الجبال تؤلف الحاجز الأخير للمرتفعات الشرقية، قبل أن تلتقي بالصحراء، والصحراء المعنية هي ذلك الجزء من فلاة اليمن أو (جرز اليمن الشرقي) الذي يمتد بين مارب وشبوة، وتصب فيه معظم أودية المشرق، ويسميه الجغرافيون العرب بمفازة صيهد، ويطلق عليه حالياً اسم (رملة السبعتين). وبين مأزمي الجبلين المذكورين يضيق وادي أذنة بحيث يكون موقعاً طبيعياً يصلح لإقامة سد، وتتسع منطقة التجمع في أعلى المضيق، حيث تبدو وكأنها حوض مثالي لاحتواء المياه. ووادي أذنة هو (أذنت في النقوش اليمنية القديمة) وهو أعظم أودية اليمن وميزابه الشرقي"( ). ينظر الصورة رقم (1) (صورة السد والوادي).
ولبناء السد وظيفتان رئيستان؛ الأولى: حفظ الأراضي الزراعية من جرف السيول المتدفقة، والثاني تخزين المياه للاستفادة منها في الري في غير موسم الأمطار.
ويعتبر سد مارب أول السدود إنشاءً في اليمن وفي جزيرة العرب على الإطلاق حتى الآن، ما لم يستجد جديد من كشف آثاري أو نقوش مسندية تدحض هذا الأمر، حيث لم يذكر سد في الجزيرة العربية قبل هذا السد سواء كان سداً عاماً من إنشاء الدول أو سداً خاصاً وفردياً لأحد المواطنين.
خلال هذه الفترة أو ما قبلها في القرن الثامن الميلادي، لم يكن سد مارب (رحاب) هو وحده الذي شيد خلال هذه الفترة، فقد وُجد خلال هذه الفترة سد خاص ملكية خاصة لأحد المواطنين، وقد ذكره نقش مسندي صغير في متحف مارب بنوع خط المحراث يتحدث عن امتلاك هذا الرجل لسد خاص.
ويعود تاريخ هذا النقش إلى نهاية القرن الثامن قبل الميلاد( )، وربما كان أقدم النقوش التي تتحدث عن السدود الأخرى حتى الآن، كونه يسبق تواريخ النقوش التي تتحدث عن سد مارب الكبير (رحاب) وبخط المحراث القديم( ).

يقول النقش المكون من ثلاثة أسطر:
ل ي ح ي/ ع س ي
و ب ن ي/ م أ
خ ذ ن

والمعنى:
ليحيى امتلك
وبنى
سدهو( )
ومن خلال الأبحاث ومراجعة تاريخ إنشاء سد مارب نجد أنه تم بناؤه وترميمه أكثر من ثماني مرات بين فترات متباعدة، وتهدم أكثر من ثماني مرات أيضاً، منها تهدماً كلياً ومنها تهدماً جزئياً، وفي كل مرة يتم إعادة بنائه وترميمه.
فقد كان بناء سد مارب البناء الأول، على رأي أكثر الباحثين والمؤرخين، يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، أي حوالي بعد بلقيس بقرنين من الزمن أو أقل، ومنهم من يعيد بنائه إلى نهاية الألف الثانية قبل الميلاد، أي قبل عهد بلقيس بحوالي مائة عام أو يزيد.
ويرى العالم الآثاري النمساوي "GLASER" أن عهد البناء الأول للسد يعود إلى ما بين 700 و750 قبل الميلاد (القرن الثامن)، وقد بقي قائماً يؤدي واجبه إلى حوالى السنة "575" بعد الميلاد( ).

وانفرد عالم الآثار اليمنية البروفيسور يوسف محمد عبدالله من بين المؤرخين والباحثين بأن إنشاء السد يعود إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد( ).
ولا توجد بين أيدينا نصوص مسندية عن أول رجل أو حاكم أقام هذا السد، وعن العهد الذي تم فيه البناء، كما هو حال النصوص الأخرى سواء عن الاستحداثات والبناءات والترميمات الأخرى أو تدوين أحداث السيول، وعلى وجه الخصوص "سيل العرم" رغم أن اليمنيين القدامى كانوا لا يتركون شاردة ولا واردة إلا دونوها بشكل نقوش مسندية، وتفسير هذا الأمر الأقرب للواقع هو أنه لم يتم العثور بعد على مثل هذه النقوش، وقد يأتي زمان تكتشف وتظهر للعيان.
فقد دون اليمنيون حادثة بركان وحمم سائل أصاب حوالي صنعاء وعمران من قرب جبل "ضين" ولا تزال آثاره شاهدة حتى اليوم، وقد ذكره النقش ب"الثيل"، وهذا النقش حققه المؤرخ مطهر الإرياني، ويوجد النقش في خربة همدان، وهو من أهم النقوش التي تدل على الكوارث الطبيعية وخاصة ما عرف في القرآن الكريم بقصة أصحاب الجنة من ضروان، في سورة القلم، والتي يرجحها الإرياني في هذه الحادثة( )، غير أنها لم تكن كذلك لاختلاف مواصفاتها في القرآن عما هو في النقش.
صحيح أن النقوش تذكر أن سيولاً مختلفة هدمت السد بين فترة وأخرى، لكن لم يذكر أي منها الآثار الكبرى المترتبة على تلك التهدمات والتصدعات؛ لأن ما ذكر في القرآن الكريم يعتبر حدثاً جللاً وضخماً ترتب عليه التمزيق والتهجير كما تذكره الآيات.
ويظهر من بعض الكتابات المحفورة على جدران السد بالمسند أن جملة تحسينات وتعميرات أدخلت عليه في أوقات مختلفة قبل الميلاد وبعدها، وآخرها هو إصلاح أبرهة الحبشي الذي تم على إثر تصدعه سنة 542 للميلاد.
ويظهر أن تصدعاً آخر وقع للسدّ في أيام طفولة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك في حوالي السنة "575" للميلاد، ولم يتم إصلاحه بعد ذلك، بسبب التدهور الاقتصادي الذي حدث في هذا العهد في اليمن وارتباك الأوضاع السياسية، واضطراب الأمن، وانتشار الثورات في كل مكان، وانتهاء الدولة والعاصمة هناك، وتدخل الأجانب في شؤون البلاد، فتصدع قسم كبير منه، ولم يهتم أحد من الحكام في إعادته إلى أصله بإصلاحه وترميمه، وتحولت بذلك الأرضين الخصبة التي كانت تروى بمائه والتي كانت واسعة إلى أرضين موات، غطتها الطبيعة بطبقة من الرمال والأتربة وألبستها أكسية الصحراء الحزينة، حداداً على فراقها لذلك السدّ العتيد( )، حتى تم إعادة بنائه في يوليو 1984 من القرن الماضي في عهد الرئيس السابق علي عبدالله صالح على يد الشيخ زايد بن سلطان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة.
يوجد نقوش مسندية "على حجارة السد القديم الباقية إلى أيام تعود إلى عهد "المكاربة".
وأول اسم يرد في هذه النقوش التوثيقية لعمل السد أو إصلاحه هو سمهعلي ينوف بن ذمار علي( )، وذلك في النقش المرموز إليه ب(CIH 623( ، والنقش يذكر عملية إصلاح في السد وليس إنشائه من الصفر، وقام بحفر ساقية في السد فقط.
ونفس الشيء قام به من بعده ابنه المكرب (يثع أمر بَيِّن) من عملية إصلاح وإجراء ساقية من السد.
بينما يذكر جواد علي أن المكرب "كرب إل بين بن يثع أمر" أمر ببناء جزء من السد وتقوية أجزائه الأخرى. كما قام الملوك بإضافة أجزاء جديدة إليه، وتقوية الأجزاء القديمة منه. ومن هؤلاء الملك "ذمار على ذرح" ملك سبأ، والملك "يدع ايل وتر"( ). لكن بالعودة إلى النقش فقد عمل عملية إصلاح فقط.
وهناك إشارة بسيطة إلى بناء السدود والحواجز المائية وقنوات الري المختلفة في مارب وردت في الفقرة الثانية من نقش النصر لكرب إيل وتار لكنها لم تفصل في هذا البناء أو تنسبه إلى "العرم" مثلاً، كما جاء في نقش أبرهة الحبشي كآخر الإصلاحات والترميمات لهذا السد.
تقول فقرة نقش النصر، كما أوردها المؤرخ جواد علي: "ووهبت أرض سبأ مطرًا سال في الأودية، فأخذت الأرض زخرفها بالنبات، وإذ مكنته من إنشاء السدود، وحصر السيول حتى صار في الإمكان إسقاء الأرضين المرتفعة، وإحياء الأماكن التي حرمت الماء، كذلك إحياء أرضين واسعة بإنشاء سد لحصر مياه الأمطار يتصل بقناة "عهل" لسقي "ماودن" "مأدون" والأٍرضين الأخرى التي لم تكن المياه تصل إليها، فوصلت إليها بامتلاء حوض السد بالماء، حتى سقت "موترم" "موتر" التي جاءها الماء من "هودم" "هوديم" "هودي"، وبإنشائه مسايل أوصلت المياه إلى "ميدعم" "ميدع" و"وتر" و"وقه"، ونظم الري في "ريمن" "ريمان" حتى صارت المياه تسقي كل أرض"( )، مع اختلاف القراءات للنقش من قبل باحثين آخرين ولكن بتقارب كبير.
في بعض النقوش الموجودة على حائط السد تذكر إما عمليات الترميم والإصلاح، وإما أسماء المكاربة (الملوك) بدون تحديد عمل لهم في السد، كما هو حال نقش المكرب سمه علي ينوف بن ذمار علي وابنه يثع أمر بين مثلاً اللذين ورد اسمهما وصفتهما دون أي ذكر للعمل( )، وهذا يدل على أن السد لم يكن من إنشائهما وإنما من عمل من قبلهم من المكاربة/الزعماء والملوك، وهم رمموا وأصلحوا فقط، الأمر الذي يعني قدم تأسيس السد عن زمنهم.
تبدو النقوش الموجودة في جدار السد منقولة من مواضع أخرى أو منقوصة غير مكتملة كونها تتحدث عن إصلاحات بسيطة أو ترميمات مختلفة أو استحداثات جديدة وليس بينها نقش يذكر واحد يذكر عملية الإنشاء الأولى للسد، وهذا ما يجعلنا نجزم بفقدان النقش الأساس ومن الممكن ضياعه أو جرفته السيول بعيداً وقد يظهر في يوم من الأيام يضع حداً لكل نقص في هذا الموضوع.
وهناك إشارة مهمة أخرى أيضاً عن تاريخ تأسيس السد بأنها تعود إلى ما قبل الألف الأول قبل الميلاد، وهي أن مختلف المؤرخين والباحثين يجمعون على أن زمن المكاربة سبقت بكثير فترة الملوك، ونحن نجد أن بلقيس مثلاً كانت في القرن العاشر ق.م، وقد ذكرها القرآن الكريم بوصفها ملكة لا مكربة، وهناك فرق بين المكرب والملك، فكما هو معلوم أن المكرب المقدم وكبير الكهنة المقرب من الإله أو كبير سدنة المعبد، بينما الملك كبير القوم وسيدهم والمتحكم في شؤونهم، ومن هنا كان وصف بلقيس بالملكة: ﴿إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ النمل(23)، وفي النقوش على السد وردت صفة "مكرب" وليس "ملك" بمعنى أن إنشاء السد كان أقدم من الفترة المحددة بالقرن الثامن قبل الميلاد.
ويرى "فون وزمن" أن الملك الحميري ذمار علي يهبر (100 ب.م) غزا مارب وقام هو وابنه ثاران بترميم سد مارب وبناء المواضع التي تخربت منه، وذلك لأنه كان قد تخرب، وذكر أن تخرب السد هذا هو تخرب لم يصل خبره إلينا( ).
كما تهدم سد مارب للمرة الثانية في عهد الملك الحميري ثاران يهنعم بحسب نقش مسندي يرمز له بـJamme 671 وقيام الملك ثاران يهنعم بإصلاحه وإعادته إلى ما كان عليه. ويكون هذا الخبر هو ثاني خبر يصل إلينا مدوناً في كتابات المسند عن تصدع السد إلى هذا العهد( ).
وكذلك أصلح الملك "شمر يهرعش" هذا السد، كما رممه الملك "شرحئيل يعفر" في سنة "449" للميلاد. ولكن المياه جرفت أقساماً منه سنة "450" للميلاد، أي بعد سنة من الترميمات، فاضطر إلى إعادة إصلاحه وتقويته"( ).
استخدم اليمنيون في بناء السد الرصاص والبرونز، وهي نفس التقنية التي استخدمها ذو القرنين في بناء سد يأجوج ومأجوج، وهي إحدى الأدلة على أن ذا القرنين ملك يمني والتقنية يمنية( ).
في بناء السد والحواجز استخدمت حجارة اقتطعت من الصخور، وعولجت بمهارة وحذق حتى توضع بعضها فوق بعض، وتثبت وتتماسك وتكون وكأنها قطعة صلدة واحدة. ونحتت الصخور، بحيث صارت تتداخل بعضها في بعض، بأن يدخل رأس من صخرة في فتحة مقابلة لها، فتكون كالمفتاح في القفل، وبذلك تتماسك هذه الصخور وترتبط ارتباطا وثيقا، وتكون كأنها صخرة واحدة.
وقد وجد إن بعض الأحجار قد ربطت بعضها ببعض بقطع من قضبان اسطوانية من المعدن المكون من الرصاص والنحاس يبلغ طول الواحد منها حوالى "16" سنتيمتراً، وقطرها حوالى الثلاثة سنتمترات ونصف، وذلك بصب المعدن في ثقب الحجر، فإذا جمد وصار على شكل "مسمار"، يوضع الحجر المطابق الذي صمم ليكون فوقه في موضعه بإدخال "المسمار" في الثقب المعمول في الجهة السفلى من ذلك الحجر، وبذلك يرتبط الحجران بعضهما ببعض برباط قوي محكم.
وقد اتخذت هذه الطريقة لشد أزر السد، وليكون في إمكانه الوقوف أمام ضغط الماء وخطر وقوع الزلازل. أما المادة التي استعملت في البناء لربط الأحجار بعضها ببعض فهي من أحسن أنواع الجبس Gips، وقد تصلب هذا الجبس الذي طليت به واجهات السد أيضا حتى صار كأصلب أنواع السمنت"( ).
وقد أقام المهندسون أبواباً لدخول المياه منها وخروجها، كما أنشأوا فتحات لتقسيم المياه وتوزيعها على المجاري والسواقي تفتح وتقفل بحسب حاجة المزارع والأماكن إلى المياه. ولا يزال بعض جدر السد قائماً، وآثار السواقي والمجاري التي كانت تجري فيها المياه من الحوض باقية، وهي تدل على مهارة مهندسي الري في ذلك العهد وعلى براعتهم في كيفية الاستفادة من الأرض ومن الطبيعة لخدمة الإنسان.
صمم السد تصميماً بديعاً وبارعاً لاستيعاب الكثير من المتغيرات والمؤثرات من خلال السيول، مثل الطاقة الاستيعابية للمياه، وكذلك كمية الطمي الذي يمكن أن يصاحب السيول لتستقر في السد.
وعمل السبئيون للسد مصدات تحويلية مدعمة بالمعدن كي تتلقى صدمات السيول الواثبة والساقطة من الجبال كي تخفف الصدمة على حائط السد حتى لا يتحطم مع كمية الطمي الكبيرة التي تحملها السيول، كما استبقوا حاجزه الرئيس بسدود تحويلية صغيرة على حوافه وبالقرب سدود أخرى ومنها سد حبابض، وذلك حماية للسد من الانجراف بفعل قوة السيول المتدفقة وحفظه من الانهيار.
فقد "قدر العلماء الذين عنوا بدراسة الترسبات في باطن السد أن انكسار "العرم" بسبب الترسبات الخشنة ممكن أن يحدث كل قرن مرة واحدة. ومما قد يؤيد مثل هذا الاستنتاج ما رود في النقوش اليمنية القديمة. حيث تذكر تصدع سد مارب في الفترات المتأخرة ثلاث مرات، وتؤرخ لذلك مباشرة أو بطريقة غير مباشرة بالتقويم الحميري"( ).

ويرى (Bruno) أنه إذا كان سعة سد مارب الكبير في بداية أمره حوالي 55 مليون متر مكعب، وكان حجم الطمي النازل سنوياً إلى داخل بحيرة السد حوالي اثنين ونصف مليون متر مكعب، وإذا كان بالتالي متوسط قوة اندفاع السيول في السد لمدة عامين حوالي 950 متراً مكعباً في الثانية، ومتوسط عشر سنوات 3750 متراً مكعباً في الثانية فإن طاقة أي سد عادي حينئذ لا تقدر على استيعاب تلك السيول وطميها وقوة اندفاعها، بل إن جسم أي سد عادي لا يمكن أن يصمد أمامها لفترة أكثر من قرن. ولهذا فإن سد مارب العظيم قد صمم وشيد بدقة ومتانة وإحكام بحيث يخدم الغرض منه قروناً طويلة وبحيث لا يتهدم السد ومرافقة جميعها إن انكسر جداره مرة في كل قرن، وإنما يكون الانكسار بمثابة تنفيس لباطن السد الممتلئ بالطمي( ).
دونت النقوش عمليات بناء السد وترميماته المختلفة وإصلاحه بعد انهياراته المتعددة، وذكرت تلك النقوش بعض أسباب وعوامل تهدم السد، ومنها السيول، لكنها لم تشر إلى أية أسباب أخرى من التي رواها الإخباريون كالفأر مثلاً وغيرها، وكذلك لم تذكر تواريخها إلا قليلاً لاقترانها ببعض فترات الملوك، ولم تذكر تلك النقوش زوال دول أو هجرة ولا أسباب الهجرة، لكنها تذكر إعادة إصلاحه وترميمه وتستمر الحياة بشكل طبيعي.
باستثناء نقش باسم jamme 651) ) ذكر أن سيولاً كبيرة كانت تهدد مارب في زمن الملك شمر يهرعش فأمر قائد الجيش بأن يقوم على رأس قوة كبيرة من جيش سبأ ومن كبار (همدان) و(آل بتع) بتقوية سور مارب وتحصينه وحمايته من مداهمة السيول له، وبإنشاء سدود وموانع لمنع الأمواج العاتية من اكتساح مارب والأماكن الأخرى وذلك بمن جمعهم من الناس من سوادهم وساداتهم للقيام بهذه الأعمال( ). وهذه إشارة مهمة إلى أن مارب تظل مهددة بالسيول طوال فترتها، الأمر الذي يدعم القول إن سيل العرم فعلاً كان مسلطاً على مارب وسدها في مختلف الفترات.
وهذا يذهب بنا بعيداً عن كل تلك التفاسير القائمة على التخرص أو رواة الأخبار بمبالغاتهم وعدم تنقيحهم للمعلومة والبحث عن مصادر موثوقة لها.
وعلى هذه الدلائل المادية من النقوش فعلى أية حادثة تهدُّم من أحداثه المختلفة يمكن أن نسقط عليها حادثة سيل العرم؟ وهل في كل حادثة تهدم يكون قد حدث سيل عرم فكان يتجدد بتجدد بناء السد وبين بنائه وتهدُّمه عوامل مطردة؟!
إذا ما أُسقطت الآيات على مارب وسدها فقط، فإننا من خلال الرؤية المجردة للمكان وبحثه بعناية سنلاحظ أنه لا يوجد خراب كبير حتى يضطر السكان للهجرة وانتهاء حضارة سبأ بهذا التهدم، ولا يمكن لليمنيين كلهم ترك بلادهم والهجرة منها إلى العالم بسبب السد؛ لأن الخراب سيكون محصوراً في مارب فقط، واليمن وامبراطوريتها كانت مترامية الأطراف، فإذا حصل خراب في مارب أين ذهبت بقية المدن وبقية السكان؟!
ومن خلال النقوش التي مرت بنا على ذكر من أقاموا سدوداً مختلفة وترميمات متعددة سنجد أن في مارب حوالي ستة سدود مختلفة ذكرتها النقوش ولم يذكر أي من تلك النقوش سد العرم (سد مارب الكبير) إلا في الفترة المتأخرة بعد الميلاد، وقد كان السد يسمى بسد "رحبم" (رحاب).
فمثلاً: المكرب "سمه علي ينوف" ذكر أنه بنى سد "رحبم" (رحاب)، ولم يحدد مكان هذا السد، ثم جاء من بعده ابنه الملك يثع أمر بين وبنى سد "حببضم" (حبابض) ولم يعرف مكانه بالضبط أيضاً، كما قام بتوسيع وترميم سد "رحاب"، وجاء من بعدهما كرب إيل وتر وذكر أنه أنشأ سدوداً ونظم قنوات للري ووسع بعض السدود ليصل الماء إلى الحرتين اللتين لم يصل لهما الماء للسقي.
لكن النقش الموسوم بـ((Glaser 514 كان أكثر تخصيصاً للعمل الذي قام به المكرب "سمه علي ينوف" في أنه "ثقب، حاجزًا من الحجر، وفتح ثغرة فيه لمرور المياه منها إلى سد "رحبم" "رحاب" لتسيل إلى منطقة "يسرن" (يسران)، وهي منطقة ورد اسمها في كتابات عديدة، وكانت تغذيها مسايل وقنوات عديدة تأتي بالماء من حوض هذا المسند، وتبتلع ماءها من مسيل "ذنَّة" وهو من المسايل الكبيرة، فتغذي أرضًا خصبة"( )، وهذا يكشف أن سمه علي ينوف لم يكن أول من بنى السد فقد جاء على سد قائم وموجود وإنما رمم بعض أجزائه ووسعه وقام بإصلاحات واستحداثات معينة فيه، كما يذكر التقش.
وهنا تبرز العديد من الأسئلة: أي من هذه السدود هو سد مارب التاريخي والذي يسمى بسد العرم؟، وأين ذهبت كل تلك السدود والتي لم يتبق لها أثر اليوم سوى سد مارب الكبير؟ أم إنها اندثرت وتهدمت فعلاً بفعل سيل العرم المذكور، وأن سد "رحبم" (رحاب) هو نفسه سد مارب فذاك اسم تخصيص والأخير نسبة للبلد؟!
الإجابة على هذه الأسئلة ستقودنا إلى تحديد خراب السدود، وتحديد تاريخ وزمن سيل العرم وما شهدته اليمن من هجرات أولية بطبيعة الحال وليست هجرات كبيرة؛ لأن الحياة في مارب استمرت والمملكة قائمة والنقوش تدلنا على ذلك، إلا أن توجد فجوة تاريخية واكتشافات جديدة تقلب كل الاستنتاجات والمسلمات التاريخية وترتيبات الأحداث التي رتبها المؤرخون حتى اليوم.

وقد ذُكر اسم السد في كتابات عدة من أهمها كتابة تشير إلى تعمير هذا المكرب [سمه علي ينوف] سد "رحبم" "رحاب" للسيطرة على مياه الأمطار والاستفادة من السيول. وهو جزء من المشروع المعروف بـ "سد مارب" الذي نما على مرور الأيام، وتوسع حتى كمل في زمن "شمر يهرعش" في نهاية القرن الثالث للميلاد، فصارت تستفيد منه مساحة واسعة من الأرض، وقد بقي قائمًا إلى قبيل الإسلام، وعد سقوطه نكبة كبيرة من النكبات التي أصابت العربية الجنوبية، حتى ضُرب بسقوطه المثل، فقيل: "تفرقوا أيدي سبأ"؛ ذلك لأن سقوطه أدى إلى تفرق السبئيين، وإلى هجرتهم من بلادهم التي ولدوا فيها وإلى تفرقهم شذر مذر في البلاد"( ).
لكن جواد علي كان أكثر تحديداً وتخصيصاً للانهيار الكبير الذي ورد في القرآن الكريم و"أن تلفًا أصابه بعد ذلك فيما بين السنة "542 ب. م." والسنة "570 ب. م."، فلم يصلح فترك الناس مزارعهم، واضطروا إلى الهجرة منها، وإلى ذلك وردت الإشارة في القرآن الكريم"( ) أي قبل إعادة أبرهة الحبشي بناءه، وتمثل هذه الحادثة قاعدة أساسية اعتمد عليها الإخباريون في رواياتهم حول التهدم والتهجير، لكن هذه القاعدة كانت منذ زمن بعيد وقبل أن يفسر جواد علي هذه الأحداث.
وهنا لا بد أن نشير أن الآيات في القرآن الكريم خصت أهل سبأ بهذا الخراب، بينما لم تأت الأعوام 542 – 570 إلا وقد كانت نهاية الدولة الحميرية – بحسب بعض التصنيفات والتقسيمات- التي حكمت اليمن ونقلت العاصمة إلى ظفار يحصب، ومارب لم تمثل بعدها أي ثقل لا سياسي ولا سكاني، والقرآن الكريم أكثر تحديداً وتخصيصاً ودقة وهو يذكر أهل سبأ، لو أراد الحميريين لأشار إلى التبابعة مثلاً، كما أشار إليهم في سور أخرى من القرآن، ﴿أهم خير أم قوم تبع... ﴾ الدخان(37). والقوم الذين عاقبهم الله أهل سبأ لا حمير، خاصة أن الذين طلبوا المباعدة في الأسفار هم السبئيون التجار المشتهرون بالتجارة وليس الحميريين، وبالتالي فإن السبئيين هم المخصوصون بالعقوبة، ولو خص بسيل العرم السدود فقد كانت السدود منتشرة أكثر في يحصب وأكثر من مكان في اليمن في زمن الحميريين، وإليها تشير الأبيات المنسوبة إلى التبع أسعد الكامل بقوله:
ورَيْدَانُ قصري في ظَفَار ومنزلي بها أسَّ جدي دورَنا والمناهلا
على الجنَّةِ الخضراءِ من أرضِ يحصبٍ ثمانونَ سدًّا تقذفُ الماءَ سائلا
مآثرُنا في الأرضِ تصدقُ قولَنا إذا ما طلبْنا شاهدًا أو دلائلا
كذلك فإن الفترة الحميرية وتاريخها هي من أصدق الفترات اليمنية تاريخاً وترابطاً وتتابعاً ووضوحاً في تواريخها وأحداثها، ولم تكن فيها فجوات زمنية وحدثية كما هو الحال مع سبأ أو معين أو قتبان وأوسان وحضرموت، إلا قليلاً، وأكثر الفترات تدويناً واهتماماً بالنقوش، فلو كان حدث السيل في عهدها لوجدناه مدوناً في نقش من النقوش إلا أن تكون هذه النقوش غير مكتشفة بعد.
غير أن كثيراً من المؤرخين والباحثين الآثاريين يقولون لا وجود لمسمى دولة حمير؛ فالدولة هي دولة سبأ تعاقبت عليها بعض الأسر ومنها أسر من الحميريين الريدانيين، خاصة وأن تسمية سبأ ظلت حتى الاحتلال الحبشي ومجيء أبرهة وهو آخر من تسمى بملوك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابهم في طود وتهامة، وبالتالي فإن نعتهم في القرآن بالسبئيين صحيحة مائة في المائة من باب تسمية البعض بالكل؛ فالريدانيون الحميريون جزء من سبأ الأعم.
ما نشاهده من بقايا سد مارب اليوم ليس بما كان عليه من البناء الأول المتقدم لدولة سبأ، بل هو من آخر عملية للبناء في عهد أبرهة؛ لأننا لا نجد تلك المواصفات الأولى لاستخدام بعض المواد في البناء كالرصاص المذاب وغيره، ونظراً لتهدمه حوالي سبع مرات فإن ما بقي من أطلاله هو لآخر عملية بناء وترميم.
وعلى هذا الأمر فإن النقوش الموجودة اليوم على ما تبقى من آثار السد إنما هي نقوش قديمة في حجارة أعيد البناء بها وإضافتها إلى حائط السد، الأمر الذي يعني ضياع الكثير منها في حوادث السيول المختلفة، وقد تكون مطمورة في الطمي والأتربة حول السد، وقد يتم الكشف يوماً ما عن نقوش أخرى للسد من تلك الحجارة المفقودة تقودنا إلى الباني الأول المؤسس للسد.
وهذا يؤازره التسمية الجديدة للسد (العرم) على اعتبار أنها تسمية حميرية ولفظ حميري دخيل على سبأ بدليل أن اللفظ (العرم) لم تذكره أي من النقوش السبئية بعكس النقوش الحميرية التي ثبتت هذه التسمية؛ إذ إن النقوش السبئية والمعينية والقتبانية كانت تطلق عليه اسم "مأذن" (سد) وليس "ع رم ن" (العرم) الذي ثبته القرآن الكريم.
كانت تسمية السد/الحاجز في القرن الأول ق.م يسمى "ك ل و ت ن" (كلوتن) كما في نقش RES- 3913 ( ).

كما أطلق الاسم "ح ر ت" (سد)، ولكن هنا يقصد به السد الصغير قليل الارتفاع وهو سد تصريف. وكذلك يسمى "ع ض د م" (سد تحويل).
في عهد الملك شمر يهرعش في القرن الثالث الميلادي حصلت أمطار وسيول جارفة أدت إلى تهدم سور المدينة وقصري همدان وبتع، وأمر الملك شمر يهرعش بإعادة أسوار وأبراج سور مدينة سبأ الذي تهدم بفعل السيول الجارفة (ذ ع ب ن).
كذلك فإن المسافة الزمنية بين آخر تهدم له أو بين عملية إصلاح له في عهد السبئيين كان في زمن "يدع إل وتر" قبل الميلاد، وبين عملية إنشاء وترميم وإصلاح في العهد الحميري بعد الميلاد وتحديداً في زمن الملك شمر يهرعش وما قام به من إصلاح، تعتبر مسافة زمنية بعيدة يرجح فيها أن سيل العرم كان ما بين هاتين الفترتين.
وهذه تعتبر ثلاث قرائن متتالية قد ترقى إلى مستوى أدلة بأن السيل حصل خلال هذه الفترة، وخرجت بعض الهجرات منها لتكوِّن الممالك الأخرى ولتكون المسافة الزمنية معقولة خلال القرن الأول قبل الميلاد أو القرن الأول بعد الميلاد لتكوين هذه الممالك؛ إذ لا يعقل أن يتم إنشاء ممالك قوية إلى حد ما (الغساسنة في الشام والمناذرة في العراق، والأزد في عمان) في الفترة البسيطة قبل الإسلام، على رأي من يقول إن "العرم" جاء بعد إنشاء أبرهة الحبشي السد أو في آخر إصلاح له قبل أبرهة في عهد شرح إل يعفر.
هناك قرينة رابعة أيضاً ترقى إلى مستوى الدليل وهي في نقش (GAM 671) في عهد الملكين ثاران يهنعم وابنه ملك كرب يأمن، ذكر هذا النقش أن الملك ثاران يهنعم أمر الجيش والأعراب المناصرين التوجه إلى السد (عرمن) الذي تهدم عند موضع حبابض (ثبرت عرمن بحبابض) وموضع رحبتن (الرحبة) فتداعت جدرانه ومبانيه وأحواضه وسدوده الفرعية و"مضرفن" (مضارفه) وخرب ما مقداره سبعون (شوحطم) وحمدوا الإله المقه وسبحوه لأنه استجاب لدعائهم فحبس الأمطار والسيول والأمواج عنهم حتى تم العمل وأقاموا الأسس والجدران والسد( ).
وهنا في هذه الفترة، وفي هذا النقش، ظهر أول ذكر لتسمية السد بالعرم، وذكره بلفظ "ع ر م ن" (العرم).
ويظهر من خلال النقش أنهم ما زالوا على دين الوثنية قبل أن يؤمنوا بديانة التوحيد التي آمنوا بها من بعد هذا الملك، من خلال هذا المعتقد بغير الله يمكن أن يكون السيل هذا أيضاً ضمن العقوبة المرسلة عليهم.
ومن خلال سياق النص فإن هذا الخراب والتهدم لم يكن بذلك الكبير الذي يدمر المنطقة وينهي الدولة ويهجر أهلها ويمزقهم في الأرض، فقد تم تلافي الخراب وإصلاحه، لكن ما يُستشف منه على وجه التحديد أن أمر السيول مشكلة مؤرقة لمارب وللسدود عموماً وتظل تهديداً قائماً.
ولذلك نجد معظم النقوش في الفترة السبئية المتأخرة، والتي يسميها البعض بالعهد الحميري (بعد الميلاد)، والتي تذكر سد مارب وسيولها، تتحدث هذه النقوش إما عن خراب السد، أو تقديم نذور وقرابين لحمايته من التلف والضرر، بعكس بعض النقوش القديمة التي لم تذكر إلا تهدم السد وعملية إصلاحه وترميمه، وهي قليلة بالنظر إلى العهود المتأخرة، مما يعزز القول أن سيل العرم المذكور في القرآن إنما كان في العهود المتأخرة لسبأ، ومن دقة القرآن لتقرير واقع الحال أنه ذكرها باسم سبأ ولم تذكر باسم حمير.
فنجد هذا الخراب المتعدد للسد حتى في إطار حكم الملك الواحد يتعرض السد لعدة انهيارات وإصلاحات سواء كانت جزئية أم كلية، مما يعكس أهميته الكبرى لدى السبئيين.
ففي عهد الملك شرح إل يعفر بن ابي كرب أسعد [أسعد الكامل] تهدم السد مرتين؛ حيث قام بإصلاحه الإصلاح الأول سنة 564ح و565ح = 449م و450م، بحسب نص مسندي (GLASER 554)، وهو وثيقة تتعلق بسد مارب الشهير، ذكر فيه هذين الإصلاحين وحجم الإنفاق عليهما، ومقدار المشاركة المجتمعية في البناء، وخارطة توزيع العمل والمشاركة بين القبائل اليمنية( ).
لم يلبث هذا الإصلاح فترة بسيطة، وهناك نقش يذكره بعام واحد ونقش آخر يذكر ستة أعوام حتى أتى سيل كبير خربه مجدداً، ثم القيام بالإصلاح الآخر في السنة التي تليها (أيضاً موضح في نفس النقش المسندي) ما اضطر بعض المزارعين إلى الهجرة وترك المنطقة.
بينما ذكر في موضع آخر عند دارسين آخرين وبنقش آخر أن عملية الإصلاح الثالثة كانت سنة 457م، أي بعد سبعة أعوام من التهدم الأول وليس عاماً واحداً، كما يذكره النقش الآخر الذي يرمز إليه ب B،Gar Sharahbil A( ).
مما يعني أن عملية انهيار السد وإصلاحه في عهد شرحبئيل حدثت ثلاثة تهدمات وإصلاحات في عهد هذا الملك؛ الأول وقد قام بإصلاحه، والثاني الذي حدث بعد الإصلاح الأول بعام واحد، والثالث الذي تم إصلاحه بعد سبع سنوات من الحادثة الأولى، خاصة وأن نقشين لشرحبئيل يعفر يذكران العام الأول وسبعة أعوام أخرى، مما يعني أن هذه الحوادث المتعاقبة أيئست هؤلاء القوم وربما ترتبت عليه بعض الهجرات البسيطة.

ومع كل عملية إصلاح من هذه الإصلاحات يتم إدخال مواد جديدة تكون متينة وداعمة لهذه الإصلاحات وتقوية السد، ومن ذلك ما ذكره نقش السابق لشرحبئيل يعفر الذي يرمز إليه ب CIH 540 عن أنهم طعموا الحجارة وشقوق السد بصفائح الحديد وبالقمط (الملازم) المثبتة للجدران، كما دعموا أسفل السد بحجارة أخرى، وأزالوا الطمي والترسبات من أسفل السد( ).
ومن ناحية الشواهد المادية وذكر هذه الهجرة في النص، تعتبر الأقرب إلى رواية الإخباريين بتفرق أيادي سبأ، وحادثة سيل العرم في القرآن، لكن تلك الهجرات كانت بسيطة جداً لبعض المزارعين المقيمين حوالي السد الذين خافوا من تكرار مداهمة السيول لأراضيهم، وكانت الهجرة الداخلية إلى المناطق الجبلية ومنها صنعاء، وهنا بدأ نجم صنعاء في الظهور، لكن على أية حال تظل هي الأقرب إلى واقع الهدم والتهجير ولو بنسبة معينة.
فقد ذكر في النص هجرة بعض المزارعين والقبائل من حول السد، ولكن اقتصر على منطقة الرحبة الذي يسمى السد باسمها، ولم يتم ذكر أسماء القبائل التي هاجرت، ولو كان النص دوَّن اسم القبائل التي هاجرت لكان سهَّل على المؤرخين والباحثين اليوم كثيراً من تلك المعضلات.
لكن من نواحي أخرى لم تكن بمقدار تلك الهجرة التي تم المبالغة فيها، وأن شعوباً وممالك أخرى نمت وترعرعت بسببها، ولم تكن هجرة خارجية كبيرة، فهي قبل البعثة النبوية بأقل من مائتي عام إلا أن تكون هجرة أسرية تغلبت على ملك قبائل أخرى بعد فترة من الزمن فصارت تنسب إليها.
الأمر الآخر من شواهد النص اللغوية والعقائدية الدينية لم تذكر لفظ "العرم"، ولم تصوِّر حجم السيل إن كان كبيراً أو أقل من كبير، ذلك الذي ترك صدىً تاريخياً حد نزول آيات قرآنية توثقه، والذي كان يعتبر أكبر من زلزال للمنطقة.
فالآيات القرآنية تقول إن السيل أرسل عقوبة على أهل سبأ بسبب الإعراض والكفر بأنعم الله، وبسبب تجاري وطلب بعد الأسفار ﴿فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا.. ﴾سبأ(219)، بينما النص المسندي يوثق أنهم كانوا على ديانة التوحيد المؤمنة بإله السموات والأرض، ومفتتح النص يذكر هذا الأمر بالقول: "بنصر ورداء إلهن بعل سمين وأرضن..."، أي: بنصر وعون إله السموات والأرض تم هذا العمل!
الملاحظ في النقش الأول ((CIH 554 لشرحبئيل أنه لم يذكر إله السموات، وكان فيه نقص....، ولا أية آلهة أخرى، بينما ذكر النقش الأخير(B،Gar Sharahbil A) إله السموات والأرض، وهذا يعني تحولاً عقائدياً في عهده.
هذا التحول ربما كان دافعاً بسبب تلك العقوبة التي دفعتهم للإيمان بإله السماء والأرض.
لكن يبقى هذا النص، وهذا الحدث، هو أقرب الشواهد والدلائل للحدث وللواقع الجديد بعده من هجرة وغيره، باستثناء معارضة الآيات في الجانب العقائدي، والترحال أيضاً (باعد بين أسفارنا)، وهذا يدعم ما أشرنا إليه سابقاً أن الإعراض والكفر لم يكن كفراً عقائدياً دينياً بل كفر النعمة والبطر وعدم الشكر.
في كل الأحوال استمرت مارب في الزراعة، واستمرت الدولة تقوم بوظائفها، واستمرت واحدة من العواصم السياسية للدولة ولم يتم هجرها هجراً كاملاً، واستمرت كذلك عمليات إعادة بناء السد وإصلاحاته وترميماته، كما تقول الشواهد النصية للنقوش المسندية، وبعدها كان الإصلاح الأخير لأبرهة الحبشي وتهدمه بعد ذلك التهدم الأخير أيضاً.
ونجد أن بين عملية الإصلاح الأخيرة (الثالثة) في عهد الملك شرحبئيل يعفر وبين إصلاح أبرهة قرابة مائة عام؛ إذ كان الإصلاح الأخير في عهد شرحبئيل عام 457م وفي عهد أبرهة 543م، بمعنى أن التهدم الرابع للسد بعد شرحبئيل مما اضطر أبرهة الحبشي لإعادة بنائه، وكان هو البناء الأخير، إذ لا شواهد تاريخية ولا نصية على البناء بعد بناء أبرهة.
خلال هذه الفترة حصلت صراعات داخلية وضعف داخل الدولة السبأية مما ملأها الاحتلال الحبشي الثالث لليمن، وهي قرينة تساند الآيات (مزقناهم كل ممزق).
من يزر أرض السد ومجرى السيل منه لا يجد آثاراً لخراب كبير يمكن له تهجير كافة السكان من مارب، فما وجدناه عبارة عن قناة (سائلة) بسيطة انسيابية للماء حتى يصل وجهته، وقد كانت مدن وقرى مارب تقع على هضابها المرتفعة قليلاً عن مستوى سطح الأرض بعيداً عن السد ولا تصل إليها مياه السد بالخراب، وخير شاهد على ذلك عاصمة المدينة القديمة التي كانت في أجمة مرتفعة قليلاً عن سطح الأرض.
أيضاً فإن السد لم يكن كافياً لسقيا جنتين لحضارة ممتدة طولاً وعرضاً ولو في مارب وحدها كحقول زراعية مترامية الأطراف؛ فلقد كان السد أقل حجماً بكثير مما هو عليه اليوم، وأراضي مارب الزراعية لم تكن هي المعروفة اليوم بل إنها على امتداد المنطقة كلها وقد غطتها الرمال بفعل التصحر الزاحف عليها؛ أي إن هناك عوامل ري أخرى غير السد. فالسد الذي كان مبنياً بالمواصفات التي وردت في نقش أبرهة الحبشي ارتفاع واحد وأربعين ذراعاً، وطول 45 ذراعاً، وعرض أربعة عشر ذراعاً، كما قدر أنه يسقى 9600 هكتار.


وعلى المجمل فقد "كان سعة السد المائية تقدر "بحوالي 55 مليون متر مكعب"( ).
في اعتقادي أن السيل لم يكن مقتصراً على مارب فقط، وإن كان هو الأبرز، بل كان في عموم اليمن وربما في وقت واحد بسبب دخول اليمن في ما يسمى اليوم منخفضاً جوياً داهم معظم الأراضي اليمنية بحيث خربت معظم زراعة اليمنيين خاصة وأن اليمنيين يعتمدون على سيول الأمطار وجريان الأودية لري زراعتهم كما هو حال أودية تهامة وأبين وتعز وغيرها، وما بين فترة زمنية وأخرى تتعرض كثير من الأودية اليمنية لسيول جارفة تخرب معها الكثير من المزارع، وهو أشبه بطوفان نوح الذي عم الأرض، وهذا باعتقادي عم اليمن كلها.