الشهيد الزبيري .. جذوة التثوير وأبعاد الاغتيال 2-2
بقلم/ توفيق السامعي
نشر منذ: 4 ساعات و 49 دقيقة
السبت 12 أكتوبر-تشرين الأول 2024 04:30 م
  

ونحن نعايش الوضع الحالي نجد أنفسنا بلا زبيري جديد، ولا عبدالمغني جديد، ولا شدادي جديد، رغم توافر بعض الإمكانات والوسائل؛ إلا أن غياب المشروع والإرادة جعلنا متقاعسين راكنين إلى الغير، وننتظر الفرج من السماء، أو عبر الصدف الزمنية تأتي بها الأقدار، دون أخذ بالأسباب التي أخذ بها الثوار الأوائل رغم محدودية وسائلهم وشحة إمكاناتهم.

فمن خلال القراءة المتأنية لشخصية الزبيري وسيرة حياته، وتحليل هذه الشخصية الفذة، فقد كانت مكامن قوة الزبيري تتمثل في:

- حبه للجمهورية والتضحية في سبيلها وإخلاصه لها

- التخلي عن كل شيء في سبيلها حتى لا يستطيع طرف من الأطراف إمساكه من نقطة ضعف معينة، بما في ذلك منصبه الوزاري وراتبه المالي

- إجماع كل الثوار على وطنيته وثوريته وأبوة الأحرار

- صدق الرجل وإخلاصه للجمهورية والشعب وعدم المساومة في ذلك حتى لو قدم رقبته في سبيلها (كما يصفه بعض رفاقه كالنعمان والإرياني)

- ثوريته التي لا يمكن لأحد المزايدة عليها، وهذه أيضاً بشهادة مجايليه بدون استثناء

- مكانته وحظوته لدى القيادة المصرية

- مكانته الشعرية وقوته في الخطابة وتأثيراته البلاغية الجماهيرية التي جعلت القبائل تلتف حوله، كما وصفه البردوني لاعتبارات شعبية جماهيرية

- صاحب رؤية استشرافية ومعرفته مكامن الخلل الإمامي والدخول إلى القبائل والشعب من خلالها، وهذه الرؤية تجلت في قصائده الثورية الملهمة وكتابه (الإمامة وخطرها على الوحدة اليمنية)

- العمق الشعبي والقبلي الذي كان يتمتع به أكثر من القادة العسكريين والسياسيين لبساطته واحتكاكاته المباشرة بهم

- طرحه الصادق دون المراوغة السياسية والدبلوماسية المعهودة عند السياسيين؛ فقد كان واضحاً في الطرح، صادحاً بالقول والموقف 

- امتلاكه قرار نفسه وعدم الارتهان لأية جهة، والتخلص من نقاط ضعفه التي يمكن أن تقيد نشاطه وتوجهه إلى غايات الممول والمتحكم.

وحول هذه الجزئية تحديداً أرى أن نستشهد ببعض حديث السفير السوري في باكستان، بهاء الدين الأميري، كرفيق شعر ومعرفة بالزبيري أثناء نفي الزبيري إليها بعد ثورة 48.

يقول السفير الأميري: "ذهبت إلى منزله فتفاجأت أنه يسكن منزلاً من صفيح...فانتظرته قرابة نصف الساعة، حتى تمنيت أنني لم آت له إلى هنا،

وظننت أنه قد أصيب بحرج كبير، ثم فتح الباب وعزم عليّ بالدخول فدخلت ورأيت بيت الصفيح وفيها سرير عبارة عن حبال مشدودة من طرف جدار الصفيح إلى طرفه اﻵخر، ورأيت الكيس (الشوال) الذي كان يحمله باﻷمس وفيه الخردة للبيع، فلم أستطع أن أخفي دهشتي وصدمتي، فقال لي بصوت واثق وكأن اﻷمر ﻻ يعنيه بشيء:

لعلك تفاجأت مما رأيت؟!

نحن ﻻ نعيش لزخرف الدنيا وزينتها، نحن نحمل همّاً ﻻ تنفع معه راحة،

وﻻ يطيب معه عيش.

يكفيني من الدنيا لقمة تقيم صلبي و أم عمران (زوجته)، ولو أردت الدنيا لكانت مفتوحة أذرعتها لي في حضرة اﻹمام.

وسبب تأخره في فتح الباب أنه قام بغسل ثوبه الذي يلبسه، وﻻ يمتلك غيره فانتظره حتى أصبح جاهزاً للبسه ثم فتح لي الباب...إلخ".

رجل بهذه المواصفات لهو خليق بالقيادة والنصر والتفاف الشعب حوله، ومبارك المسعى، ومثمر الحركة، وبلوغ الغاية، وهو ما كان.

وقد كان الزبيري أشار إشارة إلى سكنه في هذا الكوخ، في قصيدته البائية العظيمة (لحظة الإشراق الفني).

فغالباً وسائل الراحة والدعة في الدنيا من نعيم المسكن والملبس والمأكل والمشرب والسيارة الفارهة والراتب المجزي، بما كانت تمثله قديماً في الحروب من غنائم، هي مقيدة للرجال من التحرك والتضحية وطلب المعالي والانتصار في المعارك؛ فهي تتحول إلى أغلال حقيقية ومعيقات في طريق النصر، وما كانت هزيمة المسلمين في أحد، أو هزيمة الجيش الإسلامي في معركة بلاط الشهداء على أبواب باريس، في خلافة هشام بن عبدالملك، للقائد الإسلامي اليمني عبدالرحمن الغافقي، إلا بسبب الحرص على المحافظة على الغنيمة، وتحولت غنائمهم وأموالهم من نقطة قوة إلى نقطة ضعف وهزيمة، ولو كان الزبيري حصل عليها في منفاه في باكستان، كحالنا اليوم لما عاد حاملاً راية الثورة والتثوير، وركوب الخطوب، وتجميع اليمنيين حوله، حتى انتصار الثورة واستشهاده في أبريل 1965م.

في برط العنان ظل الشهيد الزبيري ينطلق منها ويدعو القبائل ويسايسها ويوعيها بواجباتها في التخلص من الإمامة والانتقال إلى الحياة الجديدة في الجمهورية، بما تمثله من انتقالة نوعية وتطور واللحاق بالحياة العصرية كبقية الدول إلى أن استقطبها وبايعته بعد ذلك القبائل على حمايته مما تحمي به أبناءها له ما لهم وعليه ما عليهم، وهناك أنشأ ما يسمى بـ"حزب الله"، والجميع التحق به على قاعدة الثورة والجمهورية، على الرغم من أن البردوني يقول إن حزبية الزبيري لم تصل حد اليقين؛ بل كانت تنشر النشرات بتوقيعه بهذا الاسم الذي يشك أنه مستعار التسمية.

في هذا المكان، يعتبر مثلث الإمامة عبر التاريخ، فهو يتوسط الجوف وصعدة وعمران، وهو عمق التحشيد والتجييش الإمامي، واختراقه تاريخياً ليس بالأمر السهل، حتى في عز قوة الدولة إبان الدولتين الأيوبية والرسولية؛ فقد كان معقل السفاح عبدالله بن حمزة وغيره من الأئمة، انطلقت دعوتهم من هناك، وأن يتم جذب ذلك المثلث للثورة والجمهورية خير من أن يبقى معادياً للثورة وحاضنة شعبية تحشيدية للإمامة، حتى ما بعد الصلح الإمامي الجمهوري عام 1970 فقد ظل فتور وضعف العمل الجمهوري فيه من فتح مدارس ومعاهد وتوعية تثقيفية وإرشادية جعلت ذلك المثلث يميل مجدداً للإمامة الجديدة. 

بدأت التخوفات من الجميع إماميين وجمهوريين على السواء من أن يستطيع الزبيري جمع كلمة اليمنيين بعيداً عن التدخلات الخارجية، وخاصة الإمامة التي كانت ترى أن عدوها اللدود هو الزبيري؛ جذوة الثورة المتقدة، والتي تأبى أن تنطفئ، وكلما فتر نبراس الثورة والثوار مدها بالوقود ليزيدها اشتعالاً، فقررت استمالته، وحاولت بوسائل الترغيب تارة والتهديد تارات أخرى، حتى يئست منه فقررت اغتياله.

وكانت حادثة الاغتيال مشهودة، كما وصفها الإرياني، كشاهد عيان لها، ولنترك الإرياني يفصلها كما رآها، فقال:

بتنا خير ليلة أكلنا مريًا، ونمنا هنيئًا، غافلين عما تخبئه لنا الأقدار في صبيحة

تلك الليلة من أحداث. وقمنا مبكرين وقد أعدوا لنا فرسين وحمارًا. وأبى القاضي

محمد -رحمه الله- إلاّ أن يكون هو راكب الحمار؛ لأنه يعتبرنا ضيوفًا لديه. ومشينا

الهوينا، وبعد أن ابتعدنا عن المركز (رجوزة) بحوالي ميلين سمعنا طلقة رصاص،

ولم نلق لها بالاً، ولم نشعر أنها كانت طلقة الغدر تنبيهًا للكمين بأنّا قادمون إليهم.

وتقدمَنا القاضي محمد على حماره مزهوًا به، لأن الخيل قد عجزت عن اللحاق

به، وحينما أشرفنا على قرية (رهيمات) ما بين (مداجر) و(رجوزة) و(ظلام) سمعنا

عدة طلقات قريبة، ونظرنا أمامنا فإذا بالقاضي محمد بن محمود الزبيري يهوي

من على ظهر الحمار المشؤوم وهو يقول: الله الله الله ثلاثًا، ويفارق الحياة. لقد

أصابت رصاصة الغدر والخيانة القلب الكبير الذي طالما نبض بالحب الصوفي

لهذا الشعب ولكن أنى لهذا الشعب أن يعرف إلى أين يوجه رصاصته. وهكذا فارق

الشهيد الكبير الحياة في الساعة السابعة والنصف من صباح يوم الخميس الموافق

1965/4/1 م -رحمه الله ورضي عنه- حيث سقط الشهيد العظيم فوجدناه جثة هامدة. وكان قد سبقنا إليه القاضي محمد أحمد السياغي الذي كان يرافقه في رحلة الإحتجاج والتصحيح، وأخذ يصيح ويتشنج: مات الزبيري، قتل الرجل الذي وهب حياته للشعب. أما القاتلان المجرمان وهما درهم بن حمود الفلاحي من ذو حسين وحسن محمد الشتوي جار لذو حسين، وقد تبين أنهما كانا يترصدانه من قبل شهرين وكان تحذير من حذره مخلصًا غير مدفوع بغرض، كان المجرمان قد تحصنا في بيت من بيوت القرية وهي بيوت كبيرة ولكنها قفراء من السكان. وقد وقفنا بجانب الجثمان سويعة كان في إمكان المجرمين أن يلحقانا به، ولكنهما لم يفعلا. لقد أخذا الثمن على واحد وحسبهما هو. ومع ذلك فقد جاء مشائخ القبيلة وأخذونا إلى ظل بيت بعيدًا عن مرمى القاتلين، وتوافدوا كالمعتذرين يكسرون أجهزتهم (أغماد خناجرهم) ويقصون لحاهم تعبيرًا عن تعيبهم من الحادث.

وهكذا لم يجد الزبيري وناعوه، وخاصة رفيقه النعمان، وهم يصلون عليه في الجامع الكبير بصنعاء، من أبيات لنعيه بها إلا بيته الشعري:

بحثت عن هبة أحبوك يا وطني

فلم أجد لك إلا قلبيَ الدامي

في الحقيقة مثلت حادثة اغتيال الزبيري نصراً كبيراً للإمامة؛ فقد جردت الثورة من وقودها وجذوتها التي لا تنطفئ، وكذا استعادة استمالة القبائل التي تمثل عمود ووقود الإمامة على الدوام، وبتلك الحادثة، إلى جانب الصراعات الداخلية بين قيادات الثورة المختلفة، وعوامل أخرى سردناها في حلقات سابقة، أضعفت الثورة وقوت جانب الإمامة والتي دفعها إلى ضرب حصار محكم على صنعاء؛ عاصمة الجمهورية والثورة، وكادت أن تقضي عليها وتنجح الثورة المضادة لولا إصرار وصمود وثبات الضباط الصغار كعبدالرقيب عبدالوهاب ورفقائه الأبطال، وكذا نجدة صنعاء من قبل قبائل البيضاء والمناطق الوسطى وتعز وإب، بقيادة العواضي والمخلافي وعبدالغني مطهر ومحمد سعيد أنعم والأسودي وغيرهم.

لم يكن استمالة القبائل لصفوف الجمهورية بالأمر السهل نظراً للعوامل التاريخية المذكورة، وتحت إغراء الأموال الإمامية الطائلة التي جعلت القبيلي يلعب دورين متناقضين في وقت واحد؛ جمهوري في النهار وإمامي في الليل، ولكن مهما يكن من أمر، حتى وإن ذهب بعض القبائل فيما بعد لصفوف الإمامة، وما قاله البردوني عن عدم دراية كاملة من الزبيري بوضع القبائل وتحولاتها، إلا أنه من الإجحاف نسف كل تلك الجهود، خاصة وأن البعض الآخر ظل مع الجمهورية نتيجة لها، على الرغم من فتور استكمال مشوار الزبيري معها ممن جاء بعده. 

وبسبب سياسة السلال الصدامية مع رجال تيار مؤتمر خمر وعمران (الإرياني والنعمان والأحمر)، وقيامه بتسريح ضباط كبار من الجيش، وانشقاق ونزوح آخرين، وإعلان السلال أولئك الزعماء انقلابيين متمردين سيخضعون للمحاكمة، عادت القبائل مجدداً وسحبت دعمها من السلال، وظلت بين الجمهورية والإمامية، وهذا يكشف حكمة الزبيري في استمالتها.

وتنفس العسكريون ايضاً الصعداء لإزاحة رأس المعارضة في حينه، الذي يطالب بنقل الحكم إلى سلطة مدنية، بعيداً عن العسكر، وفي الحقيقة في مثل ظروفنا لما تمثله ثورة السادس والعشرين من سبتمبر من نقلة تاريخية كبيرة لثورة الألف عام فقد كان من صالح الثورة والشعب أن يظل الحكم عسكرياً لوجود الثورة المضادة والمهددات المختلفة لها، ولكن برؤية واضحة وعدالة حازمة، وقرار واحد وغير مصادر، وهذا ما افتقدته القيادة حينذاك، وعلى الرغم من انتقال الحكم إلى رئيس مدني بعد إزاحة السلال، وهو القاضي عبدالرحمن الإرياني، إلا أنه ظل صورياً، وكان العمري وضباط آخرون هم من يسيرون الإرياني ويسيطرون عليه، وبالتالي لم ينتقل إلى سلطة مدنية فعلية، ليعيده المقدم إبراهيم الحمدي بعدهم إلى سلطة العسكر مجدداً.