الأسوأ لم يحدث بعد
بقلم/ د.مروان الغفوري
نشر منذ: 10 سنوات و شهر و 16 يوماً
الخميس 09 أكتوبر-تشرين الأول 2014 09:04 ص

بدا بن مبارك حزيناً ومكروباً وهو يقدّم اعتذاره عن منصب رئيس الوزراء. بالنسبة لبن مبارك فإن إجباره على ذلك هو خذلان للرئيس، سيندم عليه اليمنيّون زمناً. في الأيام التي سقطت فيها صنعاء لم يكتب بن مبارك نواحاً كما فعل الآن. لم يقل إن اليمنيّين سيندمون.

في بيان اعتذاره أشار إلى القوى المختطفة إقليميّاً، يقصد الحوثيين. قال إنه كان "طرفاً أصيلاً مطلعاً على كل الخبايا والمطالبات التي يحضر فيها كل شيء إلا الوطن وأحلام البسطاء من أبنائه". نعى القوى السياسيّة، أيضاً، ثم قال إنه يبكي الآن. بن مبارك شخص أنيق لم يشترك معنا في البكاء عندما سقطت صنعاء، ومعها كل اليمن، في يد الميليشيا. رأى أنه من المناسب له أن يبكي عندما تختار الميليشيا شخصاً آخر غيره يصلح كورق سلوفان.

قبل يومين كنتُ أتحدّث تلفونياً إلى سياسي يمني يتواجد في القاهرة. أطلعني بشكل سريع على سير عملية التفاوض فيما يخص رئيس الوزراء، كما قال إن السفينة سترسو على بن مبارك. سألته عن موقف بن مبارك قال إنه هنا في القاهرة، اليوم، مع مجموعة كبيرة من القيادات الجنوبية للتحضير للاحتفال بعيد 14 أكتوبر في الجنوب، وأنه سيعود مساء إلى صنعاء. سألته عن تخيلاته لذلك اليوم قال إنه لا يعرف لكنه يتوقع أموراً سيئة. قال إن الأمر لم يعد مجرّد هواجس، فقد التقى علي ناصر محمد قبل فترة ليست بالبعيدة في بيروت، فساعده الرجل على تخيّل المشهد الجنوبي بشكل أكثر وضوحاً. وفقاً لمرويات علي ناصر محمد فقد التقى وزير الدفاع "محمد ناصر" بمسؤولين إماراتيين مع نهاية العام 2011 في أثيوبيا. شرح الوزير للإماراتيين فكرة الدولة المستقلة بجمل قصيرة "الجماعة يتقاتلوا في صنعاء ومشغولين، هاتوا لنا 500 مليون دولار ونستعيد دولتنا في الجنوب". لم يتحمس الإماراتيّون للفكرة.

الرئيس هادي عمل كل الأمور التي تجعل من "صراع الجماعة في صنعاء" لانهائيّاً. حرك منطقتين عسكريتين مسنودتين بالطيران لمحاربة القاعدة في "قرى شبوة" وطلب من الجيش التزام الحياد في صنعاء. مؤخراً تحدث واحد من القيادات السياسية الرفيعة للحوثي عن لقاء جمعه بهادي مع زميلين له. قال إن هادي نصحهم بالاحتفاظ بجامعة الإيمان ضمن أملاكهم، وأنه حرضهم ضد حزب الإصلاح، بالرغم من أنهم التقوه لمناقشة أمور لا علاقة لها بذلك. كان هادي قد فكك الحراك، وأقصى الاشتراكي وجلب أسوأ الإعلاميين، وجاء بضباط للجيش على شاكلة لبوزة، قائد المنطقة الخامسة. استحضر لبوزة مسلحي الحوثي لقمع جنود المنطقة الخامسة، كما نقلت صحيفة المصدر مؤخراً وكما نقلتُ عن مصادري قبل ذلك بأسبوعين. بنفس الطريقة استحضر هادي الحوثيين لتقويض حزب الإصلاح. بين حركة وأخرى كان ينال من صالح في عملية خداع بسيطة هدفها طمس جرائمه.

لا يوجد في كل هذا ما يدل على أن الرجل يملك خيالاً. كما لا يوجد في كل الركام الذي خلفه هادي خلفه ما يعكس "مقدار حبّه لهذا الشعب" طبقاً لتعبير بن مبارك.

أمران آخران في بيان بن مبارك. قال إنه كان مرشّحاً للحراك الجنوبي. في مدونة الرجل، وسيرته، لا توجد أي إشارة للحراك الجنوبي. كان رجلاً مثابراً على الدوام، ذا طموح، يستعد للعمل في أسوأ الظروف. كان نفعيّاً بامتياز، علمته دراساته في الإدارة كيف يتكيّف في الطقوس الشديدة. خاصية التكيّف المرن التي تمتع بها بن مبارك جعلته أحادي البعد، مسطّحاً، بلا مواقف سياسي. أي: تكنوقراط. من أبرز ملامح التكنوقراط أنها شريحة تستمر في الحياة عندما يدخل الآخرون السجون، لأنها تتكيّف، ولا تغضب. قال هادي لباتيس، وفقاً لرواية الأخير عبر صفحته على الفيس بوك، أن بن مبارك انطبقت عليه الشروط. ضمن الشروط التي نوقشت ألا يكون للشخص ولاء سياسي محّدد. الحراك الجنوبي جهة سياسيّة أيضاً، وليست نادياً للغولف. الرجلان لا يقولان الحقيقة، فلم يكن بن مبارك مرشّح الحراك الجنوبي، ولا هو انطبقت عليه الشروط.

استخدم بن مبارك كلمة "دمية" لإبعادها عن هادي. لكن هادي دُمية، وهذه صفة يصعب إزالتها إلا عبر تقنيّة واحدة: نسف كل ما فعله الرجل خلال الأعوام الثلاثة الماضية ودفنه في الفلاة. بين كل جملة وأخرى اتّجه هاجم بن مبارك الحوثيين دون ذكر اسم الحركة. قال إن عليهم أن يثبتوا ولاءهم لهذا الوطن وترابه. عاد بن مبارك لتذكير الحوثيين بدفاعه عن "اتهامهم بالعمالة للخارج" منذ ال 2011. الآن يتوجه بن مبارك بصورة مباشرة إلى الحوثيين ويتهمهم بالعمال للخارج، فقط عندما وقفوا ضد أن يكون رئيساً للوزراء. قبل عام من الآن كان الحوثيون يطرحون اسم بن مبارك كرئيسٍ للوزراء. لم يعُد جزءً من لعبتهم الآن. أما هو فقد اكتشف للتو أنهم مختطفون لقوى إقليمية!

العملية السياسية مشلولة كلّياً. هناك مساومات، ومكائد، وهذه أمور لا علاقة لها بالسياسة. خارج هذه المساومات يجري فريقان بأقصى سرعة: الحوثي لاستكمال تطويق الشمال، والقيادات الجنوبية لاستكمال تطويق الجنوب.

سقط الآن عدد من القتلى في صنعاء. ربما كانت القاعدة هي الفاعل، أو آخرون. لدى الحوثي الكثير من الأعداء. لم يصنع أعداءً وحسب، بل ضحايا وجماعات ثأر. الحوثي، أيضاً، قائد ميليشيا بلا مرجعية أخلاقية. يملك النفسية المناسبة لارتكاب جرائم بلا حصر حتى ضد نفسه. هو شخصية قريبة من نفسية "ماكبث" التي جسّدها شكسبير في مسرحية بالعنوان نفسه. ينتصر، ثم يصاب بالبارانويا، جنون الارتياب، وهوس الاستحواذ والسيطرة. قتل أصدقاءه ثم زوجته. قتل كل فريقه، مطارداً بالشك والارتياب، والرغبة في أن يصبح هو كل الأشياء. ها نحن نعتاد على الدم اليمني، وعلى البؤس اليمني، وعلى شروط اللعبة القذرة التي تجري.

كنت من الذين رأوا أن بن مبارك مؤهلاً للمنصب، ليس لأنه يحمل درجة الدكتوراه بل لأنه فهلوي بما يكفي لنيل منصب رفيع في أسوأ دولة في العالم الثالث. لكن اعتراض الحوثيين حسم الأمر، فهم الحاكم الفعلي لليمن، يملكون الحق الكامل في أن يختاروا عمّالهم وموظفيهم. سيكون الرئيس هادي رئيساً ما دام يستمع إلى الأوامر جيّداً ويعيها. إذا تحرّك خارج القضبان سيذكره الحوثيون إنه بلا شرعية. لا مانع لدى عبد الملك من أن يكون هادي دمية، لكن عليه أن يكون دمية مفتاحها محلّي. آلت اليمن إلى الحوثيين، وسقطت كل المحافظات بصورة غير مباشرة بعد أن سيطر الحوثيون على نخب "الأطراف" في صنعاء، النخب المالية والسياسية والحزبية والثقافية والاجتماعية. في دولة شديدة المركزية، تعيش أطرافها حالة صحراوية من البؤس، غير قادة على إنتاج الوظائف ولا صناعة المال تصبح العاصمة هي الشريان الوحيد الذي يضمن الحد الأدنى من شروط الحياة للأطراف. سقط الشريان في يد الحوثي. لذا فهو الحاكم الفعلي، والوحيد، وهو الملك والرئيس ورئيس الوزراء ووزير الداخلية، هو الديموقراطية، والعملية السياسية واتفاق السلم والشراكة، هو الحاضر كله، هو المستقبل بكل تجلياته، هو الذي ورث كل ركام الماضي وعليه أن يتدبّره بطريقته.

القتلى الذين سقطوا في صنعاء هم جريمة جديدة للحوثي، فهو الذي يسيطر أمنياً على صنعاء، وعلى أجهزة استخباراتها، على تلفوناتها، وعلى مداخلها ومخارجها. إذا كانت هناك من تهمة ستوجه إلى صالح فالأخير شريك للحوثي. أما إذا كانت القاعدة هي الفاعل فلا جديد في الأمر سوى أن الحوثي يفرض شروطاً أمنية جديدة في صنعاء لا ترقى سوى لحصار بيوت أرامل السياسيين، ومداهمة غرف النوم. سقط قتلى جدد ضمن سلسلة ميلانخولية ممتدة لعشرات السنين، كان فيها اليمنيّون على الدوام مجرّد "أفراد عايتعوضوا" كما في خطاب لصالح أمام الجيش بعد انتهاء الحرب السادسة.

هذه ليست النتيجة المباشرة للثورة، ثورة 2011. بل دلائل تاريخية باهظة الثمن وفادحة المعنى على أن الثورة كانت ضرورية للغاية، وأنها كانت المخرج الوحيد للهروب من المغارة. فالذين ينشرون الموت والجوع والقتل والعري والعهر والخوف والعاهات، والسرطان، ليسو شباب الثورة، بل القوى التي كانت قائمة كاملة البنيان عشية الـ 11 من فبراير 2011. لقد اختبئوا بعد ذلك في جحورِهم. حتى عبد الملك الحوثي، أكثر رجل في اليمن تسبب في سقوط القتلى، أصبح رجلاً صالحاً.

وها قد عادوا ليخونوا اليمن مرّة أخرى.

غير أن الأسوأ لم يحدث بعد.