منى نجيب رائدة القصيدة النثرية في اليمن
بقلم/ د.عبدالمنعم الشيباني
نشر منذ: 15 سنة و 8 أشهر و 9 أيام
الأربعاء 18 مارس - آذار 2009 04:31 م

" بين الشقوق.. ثمة حياة " لـ منى نجيب محمد : قصة نملة من الكوميديا السوداء

قرأت كثيراً شعر ما يسمى " القصيدة النثرية" وممن قرأت لهم علي المُقري ومحمد عبد الوهاب الشيباني ومن الشباب الشعراء ريان نجيب ورمزي الخالدي.. سألتُ الدكتور الناقد عبد الحميد الحسامي ( الناقد الذي يشبه القط) عن رأيه في القصيدة النثرية فأجاب قائلاً: ((أما ما يسمى بقصيدة النثر فهو موضوع آخر يجسد ما يسميه بعض النقاد بالمرحلة الثانية من مراحل الحداثة الشعرية العربية بعد مرحلة الأربعينيات المتجسدة بحداثة الشعر الحر إذ جاءت دعوات على يد أنسي الحاج وأدونيس وغيرهما من المتعصبين لفكرة قصيدة النثر ولا شك في أن قصيدة النثر التي ظهرت في فرنسا خصوصاً وكتبت عنها سوزان برنار في كتابها قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا كانت مدعاة لأن يتسابق هؤلاء في اقتباس مقولاتها والتبشير بها على أنها آرائهم الجديدة وقد كتب الشاعر العراقي سامي مهدي كتابه ( أفق الحداثة وحداثة النمط – قراءة في مجلة شعر ) وجلى فيه كل اقتباسات أدونيس وأرجعها إلى مصادرها الأساسية لدى سوزان برنار وأكد بالنصوص الواضحة والقطعية اختزال واختلاس أدونيس لهذه الآراء بمعنى أنها أي قصيدة النثر تنظيرياً وإبداعياً لم تكن نابعة من صميم الحاجة الإبداعية التي تقتضيها الذات العربية في تحولها المعاصر بل كانت مجتلبة من الآخر الغربي ونحن لا نعارض أن تكون هناك قصيدة بشكل من الأشكال لكننا نعارض إقحام أي شيء من خارج الذات ومحاولة فرضه قسراً على الذائقة العربية مدعوماً بتوجهات مراكز معينة ، إننا ندعو إلى أن يترك الإبداع نهراً يشق طريقه بنفسه كما شق طريقه في الأندلس وكتب الموشحات الأندلسية لحاجة إبداعية اقتضتها التحولات الذائقة ولم تفرض من خارجها ـ إن كثيرا من النقاد يرون أن قصيدة النثر لم تتخلق في صلب التجربة الإبداعية العربية ـ وأنها تشبه أطفال الأنابيب ، وهذا هو السر الذي جعل قصيدة النثر تتعثر منذ خمسين عاماً ولم تستطع أن تقوم على ساقيها)).

بين الشقوق .. ثمة حياة

النص

لعلي سأتفرغ لكتابة مذكرات نملة..

تكيّفتْ ورائحة المبيدات الحشرية..

خلقتْ علاقة بينها وبين الحائط الذي تصعده كل يوم..

وسّعتْ الشِّق الذي تدخل وتخرج منه بخطواتها السريعة..

عرفتْ أين تجد الخُبز المُهمَل..

والبسكويت منتهي الصلاحية..

وعلبة عصير التفاح المثقوبة..

طوّرت قرون استشعارها لتعرف أين خبّأ الناس قوارير العسل..

وأين يجمعون علب المرطبات الفارغة..

سأكتبُ عن شجاعتها وحسها الاستكشافي الجريء ..

فلم تعد تخش أقدامهم..

سأكتبُ عن ضرب النمل الباقيين لها في صغرها..

ورفضهم اللعب معها..

وتركها وحيدةً تجوبُ أرجاءَ المطابخ..

عن بذرةِ الرمان التي حملتها وحدها و لعبتْ بها مع حائطٍ كتبوا عليه " ممنوع الاقتراب أو التصوير "..

سأكتبُ عن مراهقتها كيف كانت خاوية..

وأن رسالة الحب الوحيدة التي تسلمتها كانت من نملةٍ انتحرتْ مقلوبةً وملتفةً حول نفسها..

سأكتبُ عن محاولتها الانتحار هي أيضاً..

عن تسلقها جدران العمائر الشاهقة..لتقفز دون أن يصيبها شيء..

سأكتبُ عن حلمها أن تتحول إلى فراشةٍ أو نحلة..

عن توبيخ والدها لها حينما تأخرتْ بالعودة مساءً..

وعن نصائح أمها لها بألاّ تعبث بيدها تحت ملابسها الداخلية..

سأكتبُ عن أول حبٍ لها وقد كان نملةً أيضاً.. ولكن من نوع آخر..

سأكتبُ عن بكائها كل مساءٍ حينما حمل آخر كسرةِ خبزٍ و رحل إلى مستعمرةٍ أخرى..

عن دموعها الكثيرة بعده ..التي أغرقتْ بيوض النمل الباقيين..

سأكتبُ عن إعلانها العصيان و حقيبتها التي حملتها على ظهرها وغادرت وحيدة إلاّ منها ..

سأكتبُ .. عن آخرِ نعلٍ دهسها ولم تعش بعدها.."

*********

بين أيدينا نصٌ شعريٌ من ضرب القصيدة النثرية لشاعرة يمنية شابة منى نجيب محمد،شاعرة رابطة جدل الأدبية اليمنية ، وعنوان النص ( بين الشقوق .. ثمة حياة) .. قرأت النص عشرين مرةً على الأقل أحسستُ أن الشاعرة سبقت الدكتور الحسامي في مبررات وجود القصيدة النثرية.. وبعبارة أوضح ليس النص من نوع ( نصوص الأنابيب ) ولا ( نصوص كيكوز – نيدو تقليد)، للنص النثري المشار إليه حاجة تاريخية وضرورة اجتماعية ولهذا أجبرني أن أقول أنه نصٌ مكتمل الولادة، طبيعيُ الإرادة والإبداع، نصٌ مكافحٌ قادرٌ أن يقف بثقةِ على قدميه وهذا يدعم رأي الناقد الحسامي الذي يرى أن التطور الأدبي لا يأتي من غير ضرورة ماسةِ أو حاجةِ حقيقية تبرره وضرب لنا مثلاً بالموشحات الأندلسية التي جاءت تطوراً طبيعياً للبيئة الأندلسية..

" النسوية" صوت شعري جديد من اليمن

FEMINISM

دعوني- ومن غير مجاملات- أقول هذا النص للشاعرة منى نجيب محمد يضاف إلى أبرز النصوص النسوية القوية تحت لافتة مفهوم " النسوية"

وهي حركة إجتماعية وأدبية عالمية ظهرت في الغرب وصار لها صدىً في الشرق.. والفكرة العامة لهذا المفهوم حشد كل الآراء والنصوص والأعمال الداعية إلى حق المرأة في التعبير عن نفسها..، ولا أتفق كثيراً مع آراء غربية وافدة علينا وعلى ثقافتنا لكني مع كل نص جميل وعمل إبداعي يعبر عن الأنثى .. ومن هنا أرى أن النص ( بين الشقوق .. ثمة حياة) من أجمل النصوص المنثورة للقصيدة الجديدة التي قرأتها، وقد قرأت كثيراً مما كتبته الدكتورة والشاعرة الأميرة سعاد الصباح- من أهم الأصوات النسوية في الوطن العربي –ووجدت أن منى نجيب محمد في هذا النص تضاهي سعاد الصباح تعبيراً نثرياً أو شعرياً عن الأنثى..

قصة نملة

خلد القرآن الكريم نملة: (( قالت نملةٌ يا أيها النملُ ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمانُ وجنودُه وهم لا يشعرون)) سورة النمل ..

يروي النص ( بين الشقوق ..ثمة حياة) مذكرات نملة ، والنملة تضر ب مثلاً للناس بكفاحها وحكمتها وعملها الدؤوب من غير استسلامِ أويأس.. من مذكرات النملة في النص- كما تروي الشاعرة ( راوية القصة) نتعلم أنها مكافحة من خلال جملة من الأفعال :

تكيفتْ ورائحة المبيدات الحشرية..

خلقتْ علاقة بينها وبين الحائط الذي تصعده كل يوم..

وسًعتْ الشق الذي تدخل وتخرج منه بخطواتها السريعة..

عرفتْ أين تجد الخبز المهمل

والبسكويت منتهي الصلاحية

وعلبة عصير التفاح المثقوبة...

طوًرتْ قرون استشعارها لتعرف أين خبأ الناس قوارير العسل وأين يجمعون علب المرطبات الفارغة...

الراوية في النص تروي قصصاً عجباً عن شجاعة النملة وكفاحها حتى الوصول إلى غاياتها فيأخذك الإعجاب بكفاحها وشجاعتها ثم تجعلك تسكب شعور التعاطف معها لما تواجهه من مشقة وعنت في المحيط من حولها وغربتها في( مملكة النمل الإجتماعية) ومقاطعة بعض النمل لها .

التحول من صيغة الماضي إلى المستقبل

وللغة دورها الأساسي في النص وهو دور المترجم للتجربة ( تجربة النملة)..، لا حظوا عبارة ( سأكتب عن ...) تكررت في النص ثمان مرات والغرض إعطاء أهمية في الرتبة لمن ستكتب عنها راوية النص( الشاعرة) وبطلة النص هي ( النملة المكافحة) .. وفي صدر القصيدة كانت صيغة الفعل الماضي هي المسيطرة(( تكيفتْ.....خلقتْ....وسًعتْ....عرفتْ....طورتْ...)) والآن حدث تحول إلى صيغة ما يستقبل به من الزمان.(( سأكتب ....)) ..، قصة النملة التي بدأت في الماضي لماً تنته بعد ولن تنتهي بانتهاء " دهس آخر نعلٍ لها" وستظل قصة كفاحها وأحلامها دورةً تاريخيةً مستمرةً من الماضي الى المستقبل ثم تعود دورة التاريخ وهكذا من غير نهاية زمنية ، ستظل قصتها ومذكراتها حديث الماضي والحاضر والمستقبل من غير نهاية ...

التكرار في النص موفق ومفيد

كأن الراوية تقول لنا بفصيح العبارة :

سأكتب عن قصة كفاح النملة..

سأكتب عن جرأة وشجاعة النملة..

سأكتب عن أحلام النملة..

سأكتب عن دموع النملة..

سأكتب عن النهاية الحزينة للنملة..

مشهد درامي مصور من نوع الكوميديا السوداء

أنت أمام مشهد درامي مصور لسيرة النملة المتمردة (شجاعة،كفاح،جرأة،دموع،أحلام،تمرد،ثم نهاية حزينة)....يتدرج النص معنا بالعواطف تجاه النملة تدرجاً درامياً، إعجاباً بكفاحها وجرأتها ثم تضامناً معها في محنتها، ثم مباركةً منا لأحلامها وآمالها، ثم مشاطرةً لدموعها المسفوحة ثم تقديراً لتمردها وأخيراً أسفاً على نهايتها المأساوية تدرجاً عاطفياً مصحوباً بتدرجِ لغويِ منسجمِ وغير منبت ولا منقطع ولا منفصم ، نصٌ يروي قصة النملة ( قصة شعرية) من أولها إلى آخرها....

إبداعية النص- من و جهة نظري قارئاً ناقداً أو متذوقاً- في شكله البنائي ومحتواه الساخر والتراجيدي الكوميدي في آنِ واحد ، حيث نجح النص في كسب تأييد الجمهور لقضية " النملة" ، النملة التي ناضلت حتى آخر " دهسةٍ"..، مشاهد القصة الشعرية متسلسلة بشكل منطقي ودرامي ،وهي من نوع " الكوميديا السوداء " اتجاه جديد في النقد يقول ليس دائماً معنى الكوميديا أن تضحك بل يجعلك أحياناً تبكي ، ومعنى آخر للكوميديا يقول " هي التفاؤل والأمل والإقبال على الحياة وبهجتها وكيف تكون إيجابياً في الحياة"....

*******

** شاعرٌ وناقد يمني

Abdulmonim2004@yahoo.com