مع نبيل الصوفي، حول الاستقالة والحزب الجديد
بقلم/ د.مروان الغفوري
نشر منذ: 15 سنة و 9 أشهر و 8 أيام
السبت 14 فبراير-شباط 2009 06:57 م

استسلم البحّارة، في أعالي المحيط، لأقدارِهم.. إنه التيه، لا مفرّ. قالوا لأنفسهم. فجأةً يصرخ أحدُهم في الأعلى، حيثُ قمّة السارية: اليابسة.. اليابسة. وتكتشف المصادفة، أو قُل: المغامرة الجديدة، العالمَ الجديد، أميركا. يحتشد الهنوُد الحُمر بالنايات والحِراب لاستقبال هذا المخلّص، وهم يغنّون: طلع البدرعلينا.. ففي كل أرض سائمة، يوجد دائماً مخلص غائب. هناك دائماً نبوءة، وسرداب، وعلامات كثيرة عن قرب وصول المخلص، المنتظر. وهناك أناس متحفّزون: سيطلع قريباً، وسنتّبعه ثم لن نلبث أن نقتلكم قتل عادٍ وإرم!

وهكذا، ففي أقل من مئتي عام يقضي هذا البدر، كما في كل حكاية، على أكثر من تسعة ملايين من مواطني هذه الدنيا الجديدة، الذين انتظروه على الطرف القصي من السرداب، أو في أعالي الفنارات والنخيل!

 ربما ليس لهذا التداعي أي معنى فيما أنا بصدده. أو قد تتقاطع الحكايتان في مركز ضئيل: المخلّص.. في هذه الساعة الكونية المهولة التي شهِدت سقوط المركِز، وولجت الكائنات في أتون المعركة الهوبزيّة بشراسة قليلة المثال في التاريخ. حيثُ يصبحُ فيها كل فردٍ ذئباً لأخيه، كما خمّن هوبز.

 تابعتُ موضوع استقالة الأخ نبيل الصوفي، محرّر صحيفة الصحوة سابقاً، من حزب الإصلاح. فقد جاءت هذه الاستقالة عبر رسالة قدّمها الصوفي إلى الأمين العام للحزب المعارض الكبير، بعد سنتين من وجود الأخ نبيل عضواً في لجنة متابعة برنامج الأخ رئيس الجمهورية. تحديداً: بعد انحياز العضو المستقيل لتوّه لاختيارات خصوم حزبه، الذين هم بالضرورة خصومٌ مؤكّدون – بالمعنى السياسي والثقافي- لاختياراته التكتيكية والاستراتيجية.. وإلا فإن انتماءه السياسي لحزب الإصلاح سيصبح بلا معنى، أو في حكم اللاغي. بلغة أكثر تهذيباً: سيكون اختياراً فوضويّاً وعصبيّاً. هذه الملاحظة ربما تتقاطع مع ملاحظة للأخ منصور راجح، تحاول التأكيد على أن نبيل الصوفي يقدّم برنامجه الجديد كـ" حانق، زعلان" من حزبه القديم، وحسب. بالإمكان البناء على هذه الملاحظة، وهذا بدوره قد يفضي إلى نتائج مريعة، بيد أنّي لا أميل إليها كثيراً. لذا، فمن الأفضل تركها كما هي.

 في اللحظة ذاتها، أعني الاستقالة، أطلق الصوفي سؤالاً كبيراً حول ممكنات تقديم الجديد في فضاء السياسة اليمني بعيداً عن نار المؤتمر وثلاجة الإصلاح، طبقاً لما طرحَه. انطلق نبيل من منطقة جوهرية تقول أن كل شيء في اليمن أصابه البِلى، وأن المياه الراكِدة تحرّكها الأحجار الكبيرة، لا الأحجار الصغيرة. وفي لحظة صوفيّة بامتياز، تسند مقولة لكل امرئ من اسمه نصيب، تحدّث الصوفي عن أولئك اليمنيين الذين يعيشون بالطريقة ذاتها، ويأكلون الصنف ذاته، ويلبسون القطعة ذاتها، حتى أصبحوا شبيهين بنسخة واحِدة؛ وعزّز إصراره القديم على مناهضة "الأحادية الثقافية والاجتماعية" أو " سلطة الأنساق" بمقترحه الجديد. 

وهكذا فإن الحجرة الكبيرة في هذه البحيرة الساكنة، طبقاً لنبيل الصوفي، هي "حزب جديد". كنتُ منذ أيام أتابع موقفاً ذا شبه شكلاني بموقف نبيل، عبر صحيفة المصري اليوم. فقد أطلق جمال البنا آخر مقترحاته للخروج من حالة سياسية شبيهة بالحالة اليمنية، عبر حزب جديد: الحزب الديموقراطي الاشتراكي الإسلامي هو الحل. وبمناسبة احتفاله بعامه الـ 88، فقد أفاض عبر أربع حلقات حول ممكنات نجاح هذا الحزب.. إلى آخره. مع البنا، أتصوّرأننا أمام مقترح يمكن التعامل معه في الحالة المصريّة، لو أراد المصريون إنجاز تحول سياسي واقعي بعيداً عن العيش في " البُرديّات". الحالة اليمنية تشهد بالفعل تجمّعاً سياسيّاً، اللقاء المشترك، ينجز جزءاً ما – على النطاق البرامجي الآني، على الأقل- من مقترح البنا. دعونا في مقترح اليمني، المثقف نبيل الصوفي..

 لكي ينجو نبيل من لعنة التشابه مع السائد، والمعاش، وهو هاجس أصيل لدى النبيل الصوفي يكمن إلى حد بعيد وراء تميّزه، فقد كان مقترحه أن ينحو الحزبُ، المقترح، باتّجاه التنمية، والقضايا التحتيّة. أي أننا إمام إعلان بضرورة تجاوز المقولات العالية، أو عدم الاكتراث لها، عبر مقولة سنكتشف فيما بعد أنها أيضاً عالية، بالمعكوس.

 بيد أننا، بهذا الإعلان، سنواجه حزباً على نسق جمعية، أو اتّحاد، أو نقابة. في الواقع، فإن الحزب في أسوأ حالاته سيضم مجموعة من الشعراء وشباب الكتاب، و"قُرّاء" الروايات.. أي أنه سيدخل باكراً في الحالة المصريّة. أعني تكدّس النخبة/ الإنتلجنسيا في بهو مقرّ فسيح، مثل حزب التجمع التقدّمي، في مصر. وفي أحسن حالاته سيكون شبيهاً بحزب الخضر، الذي يعنى بقضايا البيئة ويعتقد أن حل المسألة البيئية سيفضي إلى التعامل الجذري مع كل قضايا الجنس البشري.. أو جمعية صنّاع الحياة، التابعة لعمرو خالد.. وما بينهما سيشبه: إما منظمة مجتمع مدني – ولدينا في اليمن حوالي 5400 منظمة حاصلة على تصريح رسمي. أو حزباً من تلك الأحزاب التي يوجد لدينا منها الآن أكثر من 23 عنواناً في هيئة شؤون الأحزاب. وللتذكير، فإن اليمن سجّل في لحظة من لحظات هروبه من الملل الذي وصل لتوّه إلى الأخ نبيل.. 42 حزباً. وكانت النتيجة أن اليمنيين الذين لبسوا بالطريقة نفسها وحلموا بالطريقة نفسها.. ذهبوا يصطادون، فعادوا بأحزاب " بزرميط". وهكذا، فإنهم في التحوّل الديموقراطي ظلوا يتشابهون تماماً، كما كانوا يفعلون في فترة سيادة مقولات: الحزبية محرّمة سواء في ثياب شيطان أو قرآن! هل تتذكرون ذلك الجدل الذي أثير إبّان الانتخابات الرئاسية الأخيرة؟ أعني حول سرقة معدي برنامج مرشّح المؤتمر من مسوّدة برنامج مرشح المعارضة؟ إنها عقيدة الاستنساخ، والتشابه، منذ أيام عبد يغوث، وهو يقول للمرأة العبد شمسية: كأن لم ترَ قبلي أسيراً يمانياً.. وإلى الأبعد.. إلى أبعد بقعة ظلام في بلدنا الأشعث!

يبدو، إذن، أن نبيل الصوفي بصدد تحريك المياه الراكِدة باستخدام تلك الأحجار التي توقّف الناس عن استخدامها في اليمن، أو لا يزالون يستخدمونها على نحو متكرّر.

 ولكي لا نتجاوز الإشارة التي طرحناها في البداية، فمن المناسِب أن نعود إلى المربع رقم واحِد، لأنها تستحق التعامل الجاد معها.. فقد تم تعيين نبيل الصوفي ضمن لجنة مهمتها متابعة إنجاز برنامج الرئيس. قبِل الصوفي هذا العرض عن طيب خاطر، ولا يبدو أنه وجدَ فيه ما يتعارض وقواعِد العمل السياسي والحزبي. مثلاً: أن تكون عضواً في حزبِ كبير خرج مهزوماً للتو من منافسة شرسة على الكرسي الأول في البلاد، ثم عقب الانتخابات مباشرة فإنك تقبل الدخول ضمن فريق إنجاز برنامج الخصم. بالطبع، لا يمكن أن نعتبر مثل هذا السلوك إحدى تنويعات التسامح، التي من المتوقّع أن تمتلئ بها مسوّدات الحزب الجديد.. أو أنها ضربٌ من التسامي الأسطوري على غرار علاج ريتشارد قلب الأسد عبر أطباء صلاح الدّين. لقد كان الأمر يعني بوضوح شديد: إن الصوفي قد قدّم إخلاء طرف من حزبه الكبير، وغادرَه منذ زمن. فلماذا قدّم الصوفي، الآن، استقالة درامية من حزبه الذي سبق له الاستقالة منه عمليّاً؟ دعونا لا نغرَق في تلك المدائح التي تقول: لم يعهد اليمنيّون ممارسة حزبية راقية لدرجة تقديم الاستقالات بشكل رسمي؛ وأن هذه الملاحظة قد تفسّر استغراب البعض لموقف نبيل. في الواقع، حتى الأديان لا تطلب من أولئك الذين هجروها أو تخلّوا عنها أي إخلاء طرف. سيبدو التحمّس لفكرة كهذه شكلاً من أشكال التبشير بفضائل "المرشد" الجديد؛ وهو فعل ديماغوغي لا يصنع تحوّلا حقيقيّاً، ولا يبشّر بالمبشرين، ابتداءً.

من جهتي أعتبر الحدث بمجمله فصلاً من الكوميديا السوداء، وهي ذلك الفرع من الفن الذي تضحك معه في البداية، ثم لا تلبث أن تبكي. وهو في الواقع يسحبُ إلى ذاكرتي السيرة الجدلية للمرحوم الحاج أحمد الصباحي، رئيس حزب الأمة، في مصر. فقد دخل منافساً للرئيس مبارك في الانتخابات الأخيرة، وعند الصندوق أعلن عن ترشيحه لخصمه مبارك. ولكي يبدو استثنائيّاًً في سلوكه ووعيه فقد أعلن أمام الكاميرات: أنا الوحيد الذي فهم حقيقة تعديل المادة "76" من الدستور المصري. إن المادة تنص على" المشاركة" في الانتخابات الرئاسية وليس" المنافسة"!

مبدئيّاً، أعترف أني ضد هذا التبسيط؛ لقد خطرت الفكرة لرأس نبيل، وقرّر أن ينطلق بها إلى الأمام. وهكذا، فإنه احتاج إلى منصّة إطلاق، فلم يجد أبرع من قانون قبلي قديم ينص على أنه: إذا أردت أن يصفق الناس لدخولك، أن يكون دخولك دراميّاً، فعليك أن تطلّ عليهم وأنت تركبُ ظهر جمَل. لقد كانت فكرة" إحياء" الاستقالة هي دابة الانطلاق.. هذه مفارقة، أو بارادوكس بحسب الخواجات. أن تعلِن عن مشروعك الحداثي بإصرارك على التوسّل بكل الوسائل القديمة، بما في ذلك الأنماط القبلية في التفكير، لمصلحة تسويق مشروعك. أعني ذلك المشروع الجديد الذي يشبه كل شيءٍ سائد وقديم. انسَ، لأجل الله، حقيقة أن يكون خروجَك الكبير إلى السماء الجديدة قائماً، في الأساس، على سلوك سياسي يشكّك في جدوى مشاركتك هذا المشروع.. عبر ملاحظتين: الأولى أن تصوّرك للعمل السياسي، وعليه ممارستك له، لا يخلو من المكيافيلليه بدليل انقسامك بين حزبك وبرنامج الرئيس. والثانية أنّك تحاول بناء المستقبل بأحجار الماضي. على أيّة حال، فإنّ الملاحظة الثانية هي فكرة فلسفية اعتقد بها ستالين، قبل أكثر من نصف قرنٍ من الزمان. أي أننا أمام أوراق كلها تنتمي إلى الماضي، التقليدي جدّاً. وهذا حديث ليس موجها لشخص صديقي العزيز نبيل الصوفي. نحنُ نتحدث وحسب. وكما قال لي نبيل نفسه، وأنا أكتب هذه المقالة: أياً يكن اتجاه ما تكتبه، دعنا نكُن نحن أداءاً مختلفاً، اتفاقاً واختلافاً.

 هكذا، إذن، سيتحرّك الحشدُ، فيما لو بلغ درجة الحشد وقرّر فعلاً الحركة: الدخول عبر حزب جديد، حصل على موافقة هيئة شؤون الأحزاب، واستقرّ به الحال على مقرّ وصحيفة. دعْك الآن من أهداف الحزب، والجديد الناصع الذي سيقدّمه، فإنّ التحولات – في الغالب- تبتدئ بلينين المتنوّر وتنتهي بستالين الديكتاتور الكلاسيكي، ثم ينتهي المشهد باعتراف حاد: إن هذا التحوّل العبقري أيها الرفاق أصبح الآن في مسيس الحاجة إلى تحوّل. هذه النقطة لا تقع ضمن حديثنا الآن. وهي على كل حال ضربٌ من التنجيم، من السحر الأسود، اليمني الكلاسيكي.

 دعونا نستعرض هذا المشهد المسرحي الصامت: يجتمع عشرة صحفيين في اليمن، ويقررون بحماس فخم إطلاق صحيفة جديدة. بعد شهرين ينقسم الفريق إلى فريقين، يختار أحدهما الانتقال إلى مقرّ جديد، وبالضرورة عبر صحيفة جديدة. بعد عام ونصف ستقول لك الإحصائيات البسيطة: لقد أصبح لدى هؤلاء الرفاق العشرة عشر صحف. هذا المشهد سيتطابق مع مشهد مسرحي، أظنّه لصموئيل بيكيت، يقف فيه جماعة على خشبة المسرح وهم متماسكون، يصرخون: نحنُ، نحنُ، نحنُ. بعد قليل، يتفرّقون لمجموعتين، فثلاث، فأكثر، وكل مجموعة تقول بصوت واحد: نحنُ، نحنُ.. ينتهي المشهد بمجموعة من الأفراد يصرخ كل واحد منهم على نحو مستقل تماماً: نحنُ، نحنُ، نحنُ..

السلوك الذي تمارسه الجماعة الصحفية في اليمن بالإمكان سحبه إلى الجماعة السياسيّة. أي أننا لا نستبعد أن يشعر الجميع بالملل، كما فعل نبيل مع حزبه في الفترة التي تلت إقالته/استقالته من صحيفة الصحوة. أو أن يشتاق الكثيرون إلى القيادة، فتتسرّب العناصر الحزبية وهي تعلن: نحنُ، نحن. هنا قد يمثل الحزب الجديد عنصر إلهام لكثيرين من المختلفين مع التصورات الكلية لأحزابهم، وتكرّ السبحة. ستكون النتيجة: بقاء الأوضاع الكلية في اليمن في أسوأ مصائرها لأن العناصر الفاعلة،المنوط بها مناوأة المتسببين في هذا الضرر الكبير، ذهبوا يستبقون وتركوا يوسف عند متاعهم فأكله الذئب!

 هذا المتخيل هو عين ما حدث مع حزب الوفد المصري. فقد انشق الحزبُ إلى حزبين: وفد أباظة، ووفد نعمان. وقبلهما انشق أيمن نور مشكّلاً حزب الغد. هذا الحزب انشق هو الآخر إلى حزبين وصحيفتين: غد جميلة وغد موسى. وهكذا ظل الحزبان الجديدان، ومعهما الأصلان الكبيران، يتناسلون إلى وحدات أصغر وصولاً إلى الحزب الليبرالي المصري، المكون من 12 فرداً، خرجوا منذ أيام على بكرة أبيهم إلى شوارع مصر للتنديد بحماس والإخوان المسلمين؛ حدث هذا قبل أن يتوجه "كل أعضاء الحزب" إلى مطعم كنتاكي، في ميدان التحرير، لتناول الغداء!

وهكذا يتحوّل كل عنصر حزبي فاعل إلى حزب سياسي، أصبح يحظى بامتياز المقر والصحيفة والتقدير الرسمي! مع كل تقديري للجميع، بيد أني بحقّ آمل أن لا يكون الملل والاكتئاب قد وصل أقصاه، وأن ما نحنُ بصده لا يبعُد كثيراً عن حال شاعرنا الكبير أبي نواس في لحظة ملله بعبث الدولة العباسية، وعنصريتها.. وهكذا فقد استرخى على الشط، غير آبهٍ بأي من الأعاريب، غير عابئٍ بفعال المستقبل: دع عنك لومي فإن اللوم إغراءُ..وداوني بالتي كانت هي الداءُ! 

لا أتصور، بالمطلق، أن مآلات كهذه يمكُن أن تصنع خروجاً للرجال العالقين في أعالي المحيط... إلى "اليابسة". أو حتى أن تشير إليه! 

* نقلاً عن صحيفة المصدر