مذكرات الشيخ عبدالله الأحمر: من الحرب الي السلام ورئاسة اول مجلس وطني (6 ـ 10)

الجمعة 16 نوفمبر-تشرين الثاني 2007 الساعة 06 صباحاً / مأرب برس
عدد القراءات 12298

الشيخ عبدالله الاحمر احد فصول تاريخ اليمن الحديث. فليس بالامكان تقليب صفحات هذا التاريخ دون التوقف عند شخصه، واسرته، وقبيلته، في عهد الإمامة كما في الجمهورية. انه فاعلية سياسية وا جتماعية كبيرة في العهدين.

شيخ مشايخ قبائل حاشد، رئيس مجلس النواب ورئيس حزب التجمع اليمني للاصلاح المعارض، عبدالله بن حسين الاحمر، بلغ الرابعة والسبعين. ورغم تقدم السن، والمرض، فان الشيخ الذي تبندق في الخامسة عشرة، يرفض نزع السلاح ، ويخوض معركة جديدة، لكن هذه المرة مع التاريخ، من خلال مذكراته هذه التي خص القدس العربي بحقوق نشرها.

وهذه المذكرات سيرة رجل، بقدر ما هي سيرة بلد، تعكس شاشتها مرحلة انتقال اليمن من طور خالص الانتماء الي القرون الوسطي، الي طور هجين تتصارع فيه الأزمنة التقليدية والحديثة. وهي بذاتها علامة تحول او تغير: فمذكرات أسلافه كانت روايات شفاهية في الدواوين، بينما تميز عنهم بنقلها الي عصر التدوين .

انها ذكريات غنية بالتاريخ لرجل ينتمي الي أحد أثري البلدان العربية تاريخاً.

حصار السبعين يوماً

منذ قيام الحركة في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) إلي 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 67م ، وأنا شخصياً في عمل متواصل، فقد حملت علي عاتقي العبء الثقيل وهو الترتيبات العسكرية للحفاظ علي صنعاء وعلي الطرق المؤدية إليها ، وكنت قد رافقت آخر قائد مصري راحل عن اليمن وهو القائد عبد القادر حسن إلي ميناء الحديدة، ثم عدت من الحديدة وباشرت العمل من باب الناقة إلي صنعاء بوضع الترتيبات لحماية الطريق وأخذت التعهدات من المشائخ واعتماد معاشات بنظرهم للعسكر من أصحابهم حتي ضمنت هذه الطريق في البداية واطمئننت أني قد نجحت فيها، وإذا بها تختل من بني مطر حيث تنقطع الطريق من سوق بوعان إلي الصباحة، أما من سوق بوعان إلي الحيمة وإلي حراز وإلي الحديدة فقد ظلت الطريق مفتوحة إلي نهاية الحصار.

كان الخلل من بني مطر، وكذلك الحال بالنسبة لطريق تعز فقد أخذنا الضمانات من أجل حمايتها ورتبنا المواقع حتي بدأت الحرب وإذا بالمناطق تتساقط موقعاً تلو آخر كما تتساقط الأوراق، وخذلونا حتي من كنا نثق بهم من قبائل سنحان وبلاد الروس، حيث قطعوا الطريق وحدثت أهم معركة في شعسان وجبل حروة الذي كان أصحابنا ـ حاشد ـ متمركزين فيه، وهو أخطر جبل في جهة خولان بالنسبة لسنحان ونقيل يسلح بالنسبة لبلاد الروس.

دافعنا عن هذه المناطق وقاتل رجالنا فيها باستماتة وسقط فيها شخصيات كبيرة وبارزة.

كما أن السوريين كانوا يشاركون بالطائرات وقاتلوا معنا بأنفسهم وأيضا طيارون روس مع أن السفارة الروسية أغلقت بصنعاء، والمصريون انسحبوا لأنهم رأوا أن صنعاء سوف تسقط، ولم يتبق إلا السفارتان السورية والصينية وهما اللتان ثبتتا معنا داخل صنعاء، بينما انتقل الآخرون إلي تعز، أو غادروا اليمن.

أحداث أغسطس 1968

لم يمض أسبوع تقريباً منذ عودتنا من الحديدة مع الشيخ هادي عيطان والمشائخ الذين انضموا للجمهورية، حتي انفجر الموقف في الداخل بين عبدالرقيب عبد الوهاب رئيس الأركان ومحمد صالح فرحان قائد سلاح المشاة وحمود ناجي قائد المظلات وعلي مثني جبران قائد المدفعية من جهة والفريق حسن العمري القائد العام ومن معه من الجهة الثانية.

وبدأت الشرارة الأولي للمواجهة عندما قام الفريق العمري باعتقال علي مثني جبران قائد المدفعية، وخرجت أنا والقاضي عبدالسلام صبرة إلي المطار الجنوبي الذي أصبح ميدان السبعين حيث كانت ترابط فيه قوات المدفعية لأنني كنت مرابطًا هناك، وكان لا يزال من أصحابنا من حاشد مجموعة قليلة في المطار لطمأنتهم ولنقول لهم إن علي مثني سوف يخرج، وقبل أن أصل إليهم لاأدري من نبهني وقال لي: لا تذهب أنت بل سوف نذهب نحن مع القاضي عبدالسلام صبرة إليهم وأنت انتظر هنا في أسفل المطار، وصلوا إليهم وهم في حالة غضب وتوتر شديدين فلم يخرجوا معهم بنتيجة، بعدها حاول مجاهد ومجموعة من المسؤولين (حسين الدفعي، حسن مكي، ومحسن العيني) وساروا لعبد الرقيب في العرضي وحصل بينهم ما حصل من الخلاف، ولم يخرج مجاهد إلا هرباً من مكتب عبد الرقيب بعد أن قفز من شباك المكتب والآخرون اعتقلوهم. ورجع مجاهد إلي عندي وما وصل إلا وهم يضربون بالمدافع من العرضي وأول ما ضربوا بيتي الذي في الأبهر وبعده بيت عمي سنان أبو لحوم وغيرها من البيوت،كما خربوا بيت القاضي عبد الله اليدومي المجاور لنا ولا يزال إلي الآن .

حزمنا أمورنا بسرعة وجمعنا حاشد المتواجدين في صنعاء وبجانبنا العقيد علي أبو لحوم وأصحابه وشاركوا معنا مشاركة فعالة وجهزناهم ورتبناهم لحماية قصر السلاح والإذاعة وسور صنعاء. وأحمد شايف القديمي ومجموعة استلموا السور والبيوت المجاورة للدائر (السور) في بستان شارب وباب اليمن وغيره إلي السائلة. وبعدها البيوت، بيت زبارة وفندق المخاء، ولم تكن هناك عمارات كثيرة وأرسلنا مجموعة للإذاعة ودارت معركة حامية الوطيس استمرت ثلاثة أيام تقريباً، وإذا بالفريق العمري عندما سمع المدافع يتصل بي هاتفيٌا يطلب وقف الحرب قلت له: لقد قلت لك من قبل تدارك الأمور لا تفجر الموقف معهم.

وكان مما زاد من غضبهم ودفعهم للمواجهة ما وصلهم من العمري عندما كان البعض يقولون له إنهم سوف يفجرون الموقف فكان يرد عليهم مستهزئاً بعبد الرقيب وجماعته قائلاً: لن يفعلوا شيئاً إنهم أضعف وأعجز من أن يعملوا شيئاً وكان يطلق عليهم عبارات بذيئة. قلنا له: أما الآن ليس هناك وقف للحرب يا فندم كان ينبغي عليك أن تتدارك الأمور قبل أما الآن فإن الموقف علينا.

وأثناء الثلاثة الأيام الأولي للحرب تقدم الملكيون المحيطون بصنعاء بقيادة قاسم منصر قبل قصة انضمامه للجمهوريين وهجموا علي جبل نقم من شرق العاصمة فاستنجد بنا الجنود الذين كانوا في جبل نقم من أصحاب عبدالرقيب فتواصلنا بالتلفون مع عبد الرقيب وطلبة الكلية الحربية والتقينا واتفقنا علي وقف الحرب بيننا وإرسال مجموعة للدفاع عن نقم،وهم علي حميد جليدان ومجموعة من حاشد وعبد الرقيب ومجموعة من الصاعقة والمظلات صدوا هجوم الملكيين علي جبل نقم واستمروا في معركتهم مع الملكيين حتي هزموهم وأبعدوهم من جبل نقم عند طلوع الشمس، وبعدها رجع كل إلي موقعه وعادت الحرب بيننا من جديد، وقد قتل في هذه المعركة المؤسفة خلال الثلاثة الأيام أكثر من الذين قتلوا في حصار السبعين بأضعاف مضاعفة، ففي أحد المساجد في صنعاء القديمة قتل اثنان وسبعون رجلاً بدانات الهاون وهم يؤدون صلاة الظهر عندما قصفوا المسجد.

كانت هذه المواجهة بين الجمهوريين واليساريين الذين كانوا يستهدفون اليمن بأكملها وحاولوا قلب نظام الحكم والاستيلاء علي صنعاء لينسقوا مع الجبهة القومية الحاكمة في عدن حيث كان قد مرت سنة علي استقلال الجنوب واستيلاء الجبهة علي الحكم وهناك اتصالات وتنسيق سابق بينهم !! وهذا ما حصل في آب (أغسطس) بإيجاز، حيث كانت الحرب بين القوي اليسارية والجمهوريين وانتصر فيها الصف الجمهوري.

هروب الإمام البدر

بعد أن خسر الملكيون آخر مواقعهم في بعض مناطق سنحان وبلاد الروس عادوا مرة أخري بقيادة الإمام البدر نفسه بعد أن تلقي دعماً وتمويلاً من المملكة علي أساس يحتل مدينة حجة وإذا استعادوا حجة فبإمكانهم أن يستعيدوا المناطق التي خرجوا منها.

خرج البدر ليستقر في المحابشة وتوافد عليه الناس من هنا وهناك وكان الأخ عبد الوهاب الشهاري رحمه الله الذي عمل معي من أول الثورة هو همزة الوصل بيننا وبين تلك المناطق لأن المحابشة منطقته وكان يعلم أيضاً أن البدر من عناصر بيت حميد الدين السلميين وكلنا نفهم هذا. قام بزيارة البدر إلي مقر إقامته فوق المحابشة وقال له: أنا مرسل من الشيخ عبدالله إليك يقول لك أنه يعلم أنك رجل عظيم ورجل سلم فإذا لديك الرغبة بالخروج من اليمن أو أي شيء ترغب فيه فسوف يضمنه لك. فقال البدر: أريد رسالة من القاضي عبد الرحمن الإرياني والتزامًا وعهدًا من الشيخ عبدالله أنهم لا يخدعوني وأريد طائرة تقلني من عبس أقرب منطقة إلي خارج اليمن لكن بصورة سريعة فالناس يدفعوني دفعاً نحو حجة والمناطق المجاورة لها وأنا مضطر للاستجابة لمطالبهم.

جاء عبد الوهاب إلينا وأخذ منا الرسالة والالتزام والعهد وعاد للبدر لكنه لم يصل هناك إلا وقد تحرك البدر نحو حجة فقال له البدر: لقد تأخرت قليلاً ولم أستطع أن أقنع الناس فدفعوني للزحف علي حجة. وقد بعث إلينا برسالة للتثبيط يؤكد فيها رغبته في الصلاح وجمع الشمل.

طوق البدر ومن معه علي حجة وكان المحافظون عليها ـ من أول الثورة ـ هم رجال حاشد سواءً قبل الحصار أو بعده حتي في أيام المصريين كان يوجد في حجة أثناء حصار الملكيين لها جيش من حاشد بقيادة حمود عاطف وعلي صلاح ومعه سرية أو سريتان من لواء الوحدة والمحافظ محمد عبدالله الكحلاني وهو قائد محنك وشجاع، اجتمع هؤلاء القادة الثلاثة ورتبوا أوضاعهم واستعدوا للصمود والدفاع عن المدينة وتوزعوا وتولي كل واحد منهم مسؤولية الدفاع عن جهة من جهات المدينة وحفر كل واحد منهم قبره في مترسه، فلما ضاق الخناق واشتد عليهم جهزنا العميد مجاهد مع قوم من حاشد لفك الحصار علي المدينة، وأنا خرجت بقوم طريق ثلاء وشبام وكوكبان لمناوشة الأمير علي بن إبراهيم الذي كان في الطويلة حتي لا يقطعوا الطريق علي مجاهد ويحولوا بينه وبين الوصول إلي حجة، وفعلاً ظنوا أنني متقدم في اتجاههم فتوقفوا استعداداً للمواجهة معي ومجاهد تحرك حتي وصل منطقة كحلان ليواصل توجهه إلي حجة وكان أمامه حصن جرع وهو حصن مهم بالنسبة للطريق وكان فيه السيد محمد عبدالله أبو منصر قائد قوات الملكية والذي وصله الخبر أن مجاهد وصل بقوم علي كحلان متوجهاً إلي حجة فاتصل به بالجهاز الذي كان يستخدمه الجنود أين ستتجه؟ قال مجاهد: حجة

قال: ومن أين ستمر؟

قال مجاهد: من أي مكان المهم أنا متجه إلي حجة.

قال: بعيد عليك حجة تجاهك رجال.

قال: ونحن رجال.

واستمر الكلام بينهم لينتهي بالتهديد والسباب، حيث قال السيد محمد عبدالله أبو منصر لمجاهد: إذا وصلت حجة من فوقنا فأنا كذا وكذا؟! ورد عليه مجاهد بكلام أشد منه. وفي الليل جهز مجاهد القوم وهجموا علي الحصن وطردوا أصحابه واحتلوا تلك الجبال وتسهَّلت لهم الأمور ونزلوا حجة وفكوا الحصار عنا وعاد البدر إلي المحابشة لفترة ثم خرج من المحابشة إلي المملكة العربية السعودية وقد بعث إلينا محافظ حجة محمد عبدالله الكحلاني برسالة حول خروجهم.

البرلمان والدستور الدائم

كان تشكيل مجلس وطني أو مجلس شوري أو نيابي هو هاجس الرعيل الأول من الوطنيين من قبل الثورة، وعندما قامت الثورة كان من أهم المطالب التي كان يطرحها ويطمح لها الشعب ورجال الدولة هو تشكيل المجلس الوطني.

وقد تكون مجلس شوري في السنوات الأولي للجمهورية، وكان مقره بيتاً مع ساحته من بيوت أسرة بيت حميد الدين في شارع 26 سبتمبر، وبنيت القاعة في نفس المكان الحالي للمجلس وكان ذلك عام 1964 تقريبا، واشرف علي بناء القاعة الأستاذ أحمد محمد نعمان الذي ترأس ذلك المجلس ويعد ذلك المجلس نواة للمجلس الوطني فيما بعد.

وقبله كان قد تم تشكيل مجلس الشيوخ، وهو أقل منه شأناً واقل صلاحية وأكثر عددا وكان نواة أيضاً للمجلس الذي كنا نطمح إليه ومجلس الشيوخ لم يعمر طويلاً. ولم يتخذ أي مهام وهكذا فتكوين المجلس الوطني لم يأت من فراغ و إنما كان امتدادًا لما كان قبله، فعندما خرجنا منتصرين من حصار صنعاء سنة 1968م، وأعلنت بعض القبائل التي كانت مناوئة للنظام الجمهوري ولاءها ولم يبق إلا مناطق قليلة في الشمال والشمال الغربي والشرقي وبعض مناطق الجوف، رأي القاضي عبد الرحمن الإرياني والقيادة السياسية ورجالات الدولة أنه أصبح من الضروري تشكيل مجلس وطنـي لتكتمل بنية الدولة ومؤسساتها فتم تشكيل المجلس الوطني من (45) شخصاً بالتعيين، وقد روعيت فيه حرية التمثيل للمناطق، والقوي والفئات الاجتماعية في اليمن فدخل في هذا المجلس عدد من العلماء والتجار والشباب والسياسيين والمثقفين والأغلبية من المشائخ البارزين والموالين للجمهورية من معظم مناطق اليمن، حتي المناطق التي لم تكن قد أصبحت خاضعة للدولة، تم تمثيلها بالمشائخ الذين كانوا موجودين في صنعاء وكانوا مؤيدين للثورة ومدافعين عنها منذ قيامها.

وأستطيع أن أقول إن أعضاء المجلس كانوا نخبة اليمن ومنذ أن تشكل المجلس كان من أفضل وأدق ما يكون، واجتمع المجلس لأول مرة في آذار (مارس) 1969 وحضر الجلسة الافتتاحية القاضي عبد الرحمن الإرياني رئيس المجلس الجمهوري وهو رائد الديمقراطية وكبار رجال الدولة وكان المجلس يضم بعض ضباط القوات المسلحة والأمن. وفي الجلسة الافتتاحية ترأس الجلسة الأولي أكبر الأعضاء سناً وهو السيد العلامة العظيم عبد القادر بن عبدالله، وكان أكبر الموجودين سناً وفضلاً وعلماً لإدارة الجلسة كما هي العادة، وفتح باب الترشيح لرئاسة المجلس وقد ترشحت لرئاسة المجلس وترشح غيري، ولم أعد أتذكر كم كان عدد المرشحين، وقرأ رئيس الجلسة أسماء المرشحين وتم التصويت، حيث صوتوا بالإجماع علي انتخابي رئيساً للمجلس وبعدها تم انتخاب النواب ـ أعتقد كان الأستاذ محمد الخادم الوجيه وربما شخص آخر ـ وأمين عام للمجلس ـ محمد سعيد قباطي ووضعنا لنا لائحة داخلية لنظام عمل المجلس، وقد بعث إلينا الأستاذ أحمد محمد نعمان رسالة تهنئة بالمناسبة يشرح فيها سعادته بذلك وأن تكوين المجلس هو استجابة لمطالب الأحرار ورجالات اليمن.

وقبل تعيين المجلس الوطني كان هناك دستور مؤقت وهو دستور مؤتمر خمر كان معمولاً به وتكوين المجلس و إجراءاته تمت طبقاً للدستور والقوانين التي كانت سائدة.

وقد قام المجلس الوطني بمسؤولية كبيرة ودور عظيم، لأن الشعور بالمسؤولية كان موجوداً في ذلك الوقت عند جميع رجال الدولة، وحتي عند الموظف العادي وأفراد الشعب، كانت هناك نزاهة وصدق وكانت أي مؤسسة أو شخص يكلف بمسؤولية معينة كان يؤديها بأمانة وصدق وبحماس وإيجابية ونزاهة، وكان للقاضي الإرياني رحمه الله والقيادة دور في ذلك حيث كان حريصاً علي المجلس وقراراته، وأهم منجزات المجلس هو إعداد الدستور الدائم الذي استمدت مواده من الشريعة الإسلامية والقرآن والسنة وهو مفخرة للمجلس الوطني ومفخرة لليمن، وقد أعدته شخصيات يمنية من العلماء والقانونيين وتلقينا الرسائل والملاحظات الكثيرة منهم علي ذلك، حتي المفكر والأديب أحمد محمد الشامي بعث إلينا برسالة حول الدستور وما ينبغي أن يكون عليه واستعنا بالقاضي عبد الرزاق السنهوري لإبداء بعض الملاحظات الفنية فقط وقد أبدي السنهوري إعجاباً كبيراً بالجهد الذي بذله اليمنيون لإعداد ذلك الدستور.

كما قام المجلس بسن قوانين كثيرة ـ بعضها كانت تأتي المجلس كمشاريع من الحكومة والأخري كان أعضاء المجلس يتولون صياغتها و إعدادها، وقد ظلت هذه القوانين هي المعمول بها لفترة طويلة.

كما كان من أعمال المجلس أيضاً الرقابة علي أعمال الحكومة، فبالرغم من أن المجلس كان معيناً إلا أنه كان يؤدي دوره كمجلس منتخب وكانت الحكومة متجاوبة وخاضعة للرقابة بشكل كامل وأفضل مما بعد بكثير جداً جداً، لقد كان هناك شعور بالتكامل بين أجهزة الدولة المختلفة بدءًا بالمجلس الجمهوري ومجلس الوزراء والمجلس الوطني حتي المؤسسة العسكرية كان الجميع شركاء في كل المهام وكان همّ الجميع هو حماية الثورة ودعمها وترسيخ الأمن والاستقرار في البلاد.

وفعلاً كان هناك أمن واستقرار في المناطق الخاضعة للدولة لم يوجد له نظير. كانت أحكام الشريعة الإسلامية تنفذ في كل الجرائم، قطع يد السارق وجلد السكران والزاني كان يتم علناً في الميادين وتذاع هذه الأحكام، أما أحكام القصاص الشرعي فقد كانت تنفذ دون تأخير، وكان يلقي القبض علي القاتل في أسرع وقت ممكن ويسجن ويطبق عليه الحكم الشرعي، وكان يقبض علي المرتكب للجرائم الأخري في الوقت الذي كانت المجالات مفتوحة للهروب وكان المواطنون يؤدون زكاة أموالهم بكل صدق وأمانة من تلقاء أنفسهم، لكن لأن الشعور بالمسؤولية لدي العسكري والضابط والشيخ والمواطن فقد كان يلقي القبض علي المجرمين فوراً، وبرغم أن السرقة كانت قليلة جداً لكن نفذت أحكام الحدود في عدد كبير في تلك السنوات. ولم توجد أحداث التقطعات لا في المناطق الجمهورية ولا الملكية.

أدي المجلس دوره بحماس وإيجابية، وعندما تم إضافة عدد كبير من الشخصيات الملكية بعد المصالحة الوطنية عمت الفرحة والسرور والغبطة أعضاء المجلس واستقبلوهم بصدور مفتوحة ومشاعر فياضة، و بهم اكتملت لحمة الشعب وترسخت وحدته، ووجودهم كان يعتبر تكملة لترسيخ وجود الدولة وبسط نفوذها، وكان الأشخاص الذين دخلوا للمجلس من مشائخ القبائل التي كانت غير خاضعة للجمهورية علي مستوي عالٍ من المسؤولية لا يقلون عن الموجودين في المجلس منذ بداية تشكيلة.

المصالحة واعتراف السعودية بالجمهورية

بعد خروج المصريين من اليمن وفشل الملكيين في إسقاط صنعاء وهزائمهم المتوالية في المناطق التي كانوا يسيطرون عليها وآخرها حجة وصعدة، يئس السعوديون من إمكانية عودة الملكية، فتفاهموا مع مجموعة من المعارضين ـ وهم شخصيات جمهورية وبعض الملكيين ـ علي مشروع حل للخروج من الأزمة يتم التفاهم بشأنه مع حكومة صنعاء، وجاء بهذا المشروع الأستاذ محمد أحمد نعمان (الابن) إلي صنعاء في الأشهر الأخيرة من سنة 69م. وعلي أساس أن تكون أول خطوة للخروج من الأزمة أن يلتقي وفد ملكي وآخر جمهوري في أثينا، وعرض النعمان (الابن) هذا المشروع علي القيادة السياسية وعلي رأسهم القاضي عبد الرحمن الإرياني، الذي قال للأستاذ محمد أحمد نعمان وكنت معه: اذهبوا واجتمعوا مع الضباط والشباب واعرضوا عليهم المشروع.

و اجتمعنا في نادي الضباط القديم الذي بجانب دار السعادة ـ التوجيه المعنوي حالياً ـ وعندما عرض الأستاذ محمد نعمان المشروع غضب بعض الضباط وهجم حسين الدفعي وزيد دماج علي الأستاذ محمد أحمد النعمان ومعه عبدالكريم الكتف وعلي العاضي، فعملت علي فك الاشتباك وإخراج الأستاذ من الاجتماع وإنقاذ النعمان من هؤلاء، وعاد النعمان خائباً وسافر إلي بيروت التي كان قد استقر فيها عدد من الملكيين والجمهوريين المعارضين ومنهم والده الأستاذ أحمد محمد نعمان. بعدها بحوالي شهرين تقريباً تلقيت دعوة رسمية لزيارة العراق بعد ثورة البعث فيها، فتوجهت علي رأس وفد كبير من أعضاء المجلس الوطني ولم تكن الرحلات الجوية آنذاك مباشرة إلي بغداد حيث توجهت إلي القاهرة ومن القاهرة إلي بيروت التي مكثنا فيها حوالي ثلاثة أيام إذ كان موعد الوصول إلي بغداد لا يزال متأخرا بعض الوقت وفي بيروت التف حولي الإخوة الملكيون والجمهوريون الذين كانوا متواجدين هناك وعلي رأسهم الأستاذ أحمد محمد نعمان ومن الملكيين أحمد محمد الشامي ويحيي المضواحي وأحمد الباشا والإخوان من بيت الوزير.

قالوا لي: أنت الذي تستطيع أن تتبني مشروع الحل فلا أحد سوف يزايد عليك ولا يستطيع أحد أن يهددك والمسؤولون في المملكة مهيأون للقبول بالحل وجمعوني بالعقيد علي الشاعر الذي كان ملحقاً عسكرياً للمملكة في بيروت. اجتمعنا به واتصل بالأمير سلطان وكلمه بالموضوع، فوافق الأمير سلطان علي أي حل تقترحه هذه المجموعة لأنه كان متفاهمًا معهم، وهؤلاء قد أصبحوا لا ملكيين ولا جمهوريين ـ فلا الملكي متشدد ولا الجمهوري متشدد فهو موافق علي كل الحلول.

سافرت العراق ثم رجعت عن طريق بيروت ولم أعد إليهم إلا وقد وصلتهم التعليمات من الأمير سلطان بالموافقة علي لقاء يتم بعد شهر ونصف بين وفد من الجمهوريين ووفد من الملكيين في حرض أو جيزان أو أي مدينه حدودية يمنية أو سعودية علي أن تتوقف الحرب التي لم تعد آنذاك إلا في حجة وصعدة فقط وإنهم سوف يصدرون تعليماتهم للملكيين بوقف الحرب وعدم الهجوم أو احتلال أي منطقة أو شبر واحد علي أن نلتزم نحن بمثل ذلك، وقد التزمت أنا بهذا والتزموا به وحددنا موعداً بعد شهر ونصف للقاء وفد من الملكيين والجمهوريين للاتفاق علي المصالحة.

وغادرت بيروت أحمل هذا الحل، ودخلت القاهرة ومعي أعضاء الوفد في أواخر شهر كانون الاول (ديسمبر) 1969م قبل عيد الأضحي بيومين أو ثلاثة نقضيها في القاهرة ونعود إلي اليمن بعد العيد لكننا لم نصل القاهرة إلا والبرقيات من القاضي الإرياني عبر سفارتنا في القاهرة ـ تجاهنا ـ عجّل بالوصول فغادرت القاهرة يوم 9 ذي الحجة، بطائرة مصرية ـ ولم أصل إلي مطار صنعاء إلا والقاضي عبد السلام صبرة نائب رئيس الوزراء ينتظرني عند سلم الطائرة، وقابلني بوجه مكفهر جداً، سألته: مالك ؟ هل هناك شيء؟ قال: صعدة سقطت.

لقد سافرت العراق والفريق العمري سافر مصر لزيارة عائلته في القاهرة وقضاء إجازة العيد معهم ونحن مطمئنون فالوضع كان مستتباً في صعدة بعد أن استلم الجيش المواقع التي كانت بقيادة مجاهد والجيش الشعبي من حاشد ولا أدري كيف فكر بعض الضباط وسحبوا القوات المسلحة بالرغم من أنه لم يكن هناك حرب سوي مناوشات بسيطة تعود عليها الجيش يومياً، لقد غادروا مواقعهم وتركوا حتـي بعض الدبابات التـي لـم يحـافظ عليهـا إلا الحـاج محمد صـوفان الذي كـان المسؤول المالـي للجيش في تلك المناطق، وكذلك ناصر طواف، والمجموعة القليلة التي كانت معه من حاشد.

وبعد انسحاب الجيش بيومين لم يكن الملكيون يتوقعون أي رد فعل أو هجوم فأنا بالعراق والعمري في مصر وقد سجل ذلك محمد الذهباني في قصيدته الشعبية المشهورة:

سقطت صعدة علي العمداء

بعدما سالت دماء الشهداء

والشيوخ والجيش والعقداء

بالألوف لا إله إلا الله

وقد شرح فيها الأمر إلي أن قال:

الفريق ســار يـزور مرتــه وابن الأحمر العــراق دعتـــه

سقطــت صعدة لا إلـه إلا اللـه

اتجهت مع القاضي عبد السلام صبرة فوراًً لمقابلة القاضي عبد الرحمن الإرياني وجاء الفريق العمري، وشرحت لهم ما تم في بيروت وأننا قد اتفقنا علي وقف الحرب وان لا يحتلوا أي منطقة أو حتي شبر واحد ونحن كذلك فقالوا الآن صعدة سقطت ! قلت وأين الجيش؟ قالوا: الجيش في بلاد سفيان وقد خرج من صنعاء من الضباط و المشائخ من يوقفهم هناك في الحرف والجبل الأسود والمدّرج.

قالت لهم: عليكم أن تحاولوا تنظيم الجيش وبقاءه في الحرف والمواقع التي هو فيها فنحن قد اتفقنا علي إيقاف الحرب ومحاولة استعادة صعدة معناها أن نخسر ما اتفقنا عليه وقد لا نستطيع استرجاعها بسهولة. قال القاضي الإرياني: لن نحاول استرجاعها أبداً واخرج ثبت القوم في أماكنهم.

بتُّ تلك الليلة في صنعاء وصليت العيد وخرجت مباشرة إلي خمر وصلت خمر. فهدأت الناس، ونزلت الحرف لتثبيت المواقع وطمأنتهم أنه ليس هناك عودة للحرب وعليهم أن يثبتوا في أماكنهم وتبين أنه عند سقوط صعدة لم تكن التعليمات قد وصلت للملكيين من السعودية، علي أساس أن وقف الحرب لا يتم إلا بعد أن أرجع اليمن حسب ما اتفقنا عليه، وبعد رجوعي إلي اليمن جاءتهم التعليمات ولم يعد هناك أي هجوم علي أي منطقة سواء من جانبنا أو جانبهم في صعدة أو غيرها.

وبينما نحن نفكر بوضع مشروع المصالحة والمدينة التي سنلتقي فيها إذا بالأقدار تتهيأ من أرحم الراحمين وذلك بإعلان منظمة المؤتمر الإسلامي بعقد مؤتمر لوزراء خارجية الدول الإسلامية في جدة في 26/3/1970، قلنا جاءت منك يا الله، اللقاء إذن هناك. توجه وفد رسمي برئاسة رئيس مجلس الـوزراء ووزير الخارجية محسن العينـي وأنا رئيس المجلس الوطنـي عضو في الوفد، فمن أجل اليمن ليست هناك حساسيات وقد بعث إلينا القاضي عبد الرحمن الإرياني رئيس المجلس الجمهوري رسالة يكلفنا فيها بالمشاركة في الوفد، ووصلنا إلي جدة ونحن دولة غير معترف بها وليس معنا سفارة في المملكة فلا تزال سفارة الملكية في جدة هي المعتمدة. وما وصلنا إلي المطار إلا وهم في استقبالنا مثل غيرنا من الوفود وأعلامنا فوق السيارة التي ستقلنا إلي قصر الضيافة الذي نزلت فيه جميع الوفود، ووصلنا قصر الضيافة وعلم الجمهورية العربية اليمنية مرفوع هناك، مثل غيره من الدول الإسلامية، وعندما أنهي المؤتمر جلساته، التقينا بالأمير سلطان ووزير الخارجية ومسؤولين آخرين. أما الملك فأظن أننا لم نقابله، واتفقنا علي الاعتراف بالجمهورية ولم تعد هناك مقاطعة، وعلي أن نعمل لهم ما يحفظ ماء الوجه وهو قبول عدد من العناصر البارزة من الجانب الملكي في أجهزة ومؤسسات الدولة الجمهورية بدءا من المجلس الجمهوري وما دونه من المؤسسات في الدولة. وتم تحديد الأعضاء المطلوب قبولهم في مؤسسات الدولة مثل: أحمد محمد الشامي عضواً في المجلس الجمهوري ومجموعة وزراء في الحكومة ومجموعه أعضاء من المشائخ في المجلس الوطني واثنين أو ثلاثة محافظين ومثلهم سفراء، اتفقنا علي هذا وحددنا الموعد ثلاثة أو أربعة أشهر، وعملنا بيننا وبينهم شفرة للتواصل و أعطانا الأمير سلطان جهازاً لاسلكياً للتواصل استلمه محسن العيني.

وعدنا لليمن بهذه النتيجة الطيبة التي تمت تحت قبة المؤتمر الإسلامي والتي أخرجت البلد مما كانت فيه من المأساة، وتكفل الأستاذ محسن العيني بالتوضيح للشباب المتحمسين وإقناعهم والفريق العمري تكفل بإقناع الضباط وأنا بإقناع العلماء والمشائخ ووضحنا لهم كل شيء.

وعند انتهاء المدة المحددة أبلغونا بوصول المجموعة الذين سيتم استيعابهم في أجهزة الدولة وعلي رأسهم السيد أحمد محمد الشامي ـ عن طريق جيزان وان الطائرة سوف تنقلهم من جيزان إلي عبس وعلينا أن نكون في استقبالهم في عبس وهذا الذي تم.

ذهبت أنا والشيخ سنان والمشائخ وبعض الضباط والمسؤولين، واستقبلنا القادمين من المملكة في عبس واتجهنا إلي الحُديدة ومن الحُديدة إلي صنعاء في 22 ايار (مايو) 1970. وفي نفس الليلة صدرت القرارات الجمهورية بتعيينهم.

واستتبت الأمور بعد المصالحة، وتحسنت العلاقة مع المملكة ولم يتشددوا علينا بعدها في أمر من الأمور، فقد اقتنعوا بان الملكيين لم يعودوا قادرين علي أي شيء وأن عودتهم أصبحت من المستحيل، كما اقتنعوا بأن المصريين الذين كانوا يقولون إنهم ما دعموا الملكيين وحاربوا الجمهورية إلا بسببهم قد ساروا وانتهي الوجود المصري في اليمن.

أما أمراء بيت حميد الدين الذين كانوا في الأطراف فقد سحبتهم المملكة واعتبرتهم لاجئين سياسيين، ولم يتبق إلا واحد من أولاد الحسين في الجوف ظل فترة ورفض أن يخرج وهم يطلبونه من السعودية وظل أهل الجوف يحمونه وقد استمر خمسة أو ستة أشهر بعد المصالحة ولمَّا يئس خرج براً. وقد وصلتني رسالة من القاضي عبد الله الحجري الذي كان سفيراً لبلادنا في الكويت يشرح لنا فيها كيف أن الإخوان في المملكة حريصون علي إنهاء المشكلة وأن الأمير سلطان بن عبدالعزيز قد اجتمع بأسرة حميد الدين وحذرهم من التدخل في شؤون اليمن بعد المصالحة.

بعد استكمال الترتيبات الجديدة تم تشكيل وفد برئاسة الفريق العمري وضم محسن العيني وأنا واحمد الشامي وعددًا كبيرًا من المشائخ والعلماء والوزراء وتوجهنا إلي جدة، وصلنا والبدر يسكن في بيت جوار دار الضيافة الذي أنزلونا فيه وقد سافر البدر في اليوم الثاني وغادر المملكة إلي لندن التي عاش فيها حتي توفاه الله والآخرون كفلتهم المملكة بعوائلهم ومن يرتبط بهم حتي اليوم.

التقينا في جدة بالملك فيصل وكبار المسؤولين في المملكة، وكانت السعودية قد أعلنت اعترافها بالجمهورية في نفس اليوم الذي وصلنا فيه جدة واتفقنا علي كل شيء. كان ذلك في 27/7/1970. وقال لنا الملك فيصل: نحن قد ساهمنا في تخلف اليمن وخرابه، أما الآن فنحن علي استعداد أن نساهم في عمران اليمن حتي لو تقاسمنا الرغيف نصفين لكننا لم نستغل هذا الاتجاه، لان القاضي عبد الرحمن الارياني رحمه الله ما استطاع أن يهضم السعوديين أو يبتلعهم وبسبب هذا العناد الذي كان عنده حرمنا أشياء كثيرة لمصلحة البلاد. بينما محسن العيني الذي لم يكن منفتحا مع السعوديين إلي حد بعيد كان عنده القابلية والاستعداد.

* القدس العربي

اكثر خبر قراءة أخبار اليمن