حروف منسية
بقلم/ علي قاسم غالب الزبيدي
نشر منذ: 14 سنة و 6 أشهر و 23 يوماً
السبت 01 مايو 2010 09:34 م

( و) : وطـن:

لعلماء اللغة تعريفاتهم لكلمة (وطن) وللسياسين تعريفهم كذلك، وللمواطن تعريفه، بيد أن هذا الأخيرلا يعتد بتعريفه ولا يؤخذ به، رغم أن صفته مشتقة من اسم الوطن؛ فهي مفاعل، وعلى وزنها لك أن تقول مكافح ومناضل ومصابر ومكابر...الخ مما يمكن أن يؤدى معنى المفاعلة الذي يتجاوب ويتفق مع المواطنة.

يذهب ابن منظور في كتابه لسان العرب، وهو كتاب سرى صيته سريان النار في الهشيم ومثله كتاب تاج العروس للزبيدي، ولهذا الشيوع سنلتزم هاتين الحجتين في تعريف (وطن)، يقول ابن منظور في مادة وطن: الوطن هو المنزل تقيم به وهو موطن الإنسان ومحله، ووطن أقام، وواطنه على الأمر أضمر فعله معه، ووطّن نفسه على الشيء وله فتوطنت حملها عليه فتحملت وذلت له، والوطن هو أيضا مربط البقر والغنم( ) ولا يزيد الزبيدي في تاجه على ما ذهب إليه ابن منظور إذا يوافقه في كل ما عرف به الوطن .

والغريب في التعريف هو إسقاط ابن منظور في تعريفه للوطن على حال الناس في الوطن، فالوطن أي وطن مكان ومستقر للجميع، لكن الممارسة داخل هذا الوطن تكمل معانيه اللغوية فـ(واطنه ) تعكس حال شريحة الساسة الذين يعملون –غالبا – عن طريق الإضمار وهو أسهل وسيلة للعمل في صمت وليتمكن السائس من إظهار خلاف ما يبطن دون حرج، وأيضا حركة السياسة هي نوع من الاتفاق الخفي لتحريك ما هو ظاهر سواء اتفق معه أو اختلف، أما قراءة (وطّن) بالتثقيل وعادة ما يتحمل عناء التثقيل المواطن فإن معناها يتساوق وينسجم مع حال المواطن الذي يذل نفسه ويكبحها ويتحمل إزاء : واطن، وأفعالها المضمرة؛ فهو الذي يدفع ضريبة حركة الكواليس، وهو الذي إن قانعا أو كارها يستجيب لخطاب الظاهر الذي تنسجه أيادي الخفاء، لكن العجيب في تعريف ابن منظور والزبيدي للوطن بأنه مربط البقر والغنم، فهل يا ترى يحق لي هذا الاستغراب، وأرجو من القارئ ألا يذهب في تفكيره إلى ما هربت من التفكير فيه، فالبقر له حق المواطنة وكذلك الغنم، إنما هناك جامع بين المستوطنيين : الإنسان والحيوان خاصة في الأوطان العربية وهي أن كلا النوعين يذهب ضحية، كما أن هناك علاقة وطيدة بين المكان والمكين وهذا يدركه عشاق البلاغة؛ فالبقرة مكين في الوطن المكان، وكلاهما ضحية فالبقرة تحلب ويستغل حليبها وهي تدر كثيرا إن تم المسح عليها والأمر كذلك مع الوطن فإنه يحلب وتسلب خيراته وفارق الحلب أن الأول يتم بالمسح والثاني يتم بالمسح –أيضا- ولكنه مسح من نوع آخر، قد تكون هذه هرطقات لغوية لا معنى لها، لكن المفارقات فيها هي ما أدهشتني ودفعتني لمثل هذا القول .

وثمة أمر يبدو وجيها هل يمكن قلب المعادلة بأن يواطن المواطن ويتفاعل ويضمر مع المواطن ليمارس سياسة مقابل أن يوطّن السائس نفسه ويتحمل ردة الفعل ويهيئ نفسه ليغير مكانه من : واطن إلى وطّن، بمعنى أن يقبل بلعبة تبادل المواقع ليحس بما كان يحس به المواطن (المفاعل) ويعيشه، ومن جانب آخر هل يمكن حلب البقرة/ الوطن بعد المسح عليها برفق، وليس المسح بـ... حتى يدر الحليب/الخير،....، ...الخ، ويذكرني هذا التساؤل بأمر كانت تقوم به أمي وهي أنها تعلف البقرة قبل الحلب وبعده وكأنها تدرك أن الحلب دون علف سيفقدها الحليب حين تنفق البقرة وتموت، وكأنها بفطرتها تدرك –أيضا- أن لكل شيئ عمرا افتراضيا، وأن الأخذ والعطاء متلازمان مثل جناحي الطائر.

ويقودنا الحديث عن الوطن إلى التغني بحب الوطن، فطالما ربطنا في التعريف اللغوي بين الوطن والمنزل، فمن يكره داره وهل يجوز في شرع فقه الساسة تحايل المرء على منزله بتدميره تدريجيا أو بنهبه بصورة مباشرة وغير مباشرة، وسؤال ربما يبدو ساذجا هل يحب أحد أن يجمل نفسه بعيدا عن داره فتكون له خصوصية دون داره، أتوقع أن الجواب يدخل حيزا آخر هو حيز الديمقراطية حتى لا يحرج أحد بسؤال أو يحير في جواب فنحن في مناخ يتسع للجميع فهل يتسع بالجميع الوطن؟؟!!

ويذكرني هذا الحب للوطن بشعراء الوطن الذي يعقدون أجمل العبارات حبا في هذا الوطن، بل إنه يضع تساؤلا مشروعا عن مدى التشابه بين الساسة والشعراء؛ فكلاهما يحب الوطن، في زعمه؛ لكن من له القدرة على الرضاعة من حليبه أو من يجرؤ على الاقتراب من "حلمة" الخيرات التي يجف درها وينحبس حين تحس بوطأ أقدام (المفاعل) وكأنه نووي، وينزل أنهارا حين ترهبه عيون حمران العيون، لماذا يكيل الضرع بمكيالين هل تعلّم السياسة هو الآخر فواطن مثل غيره أم أنه وُطِن مثل المواطن فتحمل وذلت حلمته؟!

ولكن ما عسى البقرة أن تجود أليس هو الحليب، وكم هي حاجة المرء من الحليب ؟ ألا يقضي فترة حياته الأولى يقيم صلبه من هذا الحليب، ألا يُستنكر عليه إن هو أطال فترة الرضاعة، حتى حين يكبر تظل حاجته من الحليب نعم ولكن بنسبة قليلة ومعقولة فهو بين الفينة والفينة يمكن أن يشتاق له إنما إن زاد عن حده سئمه وكرهه، إذن فما سر قوة البعض في البقاء بشوق دائم لهذا الحليب؟ ألا يصلون إلى الملل ؟

وأخيرا الرضيع يحب أمه، ويرحمها إن ضنت عليه بالحليب لمرض أو غيره، ويكافؤها حين يكبر وتكتمل حاجته من حليبها ويفني عمره المتبقي من أجلها، فلقاء عامين من الرضاعة يرد لها إحسان عمر بأكمله، فمتى يشعر الحالبون للبقرة/ الوطن بواجبهم نحو ما ظلوا وما زالوا ينهلون من خيراته على الأقل حتى يستطيعون الاستمرار في الحلب!!!!!!!!!.

* ناقد وباحث