مكافأة اسرائيلية للتنسيق الامني
بقلم/ عبد الباري عطوان
نشر منذ: 14 سنة و 10 أشهر و 26 يوماً
الإثنين 28 ديسمبر-كانون الأول 2009 04:16 م

بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الاسرائيلي الذي سيتوجه غدا الى القاهرة للقاء الرئيس المصري حسني مبارك 'من أجل دفع عملية السلام'، هنأ جهاز الاستخبارات الداخلي الاسرائيلي'شين بيت' على انجازه الكبير في 'إعدام' ثلاثة مواطنين فلسطينيين في قلب مدينة نابلس المحتلة، ينتمون الى حركة 'فتح'، انتقاما لمقتل حاخام اسرائيلي في إحدى مستوطنات الضفة قبل يومين.

نتنياهو هنأ أيضا الجيش الاسرائيلي على قتل ثلاثة فلسطينيين آخرين في اليوم نفسه في قطاع غزة، كانوا يجمعون بعض الخردة قرب الحدود لإطعام أطفالهم الذين يعيشون حصارا خانقا تحت سمع العرب وبصرهم.

قوات أمن السلطة الفلسطينية لم تتدخل مطلقا لحماية الشبان الثلاثة الذين حاصرت منازلهم قوات الأمن الاسرائيلية، وأعدمتهم أمام أطفالهم وزوجاتهم في وضح النهار، لأن هذه القوات مسخّرة لهدف آخر وهو اغتيال المقاومين الفلسطينيين، مثلما حدث في قلقيلية عندما اقتحمت منزلا يختبئ فيه مطاردون يتبعون فصيلي 'حماس' و'الجهاد الاسلامي'، وأمطرتهم بالرصاص حتى سقطوا شهداء.

الرئيس محمود عباس، وكذلك رئيس وزرائه سلام فياض ظلا يفتخران طوال الاعوام الثلاثة الماضية بالسيطرة الامنية المطلقة على الضفة، ومنعهم انطلاق أي عمليات فدائية ضد المستوطنين الاسرائيليين، وتحويل مدينة نابلس الى 'نمر اقتصادي'، فجاءت المكافأة لهم من نتنياهو سريعة وملغومة، أي اغتيال الشبان الثلاثة دون وجود أي دليل على علاقتهم بمقتل المستوطن المذكور، ودون أن يملكوا أي أسلحة ساعة حصار منازلهم وسط المدينة.

السؤال الذي يطرح نفسه هو عن 'التنسيق الأمني'، الذي بالغت السلطة في رام الله وأجهزتها بالانخراط فيه والتجاوب مع كل طلبات نظيرتها الاسرائيلية، لاعتقال وتعذيب كل المقاومين بغض النظر عن انتماءاتهم التنظيمية والعقائدية. فالقوات الاسرائيلية لم تبلغ قوات الأمن الفلسطينية بنواياها في اقتحام مدينة نابلس وقتل الشهداء الثلاثة، ونفذت عملية الاغتيال بدم بارد، وخرجت دون أن تشعر بها القوات الفلسطينية، أو انها شعرت بها ولم تتحرك حرصا على هذا التنسيق الأمني.

السلطة في رام الله هرعت الى واشنطن باكية شاكية، فلم تحظَ بأي تعاطف حقيقي، فالادارة الامريكية تتبنى بالكامل وجهة النظر الاسرائيلية التي تقول بأن الشهداء كانوا أعضاء خلية تابعة لكتائب شهداء الاقصى مسؤولة عن عملية اغتيال المستوطن الاسرائيلي، ولهذا جاء ردها سريعا على الشكوى الفلسطينية بضرورة الاستمرار في التنسيق الامني دون توقف، أي المزيد من الاعتقالات وعمليات التعذيب ضد كل من يفكر 'مجرد التفكير' بخيار المقاومة، أو يتعاطف مع فصائلها.

حكومة نتنياهو قررت اعلان الحرب على الفلسطينيين، سواء كانوا من 'المستأنسين المروضين' الحالمين بفتات الدولة، أو المؤمنين المتمسكين بالثوابت الفلسطينية وثقافة المقاومة، فجميع الفلسطينيين أشرار بالنسبة اليها، لا بد من استئصالهم، ولهذا اغتالت اعضاء 'خلية فتح' وأرسلت عملاءها الى لبنان لتفجير مكاتب حركة 'حماس' في الضاحية الجنوبية لبيروت، واغتيال ما تيسر من منتسبيها.

فالقضاء على تنظيم 'فتح' من خلال تقويضه من الداخل، وتسليم سلاحي الامن والمال لادارة السيد سلام فياض المدنية الموازية، لا يكفيان، ولا بد من المزيد. فمقتل مستوطن اسرائيلي في الضفة الغربية أهم من السلطة، وعملية السلام، وكل فصول التعاون الامني الوردية.

هناك مدرستان في أوساط السلطة، واحدة تطالب بضبط النفس، وعدم الانجرار خلف الاستفزازات الاسرائيلية المقصودة هذه، والمعدة بعناية لتفجير اعمال عنف تُخرج حكومة نتنياهو من عزلتها الدولية، والسيدان عباس وفياض من انصار هذه المدرسة، أما الثانية فتطالب بالرد الفوري، والانتقام لشهداء 'فتح' بالطرق المعهودة.

من الواضح ان موقف المدرسة الاولى هو الأقوى، لانها تملك المال والامن والغطاء الامريكي، والرهان على سراب المفاوضات، فالرئيس الفلسطيني محمود عباس، وفي خطابه الاخير الذي ألقاه في المجلس المركزي، اعترف علانية بفشل خياراته السلمية، ولكنه لم يجرؤ على استخدام لفظ المقاومة، او حتى الانتفاضة، وقال بالحرف الواحد 'لا عودة الى العنف مطلقا'.

لجوء نتنياهو الى حرب الاغتيالات أمر على درجة كبيرة من الخطورة، خاصة خارج الملعب التقليدي، أي الاراضي المحتلة، وارسال جهاز الموساد عملاء الى لبنان لاغتيال مسؤولين في 'حماس' هو رسالة تحمل أكثر من معنى، وموجهة الى العديد من الاطراف، اولها 'حماس' بالقول انها ليست بعيدة من الذراع الدموية الاسرائيلية، وثانيها 'حزب الله' بالقول ان الضاحية الجنوبية ليست آمنة مثلما تتصور قيادته، ويمكن اختراقها بسهولة، وثالثها موجهة الى سورية تقول بان تفاهمات زيارة الحريري لدمشق يمكن نسفها واعادة البلاد الى مرحلة اللا استقرار.

العام الجديد ربما يكون أكثر دموية مما يتصور ابناء المنطقة العربية، معتدلين كانوا أم متطرفين، فمن الواضح ان الحكومة الاسرائيلية المكروهة والمعزولة دوليا منذ حرب غزة، وتقرير غولدستون، لا يناسبها الوضع الراهن، أي تزايد قوة فصائل المقاومة في لبنان وقطاع غزة بدعم ايراني، ونجاح ايران في كسب المزيد من الوقت لتطوير قدراتها النووية.

اسرائيل تبحث عن 'حرب جديدة' تخرجها من عزلتها، وتحشد حلفاءها الغربيين خلفها، وقد يكون لبنان هو الساحة الانسب لتفجير هذه الحرب في العام الجديد على وجه الخصوص، ولذلك علينا توقع المزيد من الاستفزازات لسورية (تفجيرات جديدة) ولحزب الله وحماس (اغتيالات وسيارات مفخخة) في قطاع غزة والعاصمة اللبنانية بيروت.

الخيارات المتاحة للجانب العربي كثيرة ومعروفة، أقلها انتفاضة سلمية في الاراضي المحتلة، والضفة الغربية على وجه الخصوص، ومواصلة الضغوط لرفع الحصار عن قطاع غزة، وبروز قيادة فتحاوية جديدة تعلن فشل مشروع السلطة، وضرورة عودة الحركة الى ينابيعها الاولى، والاستهداء بقرارات مؤتمرها الاخير الذي شدد على الكفاح المسلح.

في حال بروز هذه القيادة، يجب ان تسارع حركة 'حماس' للالتقاء معها، وتوقيع ميثاق شرف وطني مشترك يتبنى ثقافة المقاومة كبديل عن التنسيق الامني، والسلام الاقتصادي، ومشاريع شراء ذمم الناس الوطنية من خلال سيف 'الرواتب' المسلط على رقابهم.

أمر مؤلم أن يسكت أبناء فتح على اغتيال شرفائهم بالطريقة الدموية الباردة التي شاهدناها في نابلس، وأن لا نرى مظاهرة تضامن حقيقية من قبلهم، تضامنا مع شهداء قطاع غزة والحصار المفروض على أهاليهم في ذكرى مرور عام على العدوان.

' ' '

الرد المتوقع هو كسر حاجز الخوف من قطع الراتب، لأن الوطن ودماء ابنائه اغلى من حفنة من الفضة مغموسة بالذل والهوان. في المقابل يجب ان تخرج حركة 'حماس' من هواجسها الحالية، وتتخلى عن "شهوة" السلطة، وتعود الى جذورها الجهادية بالتالي، وتعيد سلم أولوياتها الى صورته الاولى التي حشد الملايين خلفها، وتوجهات التنظيم الاكثر شعبية في الانتخابات الاخيرة للمجلس التشريعي.

لا بد من حراك فلسطيني يقلق الاسرائيليين ويعيد التفاف العالمين العربي والاسلامي حول القضية الفلسطينية مجددا، وبما يحرج انظمة الهوان العربية المتواطئة مع الاحتلال بصمتها وتعاونها السري معه.

حالة السكون الحالية في الضفة العربية يجب ألا تستمر، أياً كانت الأسباب والمبررات، لأنها هي التي شجعت الاسرائيليين على عدوانهم وجرائم حربهم في قطاع غزة، وهي التي دفعتهم لاجتياح المسجد الاقصى واقامة كنيس تحته مقدمة لآخر فوقه ومن ثم تقسيمه، وهي أيضا التي تشجعهم حاليا على حرب الاغتيالات التي نراها في نابلس وجنوب بيروت وشمال قطاع غزة.

الشكوى للامريكان غير مفيدة، ولن تعطي ثمارها، فواشنطن هي العنوان الخطأ، خاصة في الوقت الراهن، حيث تعود الحملة الاعلامية المسعورة ضد المسلمين، بعد اكتشاف أمر 'محاولة غامضة' لتفجير طائرة أمريكية فوق ولاية ديترويت، تذكرنا بأكاذيب كثيرة مورست لتبرير الحروب ضد العرب والمسلمين، مارسها اناس محترفون في الكذب والتضليل.