الأمويون: إنجازاتهم وتاريخهم المشوه
بقلم/ احمد الظرافي
نشر منذ: 15 سنة و أسبوعين و 6 أيام
السبت 07 مارس - آذار 2009 07:16 م

لم يكن خلفاء المسلمين، من بني أمية، خلفاء راشدين، ساروا في حكمهم، على منهاج النبوة والرسالة الخاتمة، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، إلا أن الدولة الأموية مع ذلك، ومع كل سلبياتها ومثالبها، ليست شرا مطلقا، بالضرورة، كما يحاول إقناعنا بذلك خصومها وأعداؤها وغيرهم من المبطلين والحاقدين في إطار خطتهم المبيتة للنيل من الإسلام وأهله.

وإذا كانت الظروف السياسية التي تولى فيها الأمويون الخلافة، قد أدت إلى تحول أسلوب الحكم، من خلافة تقوم على الشورى، كمبدأ أساسي، إلى حكم ملكي عضود، يقوم على "التوريث" تم دعمه، وتثبيت أركانه بمختلف الأساليب، كما قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في وثبة من وثبات الاستشفاف الروحي العميق.. فلبني أمية، والحق يُقال، الكثير من الأعمال الجليلة، في خدمة الإسلام والأمة. ولا ينكر ذلك إلا جاحد معاند لحقائق الدين وشواهد التاريخ.

حول شرعية الخلافة الأموية

وعلى الرغم من الأحداث الجسام التي تعرضت لها الأمة في المرحلة المبكرة من تاريخ الإسلام ( مقاتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأوائل، والفتنة الكبرى، والحروب الأهلية التي لفحت دولة الخلافة بنيرانها) إلا أن هذه كلها " لم يكن لها أي تأثير على هذه اللحظة. كانت ( الأمة ) في عقيدتها أقوى من أن تهتز... ولم تهتز بعد ذلك في أزمة الحكم الأموي بعد يزيد بن معاوية. بقيت ثابتة [1]. لأن الأمة لم تختلف في دينها، ولا في نبيها ولا في كتابها، وإنما اختلفت في اجتهاداتها، وفي شئون دنياها..ولذلك عادت الأمة واتحدت من جديد تحت قيادة بني أمية، وتحديدا تحت قيادة الخليفة العتيد عبد الملك بن مروان، الذي استعاد حينئذ وحدة الخلافة.

وما يقال عن الدولة الأموية من أنها لم تولد ولادة شرعية، وأنها قامت على أشلاء أهل البيت وبني هاشم وأهل الحجاز والأنصار، وما تحفل به معظم كتب المؤرخين القدماء والمحدثين حول العصر الأموي من أنه كان عصر مؤامرات سياسية، ورِدَّةٍ خُلُقية، واضطراب اجتماعي، وخلل اقتصادي، واستهانة بمقدسات المسلمين.. فكل هذا وذاك فيه نظر. فأما بالنسبة لشرعية السلطان أو متى يكون الإمام شرعيا، ومتى يكون متغلبا غير شرعي فهي مسألة مختلف حولها بين فقهاء السياسة والكلام المسلمين: فقد تمسك بعض بمبدأ الشورى باعتباره الطريق الأوحد للوصول إلى الإجماع حول رجل من قريش يتولى السلطة، بينما نظر آخرون لشكل التجربة، فقالوا: إن البيعة العامة – بقطع النظر عن كيفية حدوثها- هي التي تفترق بين الشرعي وغير الشرعي. وذهب فريق ثالث إلى أن الحكم على شرعية أي سلطان ينبغي أن يستند إلى مدى تحقيقه للأهداف العليا للأمة ، بغض النظر عن طريقة وصوله إلى السلطة ، والأهداف هي: الجهاد والدعوة وحماية دار الإسلام ، والعدالة في قسمة الفيء ، والحفاظ على الوحدة الداخلية ، والحيلولة دون الفتنة . ولا تنتفي شرعيته عند فريق الأكثرية هذا حتى إن لم يحقق بعض هذه الأهداف، ما دام يحقق هدفين منهما: حماية الدار، ومنع الفتنة [2]. ولو نظرنا إلى شرعية الخلافة الأموية في ضوء ذلك بإنصاف وتجرد لو جدنا أن الخلافة الأموية قد استوفت شرعيتها من أكثر من وجه من تلك الوجوه.

فقد استطاع بني أمية، في جزء كبير من عهدهم، المتفق على أنه " يقع في دائرة خير القرون المشهود لها بذلك من المعصوم صلى الله عليه وسلم في قوله: " خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" متفق عليه، استطاعوا أن يعيدوا تحقيق وحدة في السلطان، ووحدة في الأرض، ووحدة في الجماعة، كما كان عليه الحال أيام الخلفاء الراشدين. وهذه الوحدات الثلاث كانت هي المثل الأعلى المطلوب لتحقق مصطلح الأمة الواحدة المذكور في القرآن وسيرة السلف الصالح، كما فهم ذلك المفكرون المسلمون [3]. وبدأت الحضارة العربية الإسلامية تبرعم على الفور. وتتفتح بشكل مذهل. وكانت لحظة الصعود لا تزال قائمة في مركز الدولة دمشق، وعطاؤها الحضاري قد أخذ يثمر وخطها التاريخي يسير في القمة مستوياً. وقد ارتفع قليلاً بالتوسع الكبير الذي أصابته الدولة في الشرق والغرب. وإن كانت بعض العوامل الداخلية تحفزه [4]. كما أن بني أمية حافظوا بقدر استطاعتهم، على بعضٍ من قيم الإسلام، وتقاليده ومثله العليا، التي كانت سائدة في عهد الخلفاء الراشدين. وما كان عهدهم إلا امتدادًا طبيعيًّا لعهد الخلفاء الراشدين.. فيه عاش بقية رجاله، ومن تبعهم بإحسان.. وصاغوا تاريخه وأمجاده.. مع التسليم بوجود فارق لابد منه بين العصرين [5].. وهاكم هذه الرواية حول سياسة الخلفاء الأمويين في قبض الخراج من ولايات الدولة، تقول مصادر المؤرخين: أن العادة كانت قد جرت بأن الخلفاء، كانوا إذا جاءتهم جبايات الأموال من الأمصار والولايات التابعة للدولة الإسلامية، تأتيهم ومع كل جباية، وفدٌ مكونٌ من عشرة رجال من وجوه الناس وأجنادها في الولاية، فلا يدخل بيت مال المسلمين من الجباية، شيٌ إلا بعد أن يحلف هؤلاء العشرة، بأن هذا المال ما فيه دينار ولا درهم، إلا أُخذ بحقه، وأنه المستصفى الحلال لبيت المال بعد دفع أعطيات أهل البلد من المقاتلة والذرية، وبعد خصم النفقات على مصالح الولاية وشئونها، وبعد أن أخذ كل ذي حق حقه. وعلى هذا الأساس يتم قبول خراج الولايات وجباياتها، في بيت المال. فلا يدخل في بيت المال دينارُ ولا درهم، مما يُرسل به الولاة من خراج ولاياتهم، إلا إذا شهد هؤلاء العدول العشرة [6].

الفتوحات: أبناء الخلفاء في المقدمة

لقد كان الأمويين أصحاب أحلام كبيرة وكانوا رجال دولة من الطراز الأول وقد: كان العرب في ظل الأمويين يعتبرون كل حد وصلوه بداية لانطلاقة جديدة حتى وصلوا أعماق فرنسا وسويسرا من جهة وأطراف تركستان واحتضنوا حوض السند من جهة أخرى. وتطابقت ثلاثة مفاهيم بعضها فوق بعض. فالدولة الإسلامية هي نفسها الخلافة الإسلامية. وهي ذاتها دار الإسلام. وهذه الدولة الأموية هي الدولة الكبرى والأولى والوحيدة في العالم [7]. آنذاك. وشهدت الدولة الأموية أحداث جليلة عملاقة وفتوحات كثيرة: منها فتح قتيبة بن مسلم لبخارى وسمرقند ومد السيادة الإسلامية على آسيا الوسطى ( 705م ) وإتمام الفتح الإسلامي لشمالي أفريقيا وأول نزول للمسلمين بأسبانيا في حملة طريف (710م ) ثم فتح الأندلس وبداية أذكى وأثرى حضارة في البحر الأبيض المتوسط على يد طارق بن زياد ( 711م ) .. [8] بتوجيه وإشراف القائد الكبير موسى بن نصير والي أفريقية للوليد بن عبد الملك. ولم يقتصر موسى على هذه الفتوحات البرية، بل عمل على تقوية أسطوله لضرب القواعد البحرية البيزنطية، في حوض البحر المتوسط [9].... وقد: استطاع موسى أن يبني أسطولا قويا وأن يضرب قواعد البيزنطيين في جزر البحر المتوسط مثل صقلية وسردانيا وقورسيقا وجزر البليار، فشلّ بذلك حركة الأسطول البيزنطي [10].

وفي عهد الدولة الأموية، وصلت سفن المسلمين إلى الصين، (و) أقام المسلمون علاقات تجارية مع الصينيين، وكان للمسلمين في (كانتون ) جالية عربية مسلمة قوامها مائة ألف شخص أو تزيد، كانوا يلقون أفضل معاملة، بأمر من إمبراطور الصين [11]. وقد أرسلت الدولة الأموية سبع عشرة سفارة إلى عاصمة الصين، وأجرى القائد العسكري قتيبة بن مسلم الباهلي مفاوضات مع إمبراطور الصين للدخول إلى بلاده سلما [12].

وعلاوة على ذلك هناك أيضا ، حروب الشواتي والصوائف التي سنها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، بعد أن استقرت خلافته، وسار عليها من جاء بعده من الخلفاء الأمويين. بل وقاموا بتفعيلها بما يتجاوز العهد السابق. وحرب الشواتي والصوائف هي تلك الغزوات الجهادية المتواصلة التي شنها المسلمون ضد الإمبراطورية البيزنطية دفاعًا عن حدود العالم الإسلامي، وتصديا للمحاولات البيزنطية الهادفة إلى استعادة الشام، وتعزيزا لمكانة الإسلام، ومحاولة لتقويض أركان هذه الإمبراطورية المعادية للإسلام وأهله، والتي تحصنت بالموقع الفريد لعاصمتها القسطنطينية، وببعض الثغور) التي بقيت لها خطّاً دفاعيًا في آسيا الصغرى، حيث كانت مواجهة طويلة وصعبة مع الأمويين الذين كان فتح العاصمة البيزنطية، أحد أبرز الأهداف العسكرية لمعظم خلفائهم. أملا في أن تتحقق البشارة النبوية بفتح هذه المدينة على أيديهم. وقد بلغت الغزوات في عهد معاوية اثنتا عشرة شاتية، وثلاث صوائف، عدا غزوات لم تندرج في هذه أو تلك منها غزوة يزيد بن معاوية إلى القسطنطينية سنة 49هـ، على سبيل المثال وهي من أكبر وأجرأ الحملات التي قام بها المسلمون ضد القسطنطينية، وشارك فيها الصحابي الشهير أبو أيوب الأنصاري، وأبناء الصحابة: عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير.

وهناك عشرات الغزوات التي حدثت في عهد خلفاء بني مروان ما بين شواتي وصوائف وغزوات أخرى شملت الثغور البرية والبحرية للدولة البيزنطية، وتحققت خلالها أعظم الانتصارات والفتوحات، وأفرزت عشرات أعظم القادة والفاتحين المسلمين الذين ارتبطت بهم هذه الجبهة. فضلا عن قطع أمل الإمبراطورية البيزنطية نهائيا من إمكانية العودة إلى الشام، بقرتها الحلوب السابقة. وقد استمرت هذه الغزوات من عام 45هـ، حتى أواخر عشرينيات القرن الثاني للهجرة أي إلى قبيل سقوط الدولة الأموية بعامين أو ثلاثة.

وتجدر الإشارة إلى أن أبناء الأسرة الحاكمة الأموية، كانوا على رأس الكثير من هذه الغزوات، وقد عرفنا منهم على الجبهة البيزنطية: محمد بن مروان الذي عرف بـ (قائد الصوائف)، وابنه عبد الله بن محمد بن مروان، وعرفنا من أبناء عبد الملك: مسلمة بن عبد الملك، الذي اقترنت باسمه معظم الحملات في عهد أخيه الوليد وما بعده، وهو أعظم القادة الذين عرفتهم هذه الجبهة غير منازع، وسعيد بن عبد الملك، وعرفنا من أبناء الخليفة الوليد بن عبد الملك: العباس بن الوليد، وعبد العزيز بن الوليد، وعمر بن الوليد، ومروان بن الوليد، وبشر بن الوليد، وعرفنا منهم من أبناء الخليفة سليمان بن عبد الملك: داود بن سليمان، وعرفنا منهم من أبناء الخليفة هشام بن عبد الملك : معاوية بن هشام، وإبراهيم بن هشام، وسعيد بن هشام، وسليمان بن هشام، ومسلمة بن هشام. وعرفنا من أبناء يزيد بن عبد الملك: النعمان بن يزيد، فهؤلاء أما أن كانوا يتناوبون في الخروج مع مسلمة بن عبد الملك أو يتولون قيادة الجيوش والخروج إلى الغزو بأنفسهم سواء في ظل خلافة آبائهم أو إخوانهم أو أعمامهم. إضافة إلى العديد من القادة من أبناء عمومتهم من البيت الأموي والقادة الآخرون من بقية المسلمين. 

إصلاحات الأمويين

وفضلا عن الفتوحات الإسلامية العظمى التي حدثت في عهدها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، والتي كانت النخبة الحاكمة في الدولة الأموية هي المقرر المنشئ الناظم لها، إلى جانب سدِّ الثغور، وحماية البيضة، وصهر الشعوب في البوتقة العربية الإسلامية، وإلى جانب أعمال ومنجزات الأمويين العمرانية، وأعمالهم الإصلاحية الجليلة في الاقتصاد والإدارة والمال، وغير ذلك من الأمجاد التي رسخت الإسلام، ووطدت أركانه، فإن الدولة الأموية، قدمت شخصيات فذة، تركت آثارًا ضخمة في ميادين السياسة والحرب والإدارة والعلم والثقافة، واستمرت تقود المسلمين، آنذاك، على اختلاف أجناسهم، وألوانهم وقبائلهم وطموحاتهم أكثر من تسعين عامًا في دولة واحدة، امتدت من حدود الصين إلى جنوبي فرنسا [13].. ولا زال جامع بني أمية في الشام والجامع الكبير في قرطبة حديث الدنيا وشاهدا على ما تركه بنو أمية من الأوابد الخالدة [14]." ومنها أيضا مسجد قبة الصخرة في القدس، والمسجد - كما وصفه الدكتور عبد الوهاب عزام (1893 - 1959) - يشبه جامع بني أمية العظيم الذي في دمشق، ولكن جامع دمشق أضخم بناء وأعلى عمداً وأحكم صنعة، وعرض مصلاه قليل وطوله مفرط . ورحم الله بني أمية لقد بقي على الدهر بناؤهم، وثبتت على رجفات الزمان آثارهم فلا تزال دمشق وبيت القدس وقرطبة تشهد لهم بما شادوا وما عمروا [15] " .وفي الفترة الأموية قامت عملية ترجمة واسعة بتعريب الدواوين المالية في الولايات الشرقية، وهي عملية أنجزت خلال نصف قرن، فأغنت العربية ومكنتها أن تصبح لغة الإدارة لا لغة الثقافة وحسب [16]. بل إن كثيرًا من الخلفاء (الأمويين) كانوا مهتمين بالعلم، وكانوا على قدر كبير من الوعي والثقافة يرغبون في إبراز دولتهم بقوة مجلس بلاطهم من العلماء [17]. لقد بدأ الاهتمام بالعلوم في شتى صورها يبرز في عهد الدولة الأموية، وتم التراكم شيئا فشيئا، إلى أن بلغ الذروة في عهد الدولة العباسية. ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض المؤرخين، ميلهم إلى تجاهل المساهمات التأسيسية للتقدم العلمي والفكري والفلسفي للحضارة العربية الإسلامية،التي بدأت خلال الفترة الأموية، وأصبحت قاعدة للانطلاق الكبير الذي عرفته الفترتان العباسيتان الأولى والوسطى. فعلى سبيل المثال لا الحصر كان الأمويون هم أول من اهتم بتكوين خزائن الكتب وبناء المكتبات التي كانت ذات طابع خاص في بداية أمرها، ولعل أشهرها، مكتبة الأمير خالد بن يزيد بن معاوية )المتوفى عام 705م)، ومكتبة الخليفة الوليد بن عبد الملك (حكم من 705 إلى 715م) ، وكانت الأخيرة تضم كتبا باللغة اللاتينية جمعها فاتح الأندلس القائد طارق بن زياد، وحملها إلى دمشق مع قائده موسى بن نصير، وحتى بدايات حركة الترجمة التي سيكون لها شأن كبير في العصر العباسي بالنسبة لنقل علوم الأقدمين، لم تبتدئ مع العباسيين، بل تحت حكم الأمويين [18]

ومثلما أهتم الأمويون بالفتوحات والأعمال العمرانية والإصلاحات الإدارية والمالية، والعلم والثقافة لم يغب عنهم الاهتمام بالزراعة. فخلال حكم الدولة الأموية أنشئوا السدود وخزانات المياه في الكوفة واستخدموا بحر النجف لهذا الغرض لتخفيف وطأة الفيضانات، وسعى (عبد الملك بن مروان) لإحصاء كميات الأمطار بالإمكانات المتاحة لديهم في ذلك الوقت، فقد بدأ في تلك الفترة بداية الاهتمام بالأنواء عن العرب والمسلمين، كما عمل (الحجاج) والي العراق على إقامة السدود لتجفيف البطائح (المقصود بها الأهوار) وإعمار شمال مدينة البصرة وبمساحة نحو مئة ألف دونم [19].

ومن أهم السدود التي أنشأها الأمويون هو سد )خربقة( مع خزان ضخم لتخزين وجمع المياه وتوزيعها، وقد كان هذا السد والخزان يقع على الطريق المؤدية من مدينة دمشق إلى مدينة تدمر ويبدو أن العرب والمسلمين أعادوا إنشاء هذه المدينة بعد أن أصبحت أطلالاً في القرون الخوالي، والجميل في الأمر أن الأمويين استخدموا الأقنية الخزفية وشبكة ري حجرية في توزيع المياه هناك [20] •

وهذه السدود كانت الأساس لانتشار وتطور صناعة السدود في العهد العباسي على نطاق واسع. وكل هذه الأعمال مجرد أمثله بسيطة لأن أعمال وإصلاحات الخلفاء الأمويين كثيرة جدا ولا يمكن حصرها.

جناية المؤرخين على الأمويين

وبالنسبة لباقي مطاعن المؤرخين، في الدولة الأموية فهي لا تخلو من الانتقائية واللغط والتهويل والمبالغات: لقد سجلوا العابر السياسي، وهو الأقذار الطافية على السطح، ولم يروا ولا استطاعوا تسجيل التيار العميق... فنحن نتعامل مع ما كتبوا كالعميان في مصنع الخزف، نلوح بالعصا لنعرف الطريق، فإذا بنا نكسر الآنية [21]. فتم وصف عصر الأمويين بأنه عصر مؤامرات سياسية، ورِدَّةٍ خُلُقية، واضطراب اجتماعي، وخلل اقتصادي، واستهانة بمقدسات المسلمين..ومجمل ما كالوه في كتبهم من تهم للدولة الأموية ، وأثاروه من شبهات حولها، لا يتفق مع عظمة منجزات هذه الدولة، سالفة الذكر [22]، ولا مع مناقبها في دفع حركة التاريخ والحضارة نحو الحق والعدل، ولا مع عظمة المئات من أصحاب المواهب الفذة، والشخصيات البارزة، من القادة الفاتحين والإداريين القديرين، ومن حملة الحديث وحفظة الآثار، وغيرهم من العلماء المرموقين، الذين قدمهم هذا العهد.

نعم كان بنو أمية ملوكا ولكن: لم يكن مذهبهم في الملك مذهب أهل البطالة والبغي إنما كانوا متحرين لمقاصد الحق جهدهم إلا في ضرورة تحملهم على بعضها مثل خشية افتراق الكلمة الذي هو أهم لديهم من كل مقصد يشهد لذلك ما كانوا عليه من الإتباع والاقتداء وما علم السلف من أحوالهم ومقاصدهم فقد احتج مالك في الموطأ بعمل عبد الملك وأما مروان فكان في الطبقة الأولى من التابعين وعدالتهم معروفة ثم تدرج الأمر في ولد عبد الملك وكانوا من الدين بالمكان الذي كانوا عليه وتوسطهم عمر بن عبد العزيز فنزع إلى طريقة الخلفاء الأربعة والصحابة جهده ولم يهمل ثم جاء خلفهم واستعملوا طبيعة الملك في أغراضهم الدنيوية ومقاصدهم ونسوا ما كان عليه سلفهم من تحري القصد واعتماد الحق في مذاهبها فكان ذلك مما دعا الناس إلى أن نعوا أفعالهم وأدالوا بالدعوة العباسية منهم [23]. 

وإن كان قد نجح ذلك التهويل واللغط إلى حد كبير في إسدال الحجب السميكة على انتصارات الأمويين – التي هي انتصارات الأمة - مقابل إبراز سلوك الأفراد ونقائصهم وعيوبهم وحياتهم على المستوى الشخصي، حتى:غطت القصص الأدبية الملفقة التي حيكت عن يزيد والوليد وقصص استبداد الحجاج على أولى انتصارات المسلمين في الهند وعبور جيحون إلى بلاد الترك ( من 664 إلى 667) والحدث الحاسم المتمثل في فتح المغرب الإسلامي وتأسيس القيروان (670) وضرب أول دينار عربي (695) واستقرار مؤسسات الدولة الإسلامية على يدي عبد الملك بن مروان وغير ذلك من الأمجاد التي رسخت الإسلام ووطدت أركانه [24].. وعبد الملك بن مروان هو المؤسس الثاني للدولة الأموية وكان "خليفة يتسم بالحكمة والرزانة" وكان سياسيًّا ماهرًا، وإداريا كفئًا وقائدًا مغوارًا، استخدم الشدة والعزم في تثبيت أركان الدولة، وهذا إلى جانب فصاحته وفقهه وغزارة علمه ورجاحة عقله، وحسن تدبيره، وما تميز به من قدرة على تحليل الأمور بعمق، ومعالجتها بما تستحقه من لين أو حزم. وهو أول من ضرب الدنانير، وأول من نقل الديوان من الفارسية إلى العربية، وأول من كسا الكعبة بالديباج، وهو "أول خليفة أفرد للظُلامات وقتاً مخصوصاً، وأسلوباً معيناً. فكان يخصص لها يوماً معيناً، وكان يتصفح الظُلامات، فإن أشكل عليه شيء منها دفعه إلى قاضيه ليحكم به، ثم صار الخليفة يرتب عنه نُواباً ينظرون في ظُلامات الناس، وصار للمظالم جهاز خاص، وكان يُسمى (دار العدل(." وهنا أيضا ينجح التحريف التاريخي والأيديولوجي في إسدال الحجب السميكة على انتصارات الأمة بواسطة إبراز سلوك الأفراد..حتى صارت أخبار الوليد بن عبد الملك بن مروان وحاشيته وقصره تنشر سحابا سميكا على أحداث جليلة عملاقة منها فتح قتيبة بن مسلم لبخارى وسمرقند ومد السيادة الإسلامية على آسيا الوسطى ( 705م ) وإتمام الفتح الإسلامي لشمالي أفريقيا وأول نزول للمسلمين بأسبانيا في حملة طريف (710م ) ثم فتح الأندلس وبداية أذكى وأثرى حضارة في البحر الأبيض المتوسط على يد طارق بن زياد ( 711م ) ... [25]. وكان الوليد بن عبد الملك، الذي حدثت في عهده كل هذه الفتوحات والأعمال الجليلة، كان مع كل ذلك : يختن الأيتام ويرتب لهم المؤدبين ويرتب للزمني من يخدمهم وللإضراء من يقودهم ، وعمر المسجد النبوي، ووسعه ورزق الفقهاء والضعفاء وحرم عليهم سؤال الناس وفرض لهم ما يكفيهم وضبط الأمور أتم ضبط [26]، وبلغت الدولة في عهده ذروة الاستقرار والرخاء. ويرى أحد المؤرخين المعاصرين أن الوليد بن عبد الملك: كان من هذا الصنف من الحكام الذي يطلق عليه البناء الأعظم ـ وهو من أجود الحكام في نظري ـ فقد أتم بناء قبة الصخرة وأمر بإنشاء مسجد المدينة وحفر الآبار في طريق الحجيج من الشام إلى مكة وأقام "البيمارستانات" لعلاج المرضى. وجاءت لحظة مجده عندما وقف أمام أهل دمشق وهو يقول لهم: "أنتم تفخرون على الدنيا بخصال أربع: طيب هوائكم وعذوبة مائكم ونضارة فاكهتكم ونظافة حماماتكم فأحببت أن يكون مسجدكم هي الخامسة" وقد كان [27].

ثم تمضي في حب إطلاعك على قمة عهد بني أمية في انتشار الحضارة الإسلامية، فيهولك ما تعرض له هذا الزمن المجيد الأبي من طمس، فتطفو على سطح الكتب مغامرات يزيد بن عبد الملك وحكايات هشام بن عبد الملك التي يعوز معظمها التحقيق العلمي، بينما تغرق في قاع التناسي المتعمد أعمال عظمى غيرت مجرى التاريخ مثل فتح نربونة بجنوبي فرنسا (719م ) ثم أن مجدا أثيلا مثل بسط السلطان الإسلامي على كامل جنوب فرنسا لمدة ربع قرن يندثر تماما لكي تنفرد منه بالتعريف معركة بلاط الشهداء.. كما تندثر مناقب الدولة الأموية في دفع حركة التاريخ والحضارة باتجاه الحق والعدل لتنقل لنا كتب الرواة أخبار الشاعر عمر بن أبي ربيعة والوصلات الغنائية لمعبد والفريض وابن سريج وابن عائشة والأبجر [28]. 

من كتب تاريخ الأمويين؟

وإن هذا وغيره لكاف لجعل الغيارى من مؤرخي هذه الأمة يعيدون النظر في التاريخ المكتوب حول بني أمية...فيعملوا على إعادة تدوينه وفقا لرؤية شاملة بإمانة وموضوعية ومنهجية تاريخية صحيحة. وذلك من الأهمية بمكان لأن معرفة الماضي وسيلة لتطوير الحاضر، وتحسين المستقبل على النحو المشرق، الذي يرجى لهذه الأمة. ونحن لم نعرف بعد ماضي الأمويين على حقيقته، وإنما عرفنا الجزء المشوه منه. 

وقد تكون الإشكالية الكبرى التي أدت إلى كل هذا هي أن تاريخ هذه الدولة الأبية الماجدة، كتب أغلبه في عهد الدولة العباسية، من قبل مؤرخين معظمهم كانوا تابعين أو متكسبين، أو كان قصدهم أن يسيئوا إلى سمعة بني أمية في نظر الجمهور الإسلامي، أو من قبل مؤرخين من الشيعة الناقمين على بني أمية.. والشيعة معروفون بالانحياز لأفكارهم وأهواءهم حتى في كتابة التاريخ. لقد سود مؤرخو الروافض وشيوخهم آلاف الصفحات بسب أفضل قرن عرفته البشرية، وصرفوا أوقاتهم وجهودهم لتشويه تاريخ المسلمين.

وليس القصد هاهنا أن ننتصر للأمويين فنسيء للعباسين ولا أن نشوه صورة الخلفاء العباسيين لكي نلمع صورة الخلفاء الأمويين. فالعباسيون ، ومثلهم الأمويون، فيهم الصالح والطالح والقوي والضعيف والمستقيم والفاسد، والظالم والجائر، وكلا الفريقين بشكل عام، مثلما لهم سلبيات كثيرة، لهم إيجابيات كثيرة، وكل من هؤلاء وأولئك بشر يخطئون ويصيبون ويحسنون ويسيئون، ويجري عليهم ما يجري على سائر البشر. ولكن مادام أن الأمويين لم يتسن لهم كتابة تاريخهم بأيديهم ولا كتب هذا التاريخ مؤرخون في بلاطهم أو تحت إشرافهم أو حتى في أثناء فترة خلافتهم، ومادام أن هذا التاريخ قد بدأ يكتب بعد استقرار الأمور للعباسيين، الذين صعدوا إلى سدة الحكم تؤازرهم قوة الموالي والعجم، وقامت دولتهم على أشلاء الأمويين وعلى أنقاض دولتهم. فحري بنا أن لا نتوقع من العباسيين والموالي والعجم، وهم أعداء الأمويين ومقوضي خلافتهم، أن ينتصروا للأمويين أو أن يكونوا موضوعيين أو حياديين في كتابة تاريخهم وتسجيل وقائعهم وأخبارهم، والتاريخ إنما يكتبه المنتصرون كما يقال. وهذا ما حدث بالفعل، لا سيما: مع اتخاذ الخليفة مؤرخه الخاص به، مما تجلى على سبيل المثال في التحاق ابن اسحق بالمنصور، والواقدي بالمأمون، والبلاذري بثلاثة من الخلفاء (المتوكّل والمنتصر والمستعين)، من دون الانتهاء بالزبير بن بكّار الذي صنّف لأبي أحمد الموفّق – أخي الخليفة المعتمد - الكتاب المعروف بـ(الأخبار الموفقيات . [29]( وتذكر المصادر أن الخلفاء العباسيين كانوا يتوقون دائماً إلى سماع تاريخ بني أمية وسير حياتهم، ويروى أن الرشيد طلب من الأصمعي أن يحدّثه عن الخليفة سليمان بن عبد الملك, فذكر الأصمعي في حديثه للرشيد أن سليمان كان نهماً في الأكل حتى أنه كان يجلس وتوضع بين يديه الخراف المشوية و(هي كما أخرجت من تنانيرها), فيريد أن يأخذ شيئاً منها، ولكن الحرارة تمنعه عن ذلك، (فيجعل يده على طرف جبته ويدخلها في جوف الخروف فيأخذ ما يريده منها، فقال الرشيد للأصمعي: (قاتلك الله, ما أعلمك بأخبارهم. اعلم أنه عرضت علي (ذخائر بني أمية ، فنظرت إلى ثياب مذهبة ثمينة وأكمامها (ودكة) بالدهن، فلم أدر ما ذلك حتى حدثتني بالحديث). ثم قال الرشيد:إلى بثياب سلمان، فأتي بها، فنظر إلى تلك الآثار فيها ظاهرة, فكساني منها حلة، وكان الأصمعي يخرج فيها أحيانا فيقول (هذه جبة سليمان التي كسانيها الرشيد [30].

كما أن هذا أيضا لا يمنع من وجود مؤرخين أو إخباريين متكسبين حاولوا إرضاء العباسيين وتبييض وجوههم، وكسب ودهم أو نيل عطاياهم وجوائزهم، أو إرضاء أي فريق آخر، على حساب تسويد وجوه الأمويين والتحامل عليهم. ناهيك عن بقية المؤرخين من أتباع الطائفة المخذولة كالمسعودي في مروج الذهب، كاليعقوبي، وابن طباطبا. أو من الموالي والعجم الذين قد يكونوا متأثرين بعصبيتهم الفارسية، كالطبري وأبي حنيفة الدينوري (فكلاهما فارسي). وقد أشار الأستاذ محب الدين الخطيب في حاشية العواصم إلى أن التدوين التاريخي إنما بدأ بعد الدولة الأموية، وكان للأصابع الباطنية والشعوبية المتلفعة برداء التشيع دور في طمس معالم الخير فيه وتسويد صفحاته الناصعة [انظر: العواصم من القواصم (الحاشية) ص:177] [31].

يقول الدكتور حسين أحمد أمين، متحدثا عما نصحه به والده في طفولته حول الأحداث التاريخية التي ينبغي توخي الحيطة والحذر عند قرأتها في كتب المؤرخين، يقول: ثم ضرب لي أبي يومها أمثلة أخرى: كالحرب بين علي ومعاوية، وتاريخ الدولة الأموية كله، وهما ما لم يتعرض لهما من المصادر القديمة سوى مؤرخين كتبوا في ظل دولة العباسيين الذين أسقطوا حكم الأمويين، أو مؤرخين من الشيعة الناقمين على بني أمية... أما فيما يتعلق بتراجم شخصيات التاريخ الإسلامي، فقط يكفي أن نذكر في هذا الصدد الظلم الفادح في التراجم التي وصلتنا عن الحجاج بن يوسف الثقفي وزياد بن أبيه وعبيد الله بن زياد- وجميعهم من أعظم الإداريين في تاريخ البشرية- لا لشيء إلا لأن ميول كتابها كانت إما شيعية أو عباسية.. [32] 

ونحن طبعا – مع هذا وذاك - لا نلغي وجود مؤرخين سواء في هذا العهد أو في العهود اللاحقة، حاولوا تسجيل تاريخ الأمويين بحيادية وموضوعية.

الأمويون وأهل البيت

ومن أبرز ما يشنع به على الأمويين مسألة لعن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه من فوق المنابر.. ويقولون أن ذلك كان سنة في عهدهم، قبل عمر بن عبد العزيز، ومنهم من يقول أن ذلك استمر خمسين سنة، ومنهم من يقول ثمانين سنة، بل ويزعمون أن الذي ابتدع ذلك هو سيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما. وهي تهمة صار بتداولها كثير من المثقفين والكتاب في زمننا هذا، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التحقيق في مصدرها بل صاروا يتمثلون بها وكأنها مسلمة من المسلمات. ولو أننا حققنا في هذه المسألة أو التهمة لوجدنا أنها تدخل في جملة حملة الافتراءات والشبهات التي أثيرت وتثار حول الأمويين وحول سيدنا معاوية رضي الله عنه من قبل الروافض المبطلين المتربصين وأشباههم، ومن قبل أعداء الإسلام الحاقدين من المستشرقين وتلامذتهم.

وقد تكفل المؤرخ الليبي الكبير الدكتور علي محمد الصلابي– بتفنيد هذه الشبهة بالأدلة والبراهين، وأوضح وأبان، فقال: تذكر كتب التاريخ أن الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز كانوا يشتمون علي.. وهذا الأثر الذي ذكره ابن سعد لا يصح، قال ابن سعد: فهذا الأثر واهٍ، فعلي بن محمد – رواي الأثر - هو المدائني فيه ضعف وشيخه لوط بن يحي، واهٍ بمرة، قال عنه يحي بن معين: ليس بثقة، وقال أبو حاتم: متروك الحديث، وقال الدارقطني: أخباري ضعيف ووصفه في الميزان: أخبار تالف لا يوثق به، وعامة روايته عن الضعفاء والهلكى والمجاهيل، وقد اتهم الشيعة معاوية رضي الله عنه بحمل الناس على سب علي ولعنه فوق منابر المساجد، فهذه الدعوة لا أساس لها من الصحة، .. ولم يثبت قط في رواية صحيحة، ولا يعول على ما جاء في كتب الدميري، واليعقوبي وأبي الفرج الأصفهاني، علماً بأن التاريخ الصحيح يؤكد خلاف ما ذكره هؤلاء، من احترام وتقدير معاوية لأمير المؤمنين علي وأهل بيته الأطهار، فحكاية لعن علي على منابر بني أمية لا تتفق مع منطق الحوادث، ولا طبيعة المتخاصمين، فإذا رجعنا إلى الكتب التاريخية المعاصرة لبني أمية، فإننا لا نجد فيها ذكراً لشيء من ذلك أبداً، وإنما نجده في كتب المتأخرين الذين كتبوا تاريخهم في عصر بني العباس بقصد أن يسيئوا إلى سمعة بني أمية في نظر الجمهور الإسلامي، وقد كتب ذلك المسعودي في مروج الذهب وغيره من كتَّاب الشيعة وقد تسربت تلك الأكذوبة إلى كتب تاريخ أهل السنة ولا يوجد فيها رواية صحيحة صريحة، فهذه دعوة مفتقرة إلى صحة النقل، وسلامة السند من الجرح، والمتن من الاعتراض، ومعلوم وزن هذه الدعوة عند المحققين والباحثين، ومعاوية رضي الله عنه بعيد عن مثل هذه التهم بما ثبت من فضله في الدين، وكان محمود السيرة في الأمة، أثنى عليه بعض الصحابة ومدحه خيار التابعين، وشهدوا له بالدين والعلم، والعدل والحلم، وسائر خصال الخير . وقد ثبت هذا في حق معاوية ـ رضي الله عنه ـ كما أنه من أبعد المحال على من كانت هذه سيرته، أن يحمل الناس على لعن علي رضي الله عنه على المنابر وهو من هو في الفضل، ومن علم سيرة معاوية ـ رضي الله عنه في الملك، وما اشتهر به من الحلم والصفح، وحسن السياسة للرعية ظهر له أن ذلك من أكبر الكذب عليه، فقد بلغ معاوية ـ رضي الله عنه في الحلم مضرب الأمثال، وقدوة الأجيال.. [33]

وأنا هنا لست بصدد تنزيه بني أمية، ولا أقول أن سيرتهم نسيج خالص من الفضائل، ولا أزكيهم على الله، وإنما أحسبهم كذلك، والله حسيبهم.

وعلى أي حال: " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون ") البقرة:134)، وسئل عمر بن عبد العزيز عن علي وعثمان وصفين وما كان بينهما فقال: تلك دماء كف الله يدي عنها وأنا أكره أن أغمس لساني فيها. " وغاية الأمر أن الباقي لنا من كل ذلك الاستفادة مما كان. فالعاقل كل همه أن يتعلم ويفهم، لا أن يحقد على قوم لم تبق منهم باقية" كما قال أحد العلماء.

وأن الأشرار – كما قال الإمام الغزالي رحمه الله – " لا يظنون بالناس كلهم إلا الشر فمهما رأيت إنسانا يسيء الظن بالناس طالبا للعيوب فأعلم أنه خبيث في الباطن وأن ذلك خبثه يترشح منه وإنما رأى غيره من حيث هو. فإن المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب العيوب والمؤمن سليم الصدر في حق كافة الخلق [34]".

إن السر المحتوم في القرآن هو أن نعتبر بالماضي وأن نتدبر حركة التاريخ ونـأمل الأسباب ونربط بينها وبين النتائج ولذلك نؤمل أن نعتمد التاريخ الصحيح للحضارة الإسلامية لا أن نعتمد التاريخ المحرف الذي وصلنا أغلبه عن طريق رواة الآداب وهم صناع أساطير ومثل من يأخذ عنهم اليوم كمثل من سيأخذ بعد ألف سنة عن أجهزة أعلام الغرب الراهنة لدراسة الإسلام في القرن العشرين [35].

***