محنة قطر...لا تحسبوه شرا لكم
بقلم/ إحسان الفقيه
نشر منذ: 7 سنوات و 5 أشهر و 12 يوماً
الأحد 11 يونيو-حزيران 2017 11:54 م
 

كان الخطب جلل، والفتنة كقطع الليل المظلم، وزُلزل المجتمع الإسلامي الأول زلزالا شديدا، فالإشاعات المُغرضة قد سرت كالنار في الهشيم، تنال من عرض أشرف المرسلين، فحبيبته وزوجته في الدارين ( عائشة ) ، تُتّهم في شرفها زورا وبهتانا..!!

أيام عصيبة مضت على رسول الله وزوجه والمؤمنين، فنزل الوحي ببراءتها من فوق سبع سموات، ونزلت معه الطمأنينة بأن هذه الفتنة حمَلت بين طياتها الخير للمجتمع المسلم :

{لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم}.

إنها نوعية من الأزمات المزلزلة التي تنفرج عن شدة البأس وتمايُز الصفوف وانجلاء الحقائق، إنها آثار مُلهمة، تجنح إليها ذاكرة اللبيب، فتقتبس منها للاستبصار، فلكل محنة منحة، وفي أزمة الخليج العاصفة كذلك ، منحٌ ومنح .

أعرضتُّ عن المتشائمين هواة النظر إلى نصف الكوب الفارغ، وسِرتُ على خطى يعقوب إذ قال: ( إني لأجد ريح يوسف )، وها أنا أسمع في هذه الأزمة الطاحنة أصداء ذات النداء (لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم).

هو خير لقطر تلك الدولة الغضة الطريّة التي اشتد عودها، ذكرتني بالنملة التي تحمل عشرات أضعاف وزنها، ونعم ، جاءت هذه الضربة لتُقوّي الظهر وتشد الصلب وتصقل المعدن، فكما قال الأجداد "الضربة التي لا تقصم ظهرك ، تُقوّيه".

هو خير لقطر لأن الأزمة عزّزت لُحمتها الداخلية، وتشبّعت صدور القطريين بنسائم العزة والإباء التي هبّت عليها من ضراوة الأحداث، جعلتهم يستشعرون قسوة الاستهداف الدولي ملحا أجاجا، فأدركوا جميعا أن إلتفافهم حول قيادتهم، هو واجب الوقت وليس محض ضرورة وحسب، أعطتهم الفرصة لإثبات وجودهم على غرار الشعب التركي الذي وقف كالطود العظيم أمام الانقلاب الفاشل الذي كاد يعصف بوطنه.

هو خير لقطر لأن الأزمة كشفت للعالم قوة الدولة القطرية وسياساتها الحرة المستقلة المرنة المنفتحة على الجميع، وسوف تُعزز هذه الأحداث من تمسك قطر بتلك الاستقلالية والعضّ عليها بالنواجذ لأن التراجع عن تلك السياسات يعني تخليها عن سيادتها وهو ما يستحيل أن تقبل به أي دولة ذات سيادة.

وخير لقطر لأنها كسبت تعاطف الشعوب الإسلامية والعربية، حتى شعوب الدول التي قامت بالمقاطعة، وهو تسويق ذكي للسياسة القطرية ، لو كانوا يعلمون.

وخير لقطر لأن هذه الأحداث الجسام ستكسبها صلادة وخبرة في التعامل مع الأزمات الكبيرة، وقديما أتحفنا الإمام ابن الجوزي بإحدى روائعه، وهو يصوّر لنا حوارا بين الماء والزيت، فحين صُبّ الماء على الزيت، صعد الثاني عليه، فقال الماء معترضا: أنا ربّيتُ شجرتك فأين الأدب؟ لِم ترتفع علي؟ فيقول الزيت واثقا: أنت في رضراض الأنهار تجري على طريق السلامة، وأنا صبرت على العصر وطحن الرّحا وبالصبر يرتفع القدر".

هو خير لقطر يكون تبرئة لها من التّهم التي أُلقيت عليها جزافا، فسيحصرون تلك التهم في الكلام المُرسل الفضفاض الذي لا دليل عليه، وعندما تنعدم الأدلة والوثائق المادية على تلك التهم والتي من المفترض أن تظهر بعد المواقف الرسمية، سيكون فيه إضافة قوية إلى رصيد قطر من النزاهة.

هو خير لقطر لأن هذه الأحداث عزّزت من علاقتها بتركيا القوية والتي لم تنسَ أن قطر كانت أولى الدول التي وقفت إلى جوارها في الانقلاب الفاشل، وظهرت إرهاصات هذا التعزيز في العلاقات من خلال تصريحات أردوغان بدعمه قطر في محنتها، وتصديق البرلمان التركي على إرسال قوات إلى قطر، وتحدث ما شئت عن الجانب المصلحي، فلعمري قد تشابهت الدولتان في الجمع بين الجانب الأخلاقي في السياسة، وبين مراعاة المصالح الذاتية.

وهو خير لدول الخليج أيضا، فسوف تنفرج هذه الأزمة -مهما كان مآلها- عن إعادة ترتيب البيت الخليجي، بعد أن تتمخّض الأحداث عن تمايز الأمين والمريب، الصادق والكذاب ، المُتلاعب والمُحب ، ومن الذي يسعى لأن يعيش ويدع غيره يعيش، ومن الذي يسعى لأن يعيش على جثث الآخرين ممن موّل ذبحهم.

خير لدول الخليج ، لأنه كشف عن وعي الشعوب وحُسن متابعتها وقراءتها للأحداث وقوة تفاعلها مع الأزمة، وهو أمر يُنبئ بقرب استكمال الإصلاحات السياسية الناقصة في تلك الدول التي نروجو قوّتها وسلامتها وننتمي الى كل خير فيها ..

وهو خير للمقاومة الفلسطينية، التي سطع إسمها بقوة في تلك الأحداث، وعلم القاصي والداني محوريّتها في الأزمة، وأنها الأساس التي تقام في ضوئه التحالفات، ومن ثم سيزيد من رصيد المقاومة في الداخل والخارج لدى الشعوب الإسلامية والعربية.

هو خير للسعودية خاصة، والتي فيها قبلة كل مسلم، وتهوى إلى أرضها الأفئدة، لأن هذه الأحداث كشفت وستكشف عن الأيادي الخفية التي تعبث بإعلام المملكة وأمنها واستقرارها، وتسعى لابتلاعها وتوجيه دفة قراراتها السياسية بخُبث دنيء وأساليب جهنميّة.

وهو خير للمقاومة الفلسطينية في ازدياد إيمانها بثباتها على المقاومة كخيار استراتيجي، حيث تبين لحركة حماس خاصة أنها بعد كل محاولات كسر الطوق والانسجام مع المجتمع الدولي عبر الوثيقة السياسية الأخيرة والتي تضمنت القبول بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967، أن كل هذه المحاولات لن يرضى عنها زبانية البيت الأبيض، وهو ما ظهرت آثاره في تلك الأزمة التي اعتبرت حماس جماعة إرهابية ينبغي على قطر قطع العلاقات معها.

وهو خير للأمة بأسرها، لأننا بصدد مرحلة جديدة من وعي الشعوب الإسلامية والعربية كشفت عنه تلك الليالي العصيبة التي عشناها بين تخوين وتشكيك وشيطنة وفبركة وتشويه، فالمواطن العربي لم يعُد غائبا عن الأحداث كسابق عهده، ودخل في تلك المرحلة بعد ثورات الربيع وما تلاها من أحداث جسام متتالية.