عراقية في غزة
بقلم/ سامي الأخرس
نشر منذ: 16 سنة و 7 أشهر و 28 يوماً
الإثنين 24 مارس - آذار 2008 07:54 م


أيام قليلة وتهل علينا ذكري احتلال العراق هذه الذكري التي تصادف التاسع من ابريل والتي تم إضافتها للأجندة الخاصة التي تمتلئ بالهزائم والنكسات والنكبات التي ورثناها من الماضي ، وعشناها في الحاضر ، والله يستر منها في المستقبل رغم كل أن المؤشرات تدل على أن سلسلة الهزائم وحلقاتها لن تشهد تفكك على المدى المنظور ، حيث لا زالت هذه الأمة تبحث عن رغيف الخبز ومجابهة الفقر والظلم والاضطهاد ، ولم تستعد بعد للبحث عن الانتصار ليزاحم الهزيمة ويطردها من أجندتنا العربية.

وبما أن هذه الذكري تضاهي بمصابها نفس المصاب الجلل والحزن والألم الذي نشعر به كلما مرت علينا ذكري ضياع فلسطين وهزيمة الأمة العربية ، أصبحنا نستعد جميعا للكتابة عن ذكريات الهزائم وكأحد أولئك الذين أرادوا أن يكتبوا عن احتلال العراق أعلنت حالة الطوارئ والعصف الفكري والذهني مستذكرا كل الأحداث التي سبقت الاحتلال ، والتي صاحبت عملية الغزو ، والمرحلة التي أعقبته حتى راهن اللحظة .

وهنا بدأت أنبش وأبحث عن شيء أكتب عنه ليتذكر العالم أن هناك بلدُ مُحتل ، وشعبُ يُقتل ويُذبح ، وخيراتُ تُنهب ، وحكايات تُدمي القلب تتناقلها طيور العراق المهاجرة والتي لم يَعُد لها مكان في سماء بلاد الرافدين ، وبلابل لم تَعُد تُغرد حباً وعشقاً للنخيل ، ونساءُ تكفف دموعها حزنا ، وأرامل تحمل آهاتها باحثة عن أمل وسط حطام الموت العاصف من كل صوب وحدب ، أم أكتب عن ثرواتُ أصبحت مشاع وغنائم تُوزع لمستثمرين السياسة أم عن أرضٌ شرذمت وأصبحت كنتونات استثمارية ، عن ماذا أكتب وسط هذا الزحام من الجراح والألم ؟!!!

بلحظة شرود وتوهان بين الموت والضياع الذي يعيشه العراق قررت المغادرة من مأساة مرسومة تصرخ بنا أين العراق منكم ؟ فتوجهت إلي حيث المجهول الآخر إلي غزة حيث كان الطقس شديد البرودة ، والأمطار تتساقط بغزارة ، والشوارع خالية قاحلة ، غزة التي غادر أهلها بلحظة صوب بوابة صلاح الدين المعبر البري مع مصر في حالة هجرة مؤقتة كان الجميع يسير خلالها إلي الشطر الأخر من الحرية حسب الاعتقاد (العريش المصرية) ونادراً ما تجد في طريقك أحداً عائد إلي غزة التي تعاني جحيم الموت والحصار ، فالكل يحمل أملاً ويذهب .

مع صوت آذان المغرب وإذ بصوت هاتفي الخلوي الصامت دوماً ينبهني أو يزعجني برنين حاولت أن أتجاهله عدة مرات ، ومع إلحاح المتصل نظرت إليه نظرة بعصبية ، ولكن ما أن وقع نظري علي رقم المهاتف لي حتى سارعت بالرد وإذ بي اسمع صوت يقول مرحبا سامي أنا مريم العراقية ، وبعد صدمة المفاجأة وعبارات الترحيب الشديد إذ بها تقول لي أنا أمام بوابة صلاح الدين ، وأمام هذا الحلم اليقظ جاءني صوت رجولي آخر ذو لهجة فلسطينية يقول نحن أمام محطة بهلول برفح ، فقفزت من مكاني مهرولا تحت الأمطار الغزيرة لأنتظر علي قارعة الطريق حتى أسعفني الله بسيارة تكسي لاستقلها مسرعا في رحلة رغم قصر مسافتها الجغرافية إلا إنها كانت طويلة زمنية متسائلا ، متلهفاً لرؤية تلك الأنفاس والوجه والأقدام العراقية التي وطأت أرض غزة ، حلم جميل أصبح حقيقة وما إن وصلتُ حتى وجدت ماجدة عراقية نحيفة الجسد ، قوية الثبات ، فولاذية الإرادة ، عيناها تترقبان أوجه الناس المتزاحمون حولها ، لتبدأ رحلة أخرى تحت الأمطار وأنا مصطحبا ضيفة فلسطين وغزة ، ولتمض يومين بين الأهل متنقلة بين مدن غزة كزيارات خاطفة سريعة ختمتها في حفل تأبين الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (جورج حبش) والكل ينظر ولا يقوي على الكلام ، مرحبا صامتا مندهشا ، حتى عادت أدراجها تحمل حب أهل غزة ، وطهارة تراب غزة إلي عراق العشق الأزلي .

لم أعش لحظات من قبل كتلك التي تعرفت بها عن قُرب عن عظمة هذا الشعب العراقي الثائر سوي عندما أدركت تلك العظمة من عظمة هذه الماجدة النموذج الحي لماجدات العراق ، والتي جسدت من تقاسيم التحدي وملحمة الإرادة التي لمستها في نظراتها الثابتة ، وثقتها الغير قابلة للانكسار أمام عواصف التحدي ، صورة جسدت ماجدات تناقلت لنا وسائل الإعلام صمودها وتحديها وإرادتها المستمدة من حضارات آشور وبابل ، وطهارة الفرات ودجلة ، وشموخ النخيل المثمر .

إذن هي تلك الماجدة التي حاولت الكلاب الضالة المسعورة المتأمركة أن تنال منها وتكسر إرادتها وتطعنها في شرفها ، لتحبط عزيمتها ، وتقتُل فيها حُب الأرض والتضحية والفداء.

هذه هي الماجدة العراقية التي لا زالت كالجبل تُسطر ملحمة البطولة والإصرار علي النصر علي أرض العراق أمام جلاديه ، هذه إذن الماجدة العراقية التي لا زالت كالجبل تتحدي عواصف الهجرة القسرية والتهجير والغربة عن الوطن ، ترسم العراق صليباً وهلالاً من نور وشموخ .

هذه هي الماجدة العراقية التي ينجب رحمها فرسان النصر والمقاومة والصلابة ، تعلمنا أن العراق حي لم يمت ، شامخ لم ينكسر .

فإن كان العراق اليوم ينزف من جرحه دماً ، فإن بلسم شفائه ماجداته ، وعزته التي تأبي الخضوع والذل والانصهار بالواقع .

فالأقدام التي داست ترابك غزة من عراق الشموخ والعشق رسمت ملامح التلاحم في الألم والهم والمعاناة لتؤكد أن العودة قادمة والنصر آت آت .

فابشري بغداد النصر آت .