أميركا وإيران والعلاقة المعجمة بينهما
بقلم/ حسن الحسن
نشر منذ: 17 سنة و 4 أسابيع و يوم واحد
الثلاثاء 23 أكتوبر-تشرين الأول 2007 08:22 م

يعتبر التضليل السياسي عاملاً أساسياً في إدارة الصراع بين الدول الكبرى وعنصراً فعالاً في إدارة الأزمات المختلفة بينها، وهو ما عبر عنه تشرشل بقوله لستالين أثناء لقائهما في طهران إبان الحرب العالمية الثانية "إن الحقيقة ثمينة إلى درجة أنه لا بد من حمايتها غالباً بحرس من الأكاذيب".

ولذلك تعتبر عملية التضليل هذه فناً من فنون السياسة التي تعتمدها الدول لتحقيق مصالحها وتصبح أكثر أهمية مع تحول العالم إلى قرية إلكترونية متصلة ومتواصلة على مدار الساعة، مما يمنح القوى الكبرى قدرة أكبر في التأثير على عقول الناس وتوجهاتهم.

ولا يعني هذا بحال اعتبار أن كل ما يقع أمام أعيننا مجرد مؤامرة أو عملية تضليل بالضرورة، إنما يعني الحاجة إلى تحليل الواقع وبناء الفهم السياسي على رؤية سياسية تعتمد معطيات سليمة ومعلومات صحيحة حتى لا يقع المرء في شرك الهروب من التضليل فيقع فيه.

ومما يعطل فهم الواقع السياسي على حقيقته غياب المعلومات ذات الأهمية وإبقاؤها طي الكتمان في ملفات مختومة بـ "سري للغاية" لعقود طويلة، أو من خلال تسريب كثيف لمعلومات خاطئة مضللة يربك المراقب للوضع بشكل عام ويجعله أسير الأجواء الرائجة.

وفي سياق بحث العلاقة بين إيران وأميركا نجد الكثير من التناقض والتضارب فيما يشاع عن تلك العلاقة، ولذلك كان لا بد من إخضاعها لقراءة نقدية متجردة عن الأهواء ومما هو شائع في وسائل الإعلام.

فمن جهة تتدافع التسريبات الصحفية والتصريحات الإعلامية منذرة بحرب أميركية وشيكة على إيران، وهو ما رجح وقوعه وزير خارجية فرنسا برنارد كوشنر ملوحاً بقرب شن هجوم صاعق على المنشآت النووية الإيرانية، ومن جهة أخرى تجري مفاوضات علنية بين أميركا وإيران لتسوية الأزمة التي تحياها أميركا في العراق ولمد يد العون لها.

ومن ثم يأتي تصريح الرئيس الإيراني أحمدي نجاد في هذا السياق معلناً "أن بلاده على استعداد لملء الفراغ الأمني في العراق حال انسحاب القوات الأميركية منه" وهو ما أعاد تأكيده الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي علي لاريجاني بقوله "إن إيران على استعداد لضمان الأمن والاستقرار في العراق في حال ما إذا انسحبت أميركا منه".

وهذا يعني ضمنياً موافقة إيران على لعب دورٍ ما لصالح الولايات المتحدة في العراق، إذ لا يعقل أن تترك أميركا العراق لإيران غنيمة سهلة تصول وتجول فيه هكذا! بعد أن أنفقت مئات المليارات وضحت بالآلاف من جنودها فضلاً عن هيبتها التي ذهبت أدراج الرياح.

ومن ثم لماذا لا تترك أميركا العراق لأحد حلفائها المحسوبين عليها بدل تركه لإيران.. السعودية أو تركيا مثلاً!؟ مما يعني أن ترك أميركا الفرصة لإيران كي تلعب دوراً ما لها في العراق ينبغي أن يكون لقاء تسديد خدمات معينة لها فيه، وأنها تعول عليها في لعب هذا الدور على عكس ما هو رائج.

غير أن اللافت للنظر أيضاً هو أنه أمام مطالبة أميركا الدؤوبة لإيران بالتعاون معها في العراق، نجدها تنذر الجميع من أنها في حال انسحابها من ذلك البلد فإنه سيصبح أرضاً مستباحة لإيران، وفي نفس الوقت تشيع أجواء دعائية غير مريحة عنها، مما يخلق تعارضاً بين الاحتمالين؟

ومن هنا نتساءل: هل تريد أميركا فعلاً استعمال إيران لتأمين مصالحها في العراق لقاء بعض الفتات، أم أنها تفتعل كل ذلك لتهديد مناوئيها في المنطقة ولتشتيت قوى المقاومة في العراق، حيث تضع أميركا تلك الأطراف أمام خيارين هما: إما أن تفتح أبواب الحوار معها وتسلم لها بمشروعها في العراق، وإلا فإنها ستسلم البلد لإيران مما سيجتذب أطرافاً بطبيعة الحال إلى المفاوضة معها فتصطدم مع من يرفض، ليتم بهذا إغراق المقاومة في صراعات فيما بينها، بعد أن يتم توجيه أبصارها نحو إيران بدلاً من أميركا!

وهذا قد آتى بعض أكله فعلاً، إذ قام بعض المحسوبين على المقاومة بعقد صفقات مع أميركا، وتحول بعض ساسة العراق المنادين بانسحاب أميركا إلى المطالبة ببقائها وترتيب الأوضاع أمنياً وسياسياً بالتنسيق معها بحجة منع حدوث فراغ تستثمره إيران لصالحها.

وربما تكون تلك التصريحات مقدمة لأكثر من سيناريو في نفس الوقت، بمعنى إذا فشل المشروع السياسي الأميركي في العراق تماماً، وفقدت أميركا الأمل من استيعاب المقاومة في العراق، وأصابتها انتكاسات كبيرة لم تقو على تحملها، عندئذ فإن التعاقد مع إيران هو السبيل الأمثل لضمان مصالحها في المنطقة، لاسيما أن "البعبع" الإيراني سيكون لازماً لضمان عدم تفلت دول الخليج من تحت هيمنتها أيضا، تلك الدول التي بدأت تتململ علناً من سياسات الولايات المتحدة الأميركية.

على كل فإن الأهم من وقوع الضربة الأميركية على إيران أو تأجيلها أو إلغائها، هو فهم ما تحاول فرضه من واقع سياسي جديد تسعى لتحقيقه في المنطقة.

فمن المؤكد أن أحلام أميركا بصياغة شرق أوسط جديد يشكل العراق الحلقة الأولى في مكوناته قد تبخرت، كما باء سعيها في إرساء نظام عالمي يقوم على التفرد بالفشل الذريع، وانتقلت أميركا بفضل غطرستها وإخفاقاتها المتتابعة من حالة الهجوم إلى حالة الدفاع أمام مناوئيها وخصومها على الصعيد الدولي ومن يرتبط بهم في مناطق النزاع الذي يمثل العالم الإسلامي حلبة الصراع الأساسية فيه.

من هنا تأتي أهمية ما يمكن أن تقدم عليه أميركا وخطورته، إذ أنها قد تشعل المنطقة بحروب وصراعات لتفويت الفرصة على من يحاول إحراجها وكسر هيبتها وتحجيم نفوذها في المنطقة.

ويأتي في هذا السياق ذلك التهديد الخفي الذي تضمنه قرار مجلس الشيوخ الأميركي بتقسيم العراق وبأصوات الغالبية الساحقة فيه، لأن هذا القرار وإن كان غير ملزم حالياً فمؤشراته خطيرة ويتفق عليه الجمهوريون والديمقراطيون.

وإذا ما أطلق المرء بصره في تداعيات مثل ذلك التقسيم إن وقع فعلاً، فإنه قد يعني فيما يعنيه حرباً بين عدة أقاليم تهيمن عليها المليشيات المتقاتلة حالياً، عندها سيتمدد الصراع تلقائياً إلى الدول المحيطة خاصة أنها هشة وخصبة وقابلة للاشتعال، وعندها ستدخل المنطقة بأكملها في دوامة عنف طويلة، تؤدي إلى مزيد من تشظي العالم الإسلامي وتصدعه، بينما تعبث أصابع الدول الكبرى فيه من قريب وبعيد.

وبناء على ما سبق، فإن تفكيك العلاقة المعقدة بين أميركا وإيران يوضح أن ثمة تناغماً عملياً بين الطرفين، وأن ما يمارسه الطرفان من دعاية عدائية مضادة وشرسة، يصف أحدهما فيها الآخر بالشيطان الأكبر بينما يصفه هذا بمحور الشر، يتناقض مع المواقف السياسية على أرض الواقع، تلك التي تكشف نمطاً آخر من التعامل بينهما.

ففي الوقت الذي تُشبع فيه أميركا إيران بالنقد اللاذع، فإن جل ما قامت به عملياً هو تحقيق ما عجزت إيران بنفسها عن تحقيقه لنفسها، أي إزاحة مناوئيها وخصومها الألداء في المنطقة كنظام طالبان في أفغانستان ونظام البعث في العراق، لتجد إيران نفسها بعد ذلك القوة الفاعلة الأبرز في المنطقة.

ومن الصعب قبول وقوع مثل ذلك عبثاً أو ارتجالاً أو صدفة من قبل الدولة الأولى في العالم، لاسيما أن كبار متعهدي دراسة الملف العراقي في أميركا (لجنة بيكر هاملتون) قد أوصوا بالاستعانة بإيران لإنقاذ الولايات المتحدة من مأزقها الخانق في العراق.

وهذا ما يؤكد ضرورة وضع علامة استفهام كبيرة حول حقيقة العلاقة بين الطرفين، إذ لا يخطر ببال عاقل قط أن يستعين بألد خصومه، ذلك الذي يتمنى هلاكه، في أحرج أوقاته!

ومن يتابع تلك العلاقة المعجمة بين الطرفين يتوصل إلى ما قاله الشيخ مجيد الكعود رئيس تنظيم وهج العراق بأنه "مما لا شك فيه أن هناك تنسيقا في الإستراتيجيات بين الطرفين لأن الدلائل كلها على الأرض تشير إلى هذا الخط المشترك".

ومن الجدير ذكره أنّ إدارة بوش الحالية ليست هي أول من يساهم في عقد صفقات مع إيران، فقد سبق أن أجرت إدارة ريغان صفقة الأسلحة الشهيرة بإيران كونترا مع نظام الملالي المتهم برعاية الإرهاب والتطرف في حينه من قبلها، حين قامت المخابرات الأميركية ببيع الأسلحة لإيران "العدو!" واستعملت العائد المالي لتمويل ثوار الكونترا في نيكاراغوا.

بل إن لاريجاني نفسه قد نبه إلى حقيقة تلك العلاقة القائمة بين الطرفين في العراق حالياً، حين ذكر أنه بينما تمول الدول المحسوبة على أميركا (يقصد السعودية والأردن) المقاومة في العراق، فإن إيران دفعت القوى العراقية المحسوبة عليها إلى دخول العملية السياسية الأميركية منذ البداية.

وعليه فإن الصخب في العلاقة العدوانية بين إيران وأميركا مع مغايرة واقع الحال لذلك، يستدعي فهماً مختلفا عما هو رائج في وسائل الإعلام عن هذه الحالة.

وفي سياق التصعيد المفتعل بين الفريقين فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني، نلاحظ أنّ أميركا بحاجة ماسة لتصريحات ساسة إيران النارية لاستعمالها كمبررات تسوق من خلالها سياساتها البشعة بعد أن كاد ينفد وقود ما يسمى الحملة العالمية للقضاء على "الإرهاب".

ومن هنا كانت مواقف إيران الأخيرة منسجمة مع متطلبات أميركا في هذه المرحلة بغية إيجاد ذرائع كافية لمتابعة صلفها وانتهاكاتها، ولتبرير استعمال عنصر البطش وعامل قوة الردع التي تعتمدها الإدارة الحالية بشكل خاص.

ولهذا فقد أفشلت أميركا وإيران كافة المفاوضات التي حاول الأوروبيون عقدها مع الأخيرة لإنهاء أزمة الملف النووي الملتهب.

على كل فإن إقحام إيران في العراق على النحو الذي تروج له أميركا ويؤكده أحمدي نجاد ولاريجاني سيكون مكلفاً جداً إذا ما تم، لاسيما وأن ذلك التدخل لا يحظى برضى الغالبية الساحقة من ساسة العراق وقواه بمن فيهم المحسوبون على إيران، أولئك الذين يتلمسون مساعدتها لتقوية نفوذهم في الداخل لا لتهميشه بأوامر من ضباط الحرس الثوري الإيراني.

كما أن دول الجوار تحديداً الأردن والسعودية بقيادتها الحالية (حلفاء بريطانيا التقليديين) لن يقصروا في دعم القوى المناوئة لإيران في هذا الصراع، سواء خدمة لبريطانيا التي تسعى إلى استعادة نفوذها بقوة في المنطقة أو خشية من قلقهم على تمدد النفوذ الإيراني داخل أقطارهم.

وما يؤسف له بحق في هذا السياق هو بقاء هذه الأمة دائرة في حلقة مفرغة من العبثية والصراعات الدامية تساق فيها من كارثة إلى أخرى تحت شعارات تلهب مشاعرها، وتستحوذ على طاقاتها تصب في نهاية الأمر فيما يحقق مصالح أعدائها.

وما لم يتحقق الاستقلال السياسي الحقيقي لهذه الأمة وما لم يتم وقف استغلالها طائفياً وقومياً وقبلياً لصالح الدول الكبرى ولتحقيق مصالح فئوية ضيقة معها، وما لم تُعَد صياغة هذه الأمة وتشكيلها بحسب مكوناتها كأمة تجمع بينها عقيدة ورسالة تمثل منهج حياة ودعوة للإنسانية جمعاء، فإنها ستبقى خائرة القوى صريعة على مذابح الآخرين.