كوسـوفا جرحٌ إسلامي متجدِّد النزيف في عقر دار الحضارة الغربية
بقلم/ أحمد الظرافي
نشر منذ: 17 سنة و شهر و 6 أيام
الخميس 18 أكتوبر-تشرين الأول 2007 06:47 ص

مأرب برس – خاص

في البلقان - المنطقة التي تعتبر من أشهر مناطق الأخطار والأزمات الدولية ويضرب بها المثل فى التعدد العرقى والديني المصحوب بتاريخ صراعى وعدائى - يقف ألبان كوسوفا على طرفي نقيض مع الصرب في كل شيء تقريبا : في القومية وفي الدين ، في الأهداف وفي المصالح ، بل وحتى في اسم ، هذا الإقليم المتنازع علي ه بينهما ، ففي حين يسميه الألبان كوسوفا( Kosova ) ، يٌطلق عليه الصرب كوسوفو(  Kosovo ) . الشيء الوحيد الذي يجمع بينمها فقط ، هو أنهما ينتميان إلى قارة واحدة – تدعي التحضر والمدنية - وهي أوروبا ، ومواطني كل منهما من الأوروبيين البيض . وذلك طبعا مع الفارق الكبير بينهما من حيث عدد السكان والمساحة والقوة العسكرية والاقتصادية وذلك كله لصالح صربيا – وريثة النظام الشيوعي اليوغسلافي البائد –  -

 *خريطة تمثل موقع كوسوفا حيث تشكل امتدادا طبيعيا لجمهورية ألبانيا في شمالها الشرقي .. وتحيط بها صربيا ومقدونيا والجبل الأسود

فماذا تعرف عن كوسوفا ؟ وما سبب مأساة المسلمين فيه ؟ ولماذا يقف الصرب هذا الموقف العدائي الحاقد منهم؟

أرض الكمثرى

كوسوفا – أو قوصوه كما هو اسمها في المصادر العربية القديمة – إقليم جغرافي داخلي مغلق لا يطل على أي منفذ بحري ، ويعرف في الجغرافيا السياسية بـ"الأرض الحبيسة" وهو يقع في الجزء الجنوبي الغربي من شبه جزيرة البلقان ، وإقليم كوسوفا – كما هو واضح من الخريطة – يشكل امتدادا طبيعيا لأراضي جمهورية ألبانيا في شمالها الشرقي ، وتطوقهُ من الجهات الأخرى العديد من دول البلقان - التي نالت استقلالها حديثا وخرجت من تحت عباءة الاتحاد اليوغسلافي - فتجاوره من الشمال الغربي جمهورية الجبل الأسود ، ومن الجنوب جمهورية مقدونيا بينما تحيط به جمهورية صربيا - جارته اللدودة وغير العزيزة - من الشمال والشمال الشرقي.

في قديم الأزل كان الإقليم جزءا من منطقة أوسع ُتسمى - ( داردانيا Dardania ) – نسبة إلى سكانها الدردن - وهذا الاسم مأخوذ من الكلمة الألبانية dardhë التي تعني كمثرى ، وعليه فيكون معنى الكلمة " أرض الكمثرى " وأما اسمه الحالي " كوسوفا " فيعني – طبقا لبعض المصادر- حقل الطيور السوداء . – ويبدو أنها تنتشر بكثرة فيه - .

وأما طبيعة هذه الأرض فهي مسطحة ومنبسطة في أغلبها، ومحاطة بالجبال من أغلب جهاتها ، ويتمتع الإقليم بطبيعة ساحرة خلابة ، وغابات كثيفة تمتد على مدى النظر، وسهول شاسعة غنية ، تعتبر من أخصب المناطق الزراعية في البلقان، ويمر فيها عدة أنهار منها : دريني وإبري وسنتيتسا وميروشا وتشتهر كوسوفا بإنتاج العديد من الحاصلات الزراعية وأهمها: الحبوب حيث تعتبر – بمثابة سلة غذاء -. ومناخ الإقليم قاري بصفة عامة ، حار صيفا شديد البرودة مصحوب بتساقط الثلوج شتاء.

وأما مساحة الإقليم الفعلية فقد كانت أكبر بكثير مما هي عليه اليوم – فتشير بعض المصادر- إلى أنها كانت حوالي 20 ألف كم2 قبل أن تقضم كل من صربيا والجبل الأسود ومقدونيا جزءا منه -بُعيد انتهاء حرب البلقان التي هزمت فيها الدولة العثمانية ، لتتقلص مساحة الإقليم بعد ذلك إلى المساحة التي يشغلها حاليا والتي تبلغ زهاء 10887 كيلو مترا مربعا ، وهي تزيد قليلا على ( 12% من مساحة صربيا).

الخلفية العرقية والدينية للسكان 

يبلغ عدد سكان كوسوفا ، أكثر من مليونين ومائة ألف نسمة ( 2005 ) ، يشكل الألبان من هذا العدد نسبة مئوية تتجاوز الـ90% ، وأما نسبة ألـ 10% المتبقية فهي للأقليات القومية والعرقية الأخرى– بمن فيهم الصرب والذين يشكلون نسبة مئوية في حدود 4% ، يأتي بعدهم الأتراك 3% ثم البوشناق 2% ، وقوميات أخرى 1% . وأما المصادر الصربية فكانت قبل الحرب تخفض نسبة الألبان إلى 82%، وترفع نسبة الصرب إلى 11% من إجمالي عدد السكان.

 وتمثل نسبة المسلمين في الإقليم حوالي 95% من مجموع سكانه من مختلف القوميات ، وترتفع هذه النسبة في صفوف الألبان لتصل إلى 99% " وهذا يعني أن جميع سكان إقليم كوسوفا الألبان هم من المسلمين ، وذلك طبعا باستثناء أقلية ألبانية صغيرة جدا تعتنق المذهب الكاثوليكي تتمركز في شمال كوسوفو ويتركز شعب كوسوفا في عدد من المدن المنتشرة في أجزاء متفرقة من الإقليم ومن أهم تلك المدن :

- برشتينا ( Prishtina ) عاصمة الإقليم وأكبر المدن فيه ، يقطنها أكثر من 600 ألف نسمة ، وهي المركز الإداري والاقتصادي والثقافي في كوسوفا ، وفيها أهم الجوامع وأقدمها في البلقان. ومنها مسجد السلطان محمد الفاتح، الذي بني سنة 1461م والذي يعتبر معلم بارز من معالمها الإسلامية. وفيها أيضا مركز المشيخة الإسلامية والتي تشرف على المساجد والأوقاف والشئون الدينية المختلفة في الإقليم .

- بريزرن ( Prizren ) مدينة تاريخية علي سفوح جبال السار في الجزء الجنوبي من كوسوفو بالقرب من الحدود مع ألبانيا ومقدونيا ، وهي واحدة من أجمل مدن كوسوفا ، وكانت أول عاصمة للإقليم واستمرت كذلك خلال فترة الحكم العثماني ، والفترة التي تلتها قبل أن يتم تحويل العاصمة إلى برشتينا في الخمسينيات من القرن العشرين ، وعدد سكانها حوالي 165 ألف نسمة - يمثل البوسنيون نسبة هامة منهم - ومن أهم معالمها الإسلامية مسجد سنان باشا .

- بيجا ( Peja ) ، مركز ثقافي واقتصادي في غرب كوسوفا متأخمة للحدود مع الجبل الأسود يسكنها حوالي 154 ألف نسمة .

- ميتروفيتشا  Mitrovica ، في الشمال وهي مدينة مختلطة ومقسمة عرقيا يسكنها حوالي 97 ألف نسمة من الألبان والصرب حيث يفصل بينهم نهر إيبار ، وتعتبر أكثر مدينة قابلة للتفجر في كوسوفا بسبب شدة الكراهية العرقية والدينية التي لا تزال موجودة فيها

- جاكوفا ( Gjakova ) ، مدينة تقع على ضفة نهر Erenik ، وتحيط بها غابات الصنوبر من جهاتها الأربع ويبلغ عدد سكانها أكثر من 60.000 نسمة، وهي من أقرب مدن الإقليم ، إلى الحدود مع ألبانيا .

وجه أوروبي وقلب إسلامي

يعتبر إقليم كوسوفا وطن من أوطان المسلمين .. وأهلهُ الألبان من الشعوب الإسلامية الخالصة والتي لا تزال متشبثة بعقيدة الإسلام السمحة في هذا الجزء من العالم - وهو شبه جزيرة البلقان الأوروبية – وذلك رغم المحن التي تكالبت عليه ، ورغم الحملات الصليبية المتوالية التي تعرض لها في تاريخه الحديث والتي لا تزال مستمرة حتى اليوم .

وتغلب على الشعب الألباني – بصفة عامة - الطيبة والتسامح والنظافة ، والنزوع نحو التدين والنظام – وهذا واضح في ملامحهم وقسمات وجوههم ، وهو شعب متماسك اسريا واجتماعيا وشديد الاعتزاز بخصوصيته الثقافية ، وبأصوله العرقية – وهو ينتمي إلى جنس «الاليريين» الذين كانوا يسكنون المنطقة منذ القرن الثاني قبل الميلاد - وهي سلالة : تختلف عن أصول السلاف التي يشترك فيها اليونان والبلغار والصرب والكروات والمقدونيون والسلوفينيون ومسلمو البوسنة والهرسك ، وكانت اللغة الصربكرواتية هي التي تجمع بين جنس الأليرين والسلاف في يوغسلافيا السابقة ، وهي لغة غير اللغة الألبانية المنتشر استعمالها في إقليم كوسوفا .

وعلاوة على ذلك فهو شديد التمسك بعاداته وتقاليده والتي تعتبر من أجمل عادات وتقاليد ، شعوب البلقان ، ومن ذلك كرم الضيافة والأمانة والشجاعة والكرم والرجولة وعزة النفس والمواساة – وغيرها من الشمائل الكريمة المتفقة مع روح وجوهر الدين الإسلامي الحنيف . ومما يدل على تمتع هذا الشعب بسجية الوفاء أنه لا زال الكثير من أبنائه لحد الآن يظهر الامتنان للدولة العثمانية والتي شهد الألبان بشكل خاص وأهل البلقان بشكل عام أزهى فترات عزهم ومجدهم في ظل حكمهم الذي أمتد في هذه المنطقة لأكثر من خمسمائة عام ، كما أنهم لا زالوا يشيدون بدور هذه الدولة وتاريخها المشرق : الذي يقف شاهدا عليه اليوم عشرات المساجد التي شيدها سلاطين بني عثمان ، وذلك بالرغم من حملات التشويه الغربية التحريضية المنظمة ضد العثمانيين.

 وهذه الصفات لمسها من احتك بهذا الشعب المسلم أو عايش جزءا من مأساته الأخيرة، يقول مراسل مجلة العربي الذي صاحب بعثة المساعدات الكويتية إلى كوسوفا في عام 1999: الذي أدهشنا هو أنه رغم كثرة أعداد الذين أتوا للحصول على المساعدة بعد أن استدعاهم رئيس الحي ... إلا أنه لم يحدث أي تزاحم، كانت الملابس تنم عن أناقة سابقة وكان الإباء " عزة النفس " تكشف عن تحضر وعفاف أذلته الحاجة وبكاء الأطفال الجوعى ، وقسوة المناخ الألباني الشديد البرودة في الشتاء والأقرب إلى اللهيب صيفا "

أهمية كوسوفا الإقتصادية 

يزخر الإقليم بثروات معدنية وطبيعية كبيرة : أبرزها مناجم التريبتشا الشاسعة، وهي بعض من أغنى الاحتياطيات المعدنية في العالم. وهذه المناجم التي استولى عليها هتلر عام ١٩٤٠، أمدّت مصانع الذخيرة الألمانية بـ٤٠ في المائة من احتياجاتها من الرصاص فيوجد في مدينة ميتروفيتسا- على سبيل المثال- منجم "تربجا" Trepça " أكبر المناجم فى يوغسلافيا السابقة والمشهور بالرصاص والذهب والفضة والنيكل وأثناء الاتحاد اليوغسلافي السابق كان هذا الإقليم ينتج وحده ما نسبتة 75% من الرصاص والزنك و 60% من الفضة و 50% من النيكل و20% من الذهب. وفيها 80% من احتياطي الفحم الحجري والمغنسيوم وغيرها من الثروات الطبيعية الأخرى. ، ومع ذلك فهي أكثر مناطق أوربا فقراً إذ أن ُهذه الثروات كانت في العهدين الملكي والشيوعي ، تستغل بشكل جائر ويتم توزيعها بشكل مجحف وغير عادل ، حيث كان يذهب خيرها وريعها إلى بلجراد ، ويبقى الإقليم محروما منها – رغم كونه بأمس الحاجة إليها – وهي حاليا تحت سيطرة صربيا وتقوم بتصديرها إلى دول متقدمة مثل فرنسا وسويسرا واليونان. ومن هذا يتضح البعد الاقتصادي من وراء تشبث الصرب بالإقليم ووقفتهم المستميتة للحيلولة دون تقرير مصيره وإبقائه في الأحضان الصربية وذلك من أجل الاستمرار في نهب ثرواته وحل المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها على حساب جيرانها ، فعليها ديون تقدر بـ 22 مليار يورو ، ومعدل بطالة يصل إلى 18 في المائة ويعتمد اقتصاد الإقليم بشكل رئيس على التجارة وعوائد الدولة فيها مكونة من الجمارك التي تشكل أهم روافد ميزانية الإقليم الذي يخضع حتى الآن لرقابة الأمم المتحدة.

كوسوفا المعركة التاريخية

يعود تاريخ انتشار الإسلام في شبه جزيرة البلقان إلى منتصف القرن الرابع عشر الميلادي ويرجع الفضل في في ذلك إلى العثمانيين وإلى ما بعد انتصارهم الكبير في معركة كوسوفا سنة 1389/ 791هـ التي تمثل منعطفا حاسما في تاريخ المنطقة والوجود الإسلامي فيها .

وتعتبر معركة كوسوفا من المعارك الكبرى الفاصلة في التاريخ – وهي أول مواجهة حاسمة بين المسلمين وبين المسيحيين الأرثوذكس في البلقان ، ودارت المعركة بين تحالف الجيش الصليبي الأرثوذكسي بقيادة الملك الصربي لا زار من جانب ، وبين الجيش العثماني المسلم بقيادة السلطان مراد الأول / 1362ـ 1389 م/ من جانب آخر.

فمع دخول العثمانيين إلى شبه جزيرة البلقان وتوغلهم فيها ، وانتشار الإسلام على أيديهم في تلك المنطقة ، نشط الصرب - في الجانب الآخر - للتصدي لهم ، ولمجابهتهم ، وكانوا أكثر القوى الأوروبية حساسية من وجودهم ، وأشدها تحمسا لقتالهم ، وسعيا لإخراجهم بالقوة ، وقد اعتبر الصرب أنفسهم - حينئذٍ - أنهم حماة الأرثوذكسية المسيحية في شرق أوروبا ، وعلى ذلك الأساس، شرعوا في الاستعداد ، وكونوا أول تحالف صليبي ضد المسلمين في البلقان ، ضم ما يزيد عن مائتي ألف مقاتل من الصرب والبوسنيين والبلغار وغيرهم .

وما لبث الصرب أن زحفوا بتلك القوات من الشمال ، وحينئذٍ كان الجيش العثماني قد أكمل استعداداته ، فزحف بدوره من الجنوب - بصورة أسرع من الجيش الصربي - والتقى الجمعان في سهل كوسوفا – إلى الشمال من مدينة بيريشتينا- يوم 28 يوليو1389م، ليلتحم عشرات الآلاف من الجنود في معارك ضارية وطاحنة بكل ماتعنيه هذه الكلمات من معنى وكان الطابع الديني هو الغالب على شعارات وهتافات الطرفين في تلك المعركة والتي انتهت بانتصار حاسم للأتراك العثمانيين للمسلمين وهزيمة ساحقة ماحقة للصرب وحلفائهم وفقدوا في هذه المعركة زهرة شبابهم وكبار قادتهم وعلى رأسهم الأمير الصربي لا زار ولم تقم لهم بعدها دولة لمدة خمسمائة عام .

 من الاحتلال إلى المجد

لقد كان من نتائج معركة كوسوفا الفاصلة ، سقوط البلقان برمته في قبضة الدولة العثمانية. وخضوع كوسوفا وصربيا والبوسنة والهرسك ومقدونيا ، للحكم العثماني ، وانتشار الإسلام على نطاق واسع بين شعوب هذه المنطقة– بدون أي ضغط أو إكراه – فقد كان العثمانيون قمة في التسامح الديني ولم يجبروا أحدا على تغيير دينه واعتناق الإسلام ، وكان شعارهم " لا إكراه في الدين " وكان لهذا الموقف مردود إيجابي كبير حيث دفع أهل البلقان إلى أن يعتنقوا الإسلام طوعا ، وفي مقدمتهم الألبان – والذين دخلوا فيه أفواجا ، وحسن إسلامهم وعظم بلاؤهم في خدمة الإسلام ، وكانوا سندا وعونا للدولة العثمانية في قتال أعدائها ، وفي نشر الإسلام في أوروبا وفي غيرها ، وقد امتزاج الألبان – ولاسيما في القرون الأولى من الفتح العثماني للبلقان - امتزاجا شبه كامل مع إخوانهم المسلمين من الأتراك وغيرهم ، وانخرطوا في سلك العمل في هذه الدولة الإسلامية كقادة وكولاة وتبوأوا مختلف الوظائف والمناصب السياسية والعسكرية ، بل وحتى كمستشارين وكتاب في بلاط السلطان العثماني نفسه ، مستفيدين في ذلك من مبدأ المساواة الذي حاول العثمانيون تطبيقه – قدر جهدهم - على مواطنيهم المسلمين أيا كان موطنهم ، وأيا كان جنسهم أو عرقهم أو لونهم ، فقد كان منهم في الدولة العثمانية القواد العظام مثل بالابان باشا - قائد من قواد فتح القسطنطينية – ومحمد علي باشا ، والي مصر والداهية المشهور ، كما كان منهم كبار الكتاب والشعراء ، والذين كانوا يؤلفون بلغات خمس : (الألبانية والبوسنية والعربية والتركية و الفارسية ) ، مثل محمد عاكف أرسوى وسامي فراشري وغيرهم

وفي عهد العثمانيين كانت ولاية كوسوفا أكبر الولايات العثمانية في رومليا ( أوروبا ) ، وقد اكتسبت أهمية إستراتيجية لوقوعها على الطريق التجارية إلى البلقان وتمتعت كغيرها من بقية أقاليم البلقان بأطول فترات السلم والاستقرار والرخاء وشهد نهضة عمرانية إسلامية وما زال بعض تلك المنشآت قائماً حتى الآن .

هزيمة الصرب تتحول إلى ملحمة شعبية

بعد معركة كوسوفا 1389 - 938 هـ. - التي هزمت فيها الجيوش الأرثوذكسية المتحالفة بقيادة صربيا على يد الجيوش العثمانية بقيادة السلطان مراد الأول - بدأ الصرب مسيرة البحث عن ذريعة لإنقاذ سمعتهم وتاريخهم ، ولمحو وصمة العار - التي كانوا يشعرون بها - عن جباههم، ولتبرير هزيمتهم المريرة والقاسية ، أمام المسلمين الأتراك القادمين من الأناضول ، ولم يجدوا أمامهم سوى ألبان كوسوفا ليلصقوا بهم هذه التهمة ، وليجعلوا من هذا الشعب المسلم ، شماعة يعلقون عليها أسباب هزيمتم والقضاء على دولتهم – صربيا - بسواعد العثمانيين ، والتي ظلت ولاية عثمانية لأكثر من أربعة قرون ، بل ويتهمونهم بأنهم وراء ما يسمونه بـ " النزوح الكبير " الذي يزعمون أنه حدث لهم العصور الوسطى مع دخول العثمانيين بلادهم، - كما تتحدث عن ذلك أحدى أساطيرهم - وما نجم عن ذلك من مظلومية تاريخية وقعت عليهم – في دعوى تشبه إلى حد كبير دعوى المظلومية التاريخية المكذوبة عند الشيعة -

وربما أن التغير العميق أو التحول الاجتماعي والسياسي الإيجابي الكبير ، الذي طرأ على حياة ألبان كوسوفا ، بعد أن اعتنقوا الإسلام ، قد ولد الغيرة والحسد في نفوس زعماء الكنيسة الأرثوذكسية ، وقادة وزعماء الصرب الإقطاعيين ، والذين كانوا يسيطرون على إقليم كوسوفا ويتحكمون في مقدراته وفي شئون شعبه ، ويسيمونه سوء العذاب – وظلوا جاثمين فيه لمدة قرنين من الزمان – وذلك قبل أن يتم طردهم منه على أيدي العثمانيين - 

ولعله أيضا قد عز على أولئك الصرب المتعصبين الحاقدين أن يروا بعض أهالي كوسوفا – المحكومين والمقودين دوما – عز عليهم أن يروهم متمتعين بحريتهم ، وأن يديروا شئون أنفسهم ، بل وأن يصير البعض منهم حكاما وولاة وقادة عسكريين يشار إليهم بالبنان - في ظل الحكم العثماني - فكان أن أعتبر الصرب ذلك التحول إلى الإسلام ، بمثابة جريمة كبرى أو خيانة عظمى أرتكبها ألبان كوسوفا في حق الصرب وفي حق الكنيسة وفي حق أسلافهم المسيحيين، وفي حق التاريخ الأوروبي المسيحي برمته .ولهذا هم يحقدون عليهم الآن ولم يرتووا من دمائهم بعد رغم كل الجرائم التي أرتكبوها في حقهم . 

ومع مرور الأيام تجسمت هذه الدعاية المكذوبة ووجدت لها آذانا صاغية ، حتى تحولت إلى أسطورة من الأساطير الرائجة ، وفي ظلها تحولت هزيمة الصرب في معركة كوسوفا الشهيرة سنة 1389 إلى ذكرى سنوية يتم الاحتفال بها سنويا ويتم خلالها تمجيد القادة والفرسان الصرب الذين خاضوا تلك المعركة والثناء عليهم - في حين تستنزل اللعنات خلالها على الألبان – الذين يحملهم الصرب مسئولية تلك الهزيمة –

وتتخذ تلك الأسطورة ، في الأدبيات الصربية ، شكل ملحمة شعبية حافلة بالقصائد الشعرية والقصص الرومانسية الخيالية ، كما تحول الملك الصربي لازار قائد القوات الأوروبية الأرثوذكسية المتحالفة ، والذي لقي مصرعه في تلك المعركة – تحول بموجب هذه الأسطورة – إلى بطل قومي صربي ، وإلى قديس يحظى بمكانة خاصة لدى الصرب ، ولدى الكنيسة الصربية الأرثوذكسية ، لا يحظى بها حتى القديسون الحقيقون أنفسهم . وصار كل ذلك جزءا لا يتجزأ من الثقافة الشعبية ومن التراث القومي والديني عند الصرب ، والمتوارث جيلا بعد جيل ، وأصبح مصدرا للشحن الديني التي ترتكز عليه الأيديولوجية القومية الصربية المتعصبة ، والتي ذهب المسلمون ضحية لها – ليس في كوسوفا فحسب وإنما أيضا في البوسنة والهرسك ومقدونيا وفي صربيا نفسها.

والحديث عن الأساطير لدى القومية الصربية – يختلف عن غيره بالنسبة للقوميات الأخرى – فالصرب – بحسب طبيعتهم وتكوينهم العقلي والنفسي وكما أوضحت ذلك العديد من البحوث المحايدة - يعشقون الأساطير ويقدسونها ، ويتعاملون معها كمسلمات ثابتة ، وكحقائق دامغة ، غير قابلة للنقاش أو الشك. وهذا – في الواقع هو ما يميز القومية الصربية عن غيرها من القوميات – باستثناء القومية اليهودية التي تشترك معها في هذه الميزة إضافة إلى ميزات أخرى – " واستطاع الهوس العرقي والقومي ضخ روح الانتقام وتأجيج نيران الكراهية ضد الأتراك والألبان المسلمين ضد المسلمين الألبان طيلة القرون الستة الماضية "  

اندلاع مأساة مسلمي كوسوفا

لم ينس الصرب أبدا قصة هزيمتهم بسيوف الأتراك العثمانيين المسلمين في كوسوفا ، وطيلة خمسة قرون وقلوبهم ونفوسهم تغلي غلي المراجل حقدا وبغضا عليهم وعلى من والاهم – أقصد هنا بالتحديد مسلمي ألبان كوسوفا الذين قدّر لهم أن يدفعوا الثمن أضعافا مضاعفة نيابة عن العثمانيين الذين أندثر وجودهم ، وزالت دولتهم من الخريطة في عام 1924- 

 وخلال تلك الفترة عمل الصرب – مع غيرهم من القوى الأوروبية الذين كانوا يعدون الأتراك مادة غريبة في جسم أوروبا من الجوانب اللغوية والعرقية والدينية – عملوا بكل جد، وبمختلف السبل لإنهاء الوجود الإسلامي في المنطقة وخاصة بعد إحياء المشروع القومي الصربي في منتصف القرن التاسع عشر.

وكان الصرب أول من رفع راية العصيان وأعلن التمرد والخروج على الدولة العثمانية ، وتحالفوا ضدها مع كل المناوئين لها في البلقان. وكانوا أول من انسلخ عن جسدها في تلك المنطقة– بتحريض ودعم روسيا القيصرية - ثم بعد ذلك – ونتيجة لتكالب الأعداء على دولة الخلافة العثمانية من كل حدب وصوب، وكثرة المؤامرات عليها في الداخل والخارج – قاد الصرب عام 1293هـ /1876م – وهو نفس العام الذي شهد ولادة صربيا الحديثة - قادوا تحالفا - دينيا تحت راية الصليب المقدس – مع بلغاريا والجبل الأسود واليونان ، لطرد الدولة العثمانية من البلقان والانتقام من المسلمين " إلا أنهم هزموا أيضا ، مما دفع روسيا القيصرية لتهب لنجدتهم وتعلن الحرب على الدولة العثمانية في العام التالي . وهذا التاريخ يعتبر البداية الحقيقية للمذابح الجماعية وأعمال التهجير والتطهير الديني التي تعرض لها المسلمون في البلقان على أيدي الأوروبيين ، حيث انتهت هذه الحرب بهزيمة القوات العثمانية هزيمة حاسمة على يد الروس في قلب البلقان لأول مرة منذ خمسمائة عام ، وفيها وصل الجيش الروسي إلى ضواحي استانبول وكان ذلك ضربة قوية خلخلت الوجود الإسلامي في البلقان، وأدت إلى انحسار هذا الوجود عن مناطق واسعة، ..الأمر الذي أجبر استانبول على توقيع صلح مذل تعترف فيه بتشكيل بلغاريا الكبرى التي ضمت مناطق واسعة من المسلمين، وقد صاحب الحرب الروسية العثمانية ما نسميه، الآن، «التطهير العرقي» في مناطق واسعة من بلغاريا وفي قلب البلقان، في ما كان يعرف بصربيا. وقد أدى هذا إلى هجرة حوالي مليون مسلم في ذلك الحين باتجاه الأناضول وتركيا. وهذا مما شجع الصرب على التحرك ضد العثمانيين فقامت جيوشهم بالهجوم على المواقع العثمانية هناك، وشاركت قواتهم مشاركة فعالة إلى جانب روسيا القيصرية حليفتهم الطموحة والقوية، وفي إطار هذه الحرب عبرت القوات الصربية الحدود العثمانية – لأول مرة - إلى ولاية كوسوفا – واستولت على بعض المدن في الشمال والوسط مثل ميتروفيكا وبرشتينا، وظل الجزء المتبقي في قبضة العثمانيين ، وقد أقر ذلك – مع قضايا أخرى - في معاهدة الأمر الواقع في برلين التي فُرضت على الدولة العثمانية سنة 1878، ودفعتها أيضا للخروج من البوسنة ، وحينئذ فقط سنحت الفرصة للصرب لتصفية حسابهم القديم مع الألبان المسلمين ، فانفجرت الأحقاد الصربية العنصرية والدينية ، والنوايا الانتقامية المبيتة ضدهم ، وتجسدت على الأرض في صورة أعمال وحشية ومجازر جماعية مروعة وحملات تطهير وتهجير عرقية بحيث أُجبر خلالها عشرات الآلاف من المسلمين خلال تلك الفترة على الهجرة إلى تركيا وغيرها ، وتم تطهير كثير من المناطق التي استولت عليها القوات الصربية من المسلمين في كوسوفا. ولما استشعر الألبان بهذا الخطر المحدق ، عقدوا اجتماعا فيما بينهم في مدينة بريزرن حضره ما يربو على 300 شخصية – أغلبيتهم من الزعماء المسلمين المحافظين - من كوسوفا ومن غرب مقدونيا ، وأسسوا ما أصبح يُعرف بـ " رابطة بريزرن " " The Prizren League " ، وتركز اهتمامهم على المحافظة على سلطة العثمانيين القوية في كوسوفا لحمايتهم من حملات التطهير والتهجير التي يشنها عليهم جيرانهم البلقانيين . ودعوا إلى الحفاظ على وحدة الشعب الألباني وتراثه الثقافي تحت مظلة الحكم العثماني. ولم يكن بوسع السلطان العثماني – لسوء الحظ – سوى مباركة هذه الخطوة ، والتي بالمقابل جوبهت بعدائية من قبل المسيحيين. لكن الضربة القاضية جاءت من قبل القوميين الأتراك " حزب تركيا الفتاة " سنة 1908 والذين وقفوا بقوة ضد هذا المشروع في خطوة وصفت بإنها " واحدة من خيبات الأمل الكبيرة التي أصابت ألبان كوسوفا لسنوات " 

الصرب وتزويــــر التاريخ

ومع فداحة ما حدث للمسلمين في كوسوفا آنئذٍ ، إلا أنه ثبت – فيما بعد - أن كل ذلك لم يكن ذلك سوى جرعة أولى فقط ، من مسلسل التنفيس عن الأحقاد التاريخية السوداء الدفينة ، في قلوب الصرب ، حيث اتخذ هذا المسلسل صورة أكثر جنونية وعدوانية ، وأشد وحشية وهمجية ، أثناء الهجمة الصربية الثانية على إقليم كوسوفا الألباني المسلم عام 1912 بعد هزبمة العثمانيين في حرب البلقان - وكانت صربيا حينئذ الدولة السلافية الأولى في البلقان - والتي شملت أيضا أقاليم الجبل الأسود والبوسنة والهرسك- وهي تلك الحرب التي أسموها – زورا وبهتانا – بـ " حرب التحرير " - على أساس أن إقليم كوسوفا ، هو إقليم صربي أحتله العثمانيون منها ، وهم الآن يسعون لتحريره -

ويتفق المؤرخون المحايدون أن ذلك كله كذب ومحض تزوير للتاريخ ، فسكان كوسوفا كانوا منذ بداية التاريخ لمنطقة البلقان، منفصلين عرقيا وديانة عن الصرف وعن السلاف عموما ، ولم يجتمع إقليم كوسوفا الألباني مع صربيا السلافية في كيان سياسي مشترك إلاّ بمفعول حكم احتلالي مفروض عليهم ، وكان ذلك في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي عندما انتهزوا ضعف الإمبراطورية البيزنطية – التي كان كوسوفا تحت هيمنتها – فاقتطعوه منها ، وظلوا جاثمين فيه ، حتى جاء العثمانيون فطردوهم منه سنة 1389 . وبالتالي فإن تلك الحرب – والتي حدثت في نفس العام الذي أعلن فيه الألبان استقلالهم عن الخلافة الإسلامية - لم تكن في الحقيقة حرب تحرير كما زعم الصرب الحاقدون - بأي وجه من الوجوه ، وبأي صورة من الصور - وإنما كانت حرب إبادة اتخذت شكل أعمال ترهيب وحشية ومذابح جماعية مروعة ، ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين المسلمين الآمنين من نساء وأطفال وشيوخ . وأبيدت خلالها - حرقا وهدما - مدن وقرى ألبانية مسلمة عن بكرة أبيها ، وتحولت منازلها ومسا جدها وكل أثر عثماني أو إسلامي إلى رماد أو ركام ، وإلى أثر بعد عين، وجرت أعمال السطو الهمجي والاغتصاب الوحشي – من قبل القوات الصربية - على أوسع نطاق ، وبشكل منظم وعشوائي ، واستبيحت الأموال والأعراض والدماء والمساجد والمدارس الإسلامية ، والأوقاف الخيرية ، وكل شيءٍ يمت إلى الإسلام والمسلمين بصلة . في حين أفرط الصرب في بناء الكنائس والأديرة في الإقليم ، والتي أصبحت اليوم مشكلة في حد ذاتها أو بمثابة مسمار جحا للصرب للبقاء في كوسوفا . أي بمعنى آخر كانت حربا صليبية ضد الإسلام بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

وتزامنا مع ذلك قامت سلطات بلغراد بتطبيق سياسة الاستيطان فاستدعت الصرب من المناطق الأخرى وقامت بتوطينهم في كوسوفا وأصدرت في فبراير 1914 ما أسمته بـ" مرسوم الاستيطان في الأراضي المحررة حديثا " والتي وعدت فيه الحكومة الصربية المستوطنين الصرب بمنحهم 9 هكتارات من الأراضي لكل عائلة بالإضافة إلى هكتارين لكل فرد من العائلة يتجاوز عمره السادسة عشرة ...وقد وصل الحماس لتصريب كوسوفا إلى درجة أن رئيس الحكومة الصربية توقع في مارس 1914 ، أن ينجح في استقدام حوالي ربع مليون صربي من المهاجرين في أمريكا لتوطينهم في كوسوفا ، محل الألبان الذين ، وقد شمل التطهير العرقي آنئذٍ العديد من المدن المسلمة في الإقليم ، مثل فريزاي وجيلان وجياكوفا ، وحدث ولا حرج عما حدث في مدينة بريزون عاصمة الإقليم وقتذاك ، فبعد أن مارست العصابات الصربية ما يحلوا لها من جرائم بشعة ضد السكان الألبان المسلمين ، في هذه المدينة وبعد أن تحولت على أيديهم إلى مدينة أشباح ، قاموا - بكل حقد ، ومن أجل المزيد من التشفي والاهانة والإذلال - بجلب من تبقى حيا في المدينة من الأعيان الألبان المسلمين ، وأجبروهم على تقديم برقية إلى بيتر ملك الصرب في بلغراد ، يشكرونه فيها على تحريرهم من العثمانيين.

كما اتخذت تلك الحرب أيضا شكل عمليات إرهابية همجية لإجبار المسلمين على التخلي عن دينهم ، واعتناق الأرثوذكسية المسيحية عقيدة الصرب ، وقد أتى ذلك في إطار الجهود والمساعي الصربية المحمومة لتغيير المعادلة السكانية والأثنية لصالح الأقلية الصربية في الإقليم بواسطة هذه الطريقة البديلة ، بعد أن أخفقت عمليات الاستيطان والتطهير العرقي في تحقيق أهدافها - نظرا لكثافة العنصر الألباني في الإقليم - وذلك قُبيل وأثناء انعقاد مؤتمر لندن سنة 1912 /1913، والذي تواضعت فيه الدول الأوروبية الكبرى على تصفية تركة الرجل المريض في البلقان – أي الدولة العثمانية التي كانت وقتئذ تلفظ أنفاسها الأخيرة - لاسيما بعد المؤامرة الكبيرة والخطيرة التي أدت إلى تحطيم أمل المسلمين في عودة الخلافة إلى ماضي عزها ومجدها ، بخلع السلطان المظلوم عبد الحميد الثاني ( 1876 – 1909 ) ، آخر سلاطين بني عثمان العظام- رحمهم الله - وانطوت تلك الاتفاقية على تمزيق البانيا والغدر بالألبان، بتفرقتهم وتجزئة بلادهم، ليصبح لهم كيان محدود القدرات في ألبانيا، ويبقى الآخرون أقليات تحت سلطة الأعداء التقليديين عبر التاريخ، في كلّ من مقدونية وصربيا والجبل الأسود.

كوسوفا في عهد يوغسلافيا الملكية

والمهم أن إقليم كوسوفو ، قد صار منذ ذلك الحين – باستثناء الثلاث سنوات الأخيرة من الحرب العالمية الأولى والتي بقي فيها تحت سيطرة النمساويين والبلغار – صار مستعمرة للصرب للمرة الثانية في تاريخه ، وذلك بقوة السلاح والقهر ، وحدث ذلك بموافقة ومباركة دول الحلفاء - وعلى وجه التحديد فرنسا وبريطانيا - المنتصرتان في الحرب العالمية الأولى - والتي تم في أعقابها رسم خرائط ظالمة وعدوانية ضد المسلمين في المنطقة- ومن ضمن ذلك التنازل عن كوسوفا لصربيا ومنحه لها كمكافأة وكهدية على وقوفها إلى جانبهم وبلائها الحسن في الحرب ضد دول المحور ، وخاصة ضد العثمانيين – رغم أنه كان من المنطقي أن يضم الإقليم إلى ألبانيا الدولة الأم – بيد أن ما حدث كان ضد المنطق وعكس الوعود السابقة باستقلال الشعب الألباني، والمحافظة على وحدته ، وبالرغم من عدم رغبة الأهلين ، والذين اضطروا إلى حمل السلاح لمقاومة هذه الخطوة ، غير أن مقاومتهم ووجهت بعنف شديد سحقهم من دون رحمة لا سيما في عامي 1918- 1919 ، وحكمت القوة اليوغسلافية تلك المنطقة بطغيان جرّد الألبان من خصوصياتهم القومية والثقافية، الأمر الذي جعلهم يشعرون دائماً بوطأة الاستعمار والاستلاب والظلم، ويتطلعون إلى الخلاص، ويعملون على استعادة بعض حقوقهم المستلبة.‏

وطوال فترة العهد الملكي اليوغسلافي - والذي ظل فيها إقليم كوسوفا خاضعا لسيطرة الصرب – لم تتوقف الممارسات الدموية ، والأساليب الوحشية التي مارسها الصرب ضد مسلمي هذا الإقليم ، واستمرت الضغوط على المسلمين هناك، حيث هاجر عشرات الآلاف إلى تركيا.وإلى غيرها .

وقام الصرب بأتباع العديد من البرامج الاستيطانية المنظمة، والتي تعتبر غاية في الأنانية والدناءة والخسة ، والتي كانت تهدف كلها إلى محو وجود الألبان المسلمين في هذا الإقليم – أو لنقل تقليص وجودهم فيه إلى أقل عددٍ ممكن بشكل منهجي منظم – كما يفعل الصهاينة اليوم في فلسطين – وفي نفس الوقت كانت تهدف إلى جذب الشباب الصربي للاستيطان في الإقليم ، مستخدمين مختلف أساليب الترغيب ، وتم تقديم شتى صور الدعم المادي والمعنوي لهم ، للإقامة الدائمة فيه ، وذلك على حساب قاطنيه من الألبان المسلمين – وهم سكانه الأصليون منذ العصور الموغلة في التاريخ –

الشيوعيون وسراب الخلاص 

ثم جاء الماركسيون الشيوعيون خلال الحرب العالمية الثانية من خلال ما يسمى بحركة التحرير الشعبية ليوغسلافيا، والذين سعوا للتقرب من ألبان كوسوفا المسلمين ، ومنوهم الأماني ، فكان أن شاركهم المسلمون في الكفاح ضد المحتلين النازيين في الحرب العالمية الثانية، مدفوعين بالنوايا الحسنة والوعود الخلابة التي وعدهم بها أولئك الشيوعيون ، ومخدوعين بالشعارات التي رفعوها ، وعلى أمل أن يكون الخلاص من براثن الصرب وتقرير المصير على أيديهم، في المستقبل.

ولكن تبين أن كل ذلك قد كان مجرد وهم كاذب – لا أساس له من الصحة – فبمجرد أن حقق الشيوعيون غايتهم واستلموا السلطة , وارسوا دعائم نظامهم الجديد وتربعوا على سدة الحكم - تنكروا لكل ما قطعوه على أنفسهم من عهود – وما لبثوا أن فاجئوا الألبان المسلمين الذي كانوا قد شربوا من وعودهم حتى الثمالة - بإرسال وحدات الجيش لاحتلال إقليم كوسوفا ، الأمر الذي جُوبه بمقاومة شرسة من قبل الألبان ، لتحتدم المعارك عندئذ من جديد في هذا الإقليم ، ويشتد الصراع بين حلفاء الأمس إلا أن الألبان وبعد ثلاثة أشهر من المعارك الطاحنة - اضطروا أمام بشاعة الشيوعيين وجبروت الجيش اليوغسلافي الاتحادي لإلقاء السلاح – ولو مؤقتا – لينتهي ذلك العدوان الظالم من قبل الشيوعيين ، بسقوط قرابة 50 ألف قتيل ألباني ، وبإلحاق إقليم كوسوفا بصربيا . وفصل بعض المناطق عن ألبان كوسوفو – وأيضا ألبان مقدونيا - للقضاء على الهوية الألبانية وتضييق المساحة التي تحتلها الوحدة العرقية هناك. وفي عام 1945 تم تعزيز ذلك الأجراء بقرار رسمي من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي. وفي سنة 1946 أمرت الحكومة الشيوعية بإلغاء المحاكم الشرعية .

وطوال فترة حكمهم الأسود ظل الشيوعيون - في يوغسلافيا السابقة – يتلاعبون بمشاعر الألبان المسلمين ، وبمصير إقليم كوسوفا ، وعانى الإقليم ما عانى من سياستهم المتخبطة إزائه ، فكانوا مرة يمنون عليه بالحكم الذاتي – في إطار صربيا طبعا – ومرة يلغونه دون أن يستقر الوضع في الإقليم على سياسة إدارية واحدة. كما مورس الضغط على المسلمين لترك يوغسلافيا. وخلال الفترة بين عامي ( 1945و1966 )، فقط، كان هناك أكثر من ربع مليون مسلم اجبروا على ترك يوغسلافيا والذهاب نحو تركيا.

كوسوفا يتمتع بالحكم الذاتي لأول مرة 

ومع ذلك ، وبرغم الاضطهاد البشع الذي تعرض له مسلمي كسوفا على أيدي الشيوعيين ، وبرغم التهميش الواسع الذي عانوا منه والمركزية وفساد الإدارة ، وبرغم الحرب على الأديان، والتي شملت مصادرة الأموال والأوقاف ، وتدمير المساجد وتحويل بعضها إلى متاحف وإلى إسطبلات للخيول ، وإحراق المصاحف وتحريم إقامة الصلوات والعزل عن العالم الإسلامي - شأنهم شأن جميع المسلمين في إطار ما كان يُعرف بيوغسلافيا –

أقول وبرغم كل ذلك إلا أنه يمكن القول أن جحيم الحكم الماركسي الشيوعي في يوغسلافيا السابقة ( 1945-1990)–– كان بشكل عام – بالنسبة لمسلمي يوغسلافيا من ألبان وغيرهم - أرحم من جحيم الحكم الملكي الصربي المتعصب ( 1918-1945 ) ، إذ أنه خلال حقبة الحكم الشيوعي استطاع جوزيف تيتو - بشخصيته الكارزمية ، وقوة نظامه – أستطاع أن يكبح جماح القومية الصربية المتعصبة وخاصة في أواخر عقد الستينيات وعقد السبعينيات من القرن الماضي .

ومع تواصل جهود الألبان – ونظرا للوضع الشائك للإقليم وتزايد الاستياء من الظروف الاقتصادية السيئة ، ونتيجة لحسابات أخرى، اخذ جوزيف تيتو، في ذلك الحين، ولاعتبارات محلية وإقليمية، يتوجه نحو العالم الثالث، ونحو سياسة عدم الانحياز ، وقد انعكس هذا التوجه على الوضع الداخلي في يوغسلافيا، من حيث إعطا مزيد من الحريات ومزيد من المساواة للمسلمين– فقد مُنح الإقليم حكما ذاتيا موسعا عام 1974 ، وأصبح الأقليم بموجبه وحدة فيدرالية واحدة متساوية مع بقية الوحدات الفيدرالية الأخرى في البلاد - وهو ما أنطبق على البوسنة أيضا - وهو الأمر الذى جعل ألبان الإقليم يتنفسون الصعداء ويشعرون بقدر من التكافؤ مع جمهوريات الاتحاد الست الأخرى: صربيا، الجبل الأسود، مقدونيا، كرواتيا، سلوفينيا ، والبوسنة ـ الهرسك. – وصار من حق المسلمين الإعلان عن إسلامهم في الأوراق الرسمية - وهو ما كان محظورا من قبل - وسمح لهم بقدر اكبر من الحريات الدينية التي شملت إقامة المنظمات الإسلامية وجمع الزكوات ، وترميم المساجد ..

لن يهزم الصرب بعد اليوم 

وخلال الثمانينات من القرن الماضي وبعد وفاة جوزيف تيتو سنة 1980 خرج الصرب من القمقم الذي كان قد حشرهم فيه ، وتنفسوا الصعداء بانزياحه عنهم ، بل وبدءوا يصعدون من لهجتهم ومن خطابهم الإعلامي ضد ه محاولين طي تلك الصفحة بذريعة أن تيتو همش الصرب ، وكان أشد ما ينقمونه عليه هو ذلك الحكم الذاتي الذي أعطاه لإقليم كوسوفا ، - وفي نفس هذا الوقت - نشط المستشرقون والمفكرون القوميون الصرب من جديد عبر الصحافة الصفراء وعبر مختلف وسائل الإعلام ، ومن خلال إقامة الندوات والمحاضرات ، نشطوا بشكل منظم في بعث الأهداف القومية الصربية القديمة ، والترويج لإقامة مشروع صربيا الكبرى. وبث روح القومية في أوساط الشعب الصربي والتأثير عليه من خلال العزف على مشاعره الحساسة تجاه الأساطير التاريخية ، وخاصة أسطورة معركة كوسوفا التاريخية والخيانة التي يزعمون أنها قد حدثت لهم من قبل الألبان .

وفي المقابل أخذ القوميون الصرب المتطرفين ينشطون في الإمساك بمفاصل السلطة وفي استعادة زمام المبادرة في قيادة يوغسلافيا ، وعلى هذه الموجة ركب ميلوزفيتش - والذي كان شيوعيا متزمتا فأصبح بين عشية وضحاها قوميا متطرفا – وهي الموجة التي صعدت به إلى قمة السلطة في بلجرد في نهاية الثمانينيات ، وقد تزامن ذلك مع انهيار النظام الشيوعي ، وبداية التفكك ، ومنذ ذلك الحين اتخذت الأمور منحى آخر ، فقد دشن ميلوزفيتش عهده الرئاسي بإلغاء نظام الحكم الذاتي منحه تيتو عام 1974 إلى إقليم كوسوفا ، وألحقه مباشرة بصربيا، ووصف الإقليم بأنه " قلب صربيا " حدث ذلك في 28يونيو1989 أي في ذكرى مرور 600عام على معركة كوسوفا حيث وقف أمام النصب التذكاري الموجود في نفس المكان الذي حدثت فيه المعركة قبل 600سنة وقف – في حشد جماهيري صاخب يضم مئات الآلاف من الصرب ينتفضون حماسا وهو يقول : " إن المعركة من آجل تحقيق آمال شهداء كوسوفو سوف تستمر بكل الوسائل ولن يهزم الصرب بعد اليوم "

وكان طبيعيا أن يرفض ألبان كوسوفا عودة السيطرة الصربية على الإقليم من جديد ، وأن لا يقبلوا بهذا القرار الجائر الذي اتخذه ميلوزفيتش والذي يسلبهم حقا مشروعا ناضلوا من أجله عشرات السنين وضحوا من أجله بعشرات الألأف من زهرة شبابهم فكان أن أعلنوا الانفصال من طرف واحد في خطوة تصعيدية مقابلة .

بيد أن ميلوزوفيتش لم يهاجم الإقليم في حينه حيث كان عليه قبل ذلك أن يفرغ من مشكلته مع مسلمي البوسنة والهرسك والذين أعلنوا استقلالهم هم أيضا ، - أسوة بكرواتيا وسلوفينيا - مما جعله يعلن الحرب عليهم عام 1991.وهي الحرب التي أنتهت بعد أربع سنوات أي سنة 1995 بموجب إتفاقية دايتون الظالمة التي أحرمت المسلمين من حقهم في إقامة دولة عرقية كغيرهم في سلوفينيا ومقدونيا وكرواتيا. بعد كل المجازر وأعمال الاغتصاب والتطهير العرقي التي ارتكبت في حقهم.

حملة جديدة من التطهير العرقي

هذا الأمر الذي حدث في البوسنة والهرسك – وفقا للمراقبين - شجع ميلوزوفيتش وعصابته على شن حرب جديدة ضد مسلمي إقليم كوسوفا سنة 1998 ، لضم هذا الإقليم بالقوة إلى صربيا ، تنفيذا للقرار المبرم عام 1989 ، وهكذا بدأ الصرب حملة جديدة للتطهير العرقي في كوسوفا استهدفت إخلاء الإقليم تماما من العنصر الألباني المسلم الذي يشكل نحو 90% من السكان سواء أكان ذلك بالقتل أو الإجبار على التشريد والرحيل.

وكعادته بقي المجتمع الدولي متفرجا لجرائم الصرائب ، ولم يتدخل عسكريا لإنقاذ إلبان كوسوفا المسلمين إلا بعد خراب مالطة أي بعد حوالي عام من الحرب والمجازر الجماعية وعمليات الاغتصاب – وبعد أن كان 800 ألف الباني مسلم قد هربوا من كوسوفا وأصبحوا لا جئين في المخيمات ومشتتين في دول الجوار وعلى الأخص في ألبانيا - حيث تدخلت الولايات المتحدة وحلف الناتو – ولحسابات متعلقة بالنظام الدولي الجديد وأهداف اخرى – تدخلوا بشن حرب جوية ضد صربيا ، مما أدى إلى خروج القوات الصربية المحتلة من الإقليم. وتوقف الحرب وعودة اللاجئين .

ويخضع الإقليم منذ ذلك الحين – أي منذ عام 1999 إلى إدارة حلف الناتو ، وإشراف الأمم المتحدة - وإن كان الإقليم قانونيا لا يزال تابعا لصربيا – وهذا باعتراف المجتمع الدولي ذاته ، وليدخل الإقليم بعد ذلك في نفق جديد أسمه المفاوضات بين الممثلين لشعب كوسوفا وبين الحكومة الصربية ، ولم يتم التوصل إلى أي نتيجة حتى الآن فصربيا ترفض رفضا قاطعا منح الاستقلال للإقليم والكوسوفيون لا يريدون شيئا سوى الاستقلال الكامل عن صربيا – والقضية معقدة جدا وبشكل يجعلها تقترب – إلى حدما – من قضية فلسطين .

 أحمد الظـــــــــــــــــــرافي