الثورة: القبيلة و الدولة المركزية و المحليات!
بقلم/ أ.د سيف العسلي
نشر منذ: 13 سنة و 4 أشهر و 4 أيام
الأربعاء 20 يوليو-تموز 2011 08:26 م

 على الرغم من احتياج اليمن لثورة حقيقية تنقله من الماضي السحيق الى الحاضر الحديث فان ثورة الشباب لم تستوعب ذلك. انها تخبطت بين بقايا ثقافة القبيلة و ثقافة الدولة المركزية المستبدة. صحيح ان هناك في اليمن ظلما يجب الثورة ضده و لكن الصحيح ايضا ان الثورة الحقيقية لا تستبدل ظلما بظلم. انها لا تنبع من الحقد و الثأر و الاستبداد و انما تقوم على التسامح و العفو. فالثأر من بقايا ثقافة القبيلة الظالمة و الاقصاء من بقايا ثقافة الدولة المستبدة.

 صحيح ان مشروعية الثورة اي ثورة تنبع من ممارسة الظلم و لكن الصحيح ايضا ان الثورة الحقيقة لا تمارس الظلم و لا تقره من اول يوم لانطلاقها. فاذا لم يوجد ظلم فلا مشروعية لأي ثورة مهما تفاخر بها من اطلقها. و اذا لم تعمل الثورة على ازالة الظلم فلا مبرر للتضحية من اجلها.

 ان الثورة الحقيقية ضرورية لتصحيح الاختلالات التي قد تراكمت في اي نظام من الانظمة الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية. لكن الثورة لا تسمح بالعودة الى النظام الذي ثارت ضده و لا الى النظام الذي سبقه. الثورة تسعى و يكون نجاحها عندما تحل نظام غير صالح بنظام اخر اكثر صلاحا اي عندما تزيل الظلم و تحل محله العدل.

 يقاس الظلم بمقدار الاختلالات في العلاقات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية القائمة و المطلوب تغيرها. فالعلاقات السياسية تحدد حجم السلطة و ممارستها و تاثيرها. و العلاقات الاقتصادية تحدد حجم و طرق الحصول على الاحتياجات الضرورية و الكمالية للحياة. و العلاقات الاجتماعية تحدد وسائل التواصل الاجتماعي و تعتبر العلاقات الثقافية مكونا اساسيا في ذلك. و يمكن قياس مدى عدالة او ظلم هذه العلاقات من خلال تحليل وظائف كل من القبيلة و الدولة و المحلية. 

 ان هذه العلاقات تنبع من حقيقة فوائد التعايش الجماعي للأفراد. فاذا كان من الممكن للأفراد ان يعيشوا حياة كاملة بدون الاخرين اي بدون علاقات مع الاخرين لما كان هناك ضرورة لكيانات مثل الدولة و القبيلة و المحلية. و لكن البشرية اكتشفت من خلال تجاربها العديدة بانه من الممكن جعل فوائد هذه الكيانات اكبر من اضرارها. ان ذلك يعني انه قد تكون اضراراها اكبر بكثير من فوائدها و في هذه الحالة فانه لا بد من الثورة عليها.

 تنبع فوائد هذه الكيانات من تمكينها للأفراد من استغلال الموارد الطبيعية و حشدها (الارض و العمل و التمويل و راس المال) و الاستفادة من الامكانيات المتاحة لصالح الجميع من خلال تقاسمها بشكل مرض وفقا لقواعد و معاير متفق عليها. و لكن فمن الممكن ان تعمل كيانات مثل القبيلة و الدولة و المحلية على تمكين بعض الافراد من استغلال هذه الموارد لصالحهم بمقدار يفوق حصتهم وفقا للمعاير المتفق عليها بسب اختلال الترتيبات المؤسسية المنظمة لهذه الكيانات. و في هذه الحالة يظهر الظلم و يختفي العدل اما بشكل كلي او جزئ.

 في البدء ظهرت مؤسسات القبيلة و التي كانت تنظم العلاقة بين افراد ينحدرون من سلاسلة واحدة او يعيشون في منطقة واحدة مكونة من عدد من التجمعات السكانية ( القرى). ان مقومات اي نظام قبلي هي اللغة المشتركة او اللهجة المشتركة على الاقل. و بالاضافة الى ذلك فانه لا بد من وجود علاقات اقتصادية اي تبادل في السلع و الخدمات بين افراد و مكونات القبيلة. و كذلك فانه لا بد من وجود روابط اجتماعية تقوم على النسب او المصاهرة او المعاهدات او غير ذلك من الروابط.

 و على الرغم من مساعدة مؤسسة القبيلة الحضارة الانسانية عندما وفرت وسليه فعالة لحشد الجهد الانساني مما ساهم في تحقيق الامن السياسي و الاقتصادي و التنوع الثقافي الا ان هذا الاخير قد عمل الى تقسيمها الى عشائر ثم الى قبائل. ووفقا للأعراف القبلية فان القبيلة الاقوى هي التي ينبغي ان تسيطر فترتب على ذلك اختلال العلاقات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية في الكيان الجديد الذي اصبح في حقيقة الامر يضم اكثر من قبيلة.

 و لولا الثورة على هذه العلاقات غير العادلة لظلت الانسانية تعاني من الظلم و الى الابد. فكانت الثورة على القبيلة مشروعة لأنها تحولت من مفيدة ( عادلة) الى ضارة(ظالمة). لقد مثل ذلك الشرط الضروري لمشروعية الثورة. اما الشرط الكافي فكان ابتداع مؤسسة اكثر عدالة. و لذلك فلم يكن من المقبول ان يتم هد اسس القبيلة و العودة الى حياة الانفراد لان ذلك الوضع كان اكثر ظلما من الحياة في ظل القبيلة.

 لقد نجحت الثورة على القبيلة لأنها كانت تمارس الظلم و لان المؤسسة الجديدة المقترحة اي الدولة المركزية اكثر عدلا و اقل ظلما. فقد مكنت الدولة كل القبائل ان تعيش بعدل و امان و بدون سيطرت اي منها على الاخريات. و قد ترتب على ذلك توسع المجال الجغرافي لكيان الدولة مما كان يعني موارد اكبر و بالتالي حجما اكبر من السلع و الخدمات.

 فما من شك انه لولا الدولة لما كان من الممكن ان تنشأ المدن الكبيرة التي كانت تحتوي على تنوع اقتصادي و اجتماعي و ثقافي. و على الرغم من النجاح الكبير في ذلك و الذي بلغ ذروته خلال الثورة الصناعية التي وفرت متطلبات الحياة لتجمعات كبيرة من البشر ما كان يمكن توفير ذلك لها بدون ذلك.

 لكن قيام الدولة ادى الى ظاهرة الاستعمار تحت مبرر توفير المواد الاولية و الاسواق للمصانع الجديدة. و لا شك ان ذلك مثل في البداية ظلما للعديد من الشعوب الضعيفة و لكنه في نهاية المطاف تسبب في نشوب حروب كبيرة بين الدول الصناعية مما مثل ظلما لها.

 و نتيجة لذلك تم تطوير مفهوم جديد للدولة قد يتسق مع مفهوم القبيلة تحت شعار حق تقرير المصير للأمم و الشعوب. فقامت دول في العديد من مناطق العالم لا تستطيع ان تكون دولا بالمعني الحقيقي لهذه الكلمة. لأنها في الحقيقة كان تمارس مهام القبيلة في مراحلها الاخيرة.

و لقد ترتب على ثورة الاتصالات ان عادت الممارسات الاستعمارية من جديد تحت شعار العولمة و بما ان مفهوم الدولة الاستعمار كان اسوء من الدولة المستقلة فانه كان لا بد و ان يصاحب ذلك شكل اخر للعمل الجماعي الا وهو المحليات. فالمحليات هي حل لمشاكل التحضر مثل الزحام و التلوث و انعدام الخدمات الكافية.

اذن فهدف الثورات في العصر الحديث هو تجاوز كل من نظام القبيلة و الدولة المركزية الى نظام المحليات. تعتمد فكرة المحليات على اساس تقسيم البلاد الى مناطق جغرافية وفقا لمعاير اقتصادية و ادارية. و المقصود بالمعاير الاقتصادية هو وجود نشاط اقتصادي او انشطة اقتصادية متكاملة في المنطقة الجغرافية بحيث يستفيد السكان من هذا النشاط في حال اعطائهم استقلالية معقولة لإدارته. و المقصود بالمعايير الادارية هنا المقارنة بين الاستقلالية في اتخاذ القرار و التكاليف المرتبطة به. اي انه اذا كانت المنطقة كبيرة بحيث تحتاج الى تفويض في الادارة فلا فائدة من تحويلها الى محلية و كذلك اذا كانت صغيرة بحيث ان ادارتها بطريقة مستقلة لا يبرر التكاليف الكبيرة.

تقوم المحليات على اساس السكن في منطقة جغرافية محددة اداريا و قانونيا. و بذلك فإنها تختلف عن القبيلة. فكل من يعمل او يقيم بشكل دائم في هذه المنطقة يتمتع بكل الحقوق الممنوحة لها و يلتزم بكل الواجبات المترتبة على ذلك.

من المفترض ان تعمل المحليات على اساس تحسين مستوى المعيشة من خلال تقسيم العمل و التبادل و التحويلات و الاتصالات و التبادل الثقافي من خلال الاستقلالية التي تعطى لها من سيطرة الدولة المركزية و مؤسساتها. و من اجل ان تنجح المحليات فانه لا بد من اعطائها الصلاحيات الدستورية و القانونية و الادارية في استغلال بعض او كل الموارد الموجودة في اطارها الجغرافي. اي انها ليس مجرد تفويض من السلطات المركزية و انما يجب ان تكون حقيقية و غير قابلة للانتقاص من قبل السلطات المركزية في كل الظروف و الاحوال.

  و من اجل ذلك فانه يجب ان يكون التحديد الاداري نوعا من الاستقلال عن بقية المحليات و عن الدولة المركزية و في هذه الحالة فانه لا بد و ان يتاح للمحلية القدرة على مقاومة اي تدخل في شؤنها المحددة من قبل المحليات الاخرى و السلطات المركزية.

 ان ذلك يتطلب حصول تقاسم فعلي و حقيقي للسلطة و الثروة بين المحليات و الدولة المركزية بحيث تستطيع المحليات التحكم بالموارد الحقيقية و حقق تنظيم استغلالها و التصرف فيها و الحق في حشد الافراد لتحقيق هدف معين طوعيا او غير ذلك. اي ان يكو لديها القدرة على التصرف ببعض الموارد الحقيقية المحلية او المحولة اليها وفقا لرغبات سكانها و بدون اي تدخل او اشتراط من قبل السلطة المركزية.

 و لكن ذلك لا يعني باي حال ان يكون هناك انفصال كامل بين المحلية و السلطة المركزية و لا بين المحليات و بعضها البعض. و من اجل ذلك فانه لا بد من ايجاد و تطوير للأليات الدستورية و القانونية و السياسية و الاجتماعية لحل اي الاختلافات او التنازعات التي قد تظهر او تنشا بين المحليات و السلطة المركزية لا بد و من ان يتم حلها بالطرق السليمة.

 و في هذا الاطار فانه يجب ان تنحصر مهمة تحديد المناطق الجغرافية للمحليات في يد السلطة المركزية. و بالاضافة الى ذلك فان يجب على السلطة المركزية تحديد العلاقة بين المحليات و بعضها البعض. و في كل الظروف فان السلطة المركزية يجب ان تحتكر الدفاع و العلاقات الخارجية و النقود و البنوك و الاسعار و التجارة و الرسوم الجمركية و بعض الموارد العامة مثل النفط و بعض الضرائب و الاحزاب السياسية و النقابات المهنية و الانتخابات و القضاء و بعض مهام العملية التعليمية و الضمان الاجتماعي و التدخل في حال حدوث الكوارث.

 و في غير هذه المهام و خصوصا المهام الطارئة فانه لا بد و ان تكون هناك اليات و طرق للتواصل بين المحليات و الدولة المركزية و التعاون و التشاور و التشارك فيما بينها.

 فما من شك بان تطبيق المحليات في اليمن سيساعد على حل الكثير من المشاكل المزمنة. فمن المعروف ان اليمن كانت و لا زالت دولة قبلية. و قد ساعد على ذلك تنوع مناخ و جغرافية اليمن. هذا من ناحية و من ناحية اخرى فان سيطرة الاجانب على الحكم في اليمن قد عرقل تحول اليمن من مجتمع قبلي الى مجتمع له دولة. ففي العصر الحديث فان سيطرة العثمانيين و الانجليز على اليمن قد ساهم و الى حد كبير في بقاء اليمن مجزأ ليس فقط الى شطرين و انما الى عدد من المناطق التي ظلت تحكم من قبل المشايخ و السلاطين.

 و على الرغم من قيام ثورتي سبتمبر و اكتوبر و توحد اليمن في عام 1990 فلم تنجح كل المحاولات في بناء دولة فيه. ففي الشطر الجنوبي ظل البنية التحتية للسلطنات صامدة و في الشمال ظلت ثقافة و مؤسسات القبيلة طاغية على ثقافة و مؤسسات الدولة.

 و لذلك فاني اعتقد ان اليمن يحتاج الى ثورة جديدة في الوقت الحاضر. و لكن ينبغي على الجميع ان يدرك ان الثورة الحقيقية هي تلك التي تسعى الى تحويل المجتمع اليمني الى مجتمع محلي. و من ثم فان من يحاول ان يستغل مناخ الثورة في الوقت الحاضر الى العودة الى ما قبل ثورتي سبتمبر و اكتوبر اي الى مجتمع القبيلة فسوف يفشل و كذلك فان من يحاول ان يستغلها الى العودة الى ما قبل 22 مايو عام 1990 اي الى الدولة الشمولية فسوف يفشل.

 يجب ان تهدف الثورة الجديدة الى نقل اليمن الى عصر المحليات. صحيح ان اليمن لم يتأثر بالثورة الصناعية و بالتالي فانه لم ينجح في اقامة مؤسسات الدولة الحديثة. لكن الصحيح ايضا انه من غير الممكن او المفيد ان تسعى الثورة الجديدة الى بناء مؤسسات الدولة المركزية و التي تعبر عنها شعارات مثل الدولة المدنية و حتى الدولة الديمقراطية.

 فقد كان على شباب الثورة ان يستوعبوا المتغيرات الداخلية و الخارجية و ان يسعوا الى بناء دولة المحليات و التي هي الشكل المناسب للدولة الحديثة في المستقبل. فاذا ما كانوا قد ادركوا ذلك لتمكنوا من التغلب على ثقافة و ممارسة الدولة الشمولية و على ثقافة و ممارسات المجتمع القبلي و لكانوا مارسوا ثقافة المجتمعات المحلية.

 ان فشل ثورتهم يرجع من وجهة نظري للخلط بين اهدف الثورة والقبيلة و الدولة المركزية و مفهوم الدولة الحديثة اي المحليات و لذلك فان عليهم ان يعيدوا النظر في كل من شعاراتهم و تصرفاتهم لتكون منسجمة مع ذلك.