استقلال كوسوفو: إرادة شعب، لا تأريخ ولا جغرافيا!
بقلم/ أمين اليافعي
نشر منذ: 16 سنة و 9 أشهر و 3 أيام
الجمعة 22 فبراير-شباط 2008 12:26 ص

مأرب برس - خاص

ما إن فجّر رئيس الوزراء "هاشم تاتشي" داخل البرلمان الكوسوفي عبارته( التي سَـتـُعـد تاريخية دون محالة، ولحظة فارقة وفاصلة (وإلى أجلٍ غير مسمى) في حياة شعب كوسوفو) أثناء قراءته لـ"وثيقة الاستقلال"، و التي قال فيها: "لن يحكم كوسوفو بعد الآن وإلى الأبد من قبل صربيا".. حتى انتفض أعضاء البرلمان، وبكل ما أُتوا من قوة، ضربوا كفوفهم اليمنى باليسرى، فعلا التصفيق المكان، وتردد صداه داخل مبنى البرلمان، فصار الصوت أصوات متعددة، لتخرج إلى الكون رسولاً، ينير العالم المعتم بالحرية، ويبعث دفئاً وهاجاً في أعماق الشعب الكوسوفي (وكل الشعوب الرازحة تحت وبال الاحتلال) فيحرر روحه، ويدفعه إلى الخروج أفواجاً إلى الشوارع غير مكترثٍ بصقيع وثلوج الجغرافيا، أو لتأريخٍ اضطره إلى فقد هويته داخل أرضه.. يجوب الساحات، والفرحة العارمة المرتسمة على الوجوه كأنها جناحان لمَلَك يحمله إلى أرض الميعاد السماوية.. مردداً أناشيده وأغانيه بلغة ألبانية حرة طليقة احتفالاً بالاستقلال.. والتي أن كنّا لم نفهم كلماتها، فقد وصلتنا.. وصلتنا على الطريقة المعتادة في التعبير عن فرحتنا العارمة في لحظاتٍ كهذه، بـ"طلع البدرُ علينا" و " أفقنا على فجر يومٍ صبي***فيا ضحوات المنى: اطربي... أتدرين يا شمس ماذا جرى؟***سلبنا الدجى فجرنا المختبي"..

ومهما حاولتُ أن أنمق كلماتي، فلن أستطيع وصف الحالة التي رأيتُ فيها الشعب الكوسوفي في الشوارع ممتلئاً حرية عقب الإعلان عن استقلال الإقليم.. لن أستطيع وصف ذلك. جل ما تمنيته لحظتها، أن أكون ضمن هذا السرب الخالد الذي يحلق في الفضاء الطلق، ويغرد للدنيا قائلاً لها: "أني حر".. أن أسبح في أعماق هذا النهر العذب الهادر، والممتد في أعماق التأريخ والجغرافيا، الأبي على الحجز مهما كانت قوة الموانع والحواجز، الرافض لتغيير مسار مجراه الأصلي رغم قسوة الظروف إلى أن يصل إلى مصبه، فيحتضنه البحر، أو يموت في الصحراء بعد أن قال للأرض كلمته..

وكم كنتُ أتمنى أن أشارك في إحراق الجثة المتعفنة التي أراد البعض من خلالها كبت إرادة الشعوب، وحقهم في تقرير مصيرهم باسم الدولة القومية والجغرافيا والتأريخ والتي تفترض أن الإنسان هامشي وليس من حقه إعادة صياغة ذاته، وتشكيل هويته، وصناعة تأريخه وجغرافيته بطريقة مستقلة عن عفن الجثة!.. فالإنسان متغير ـ كما يفترض هؤلاء ـ والقومية والتاريخية والجغرافيّة هم الثوابت!!.. متناسين أن الإنسان على مرّ العصور هو من شكل الهوية، وصنع التأريخ والجغرافيا، والصانع هو الثابت وليس المصنوع كما يقول لنا "عتاوتة" الدين.. فالله ثابتٌ لأنه الذي صنع، والكون متغير باعتباره المصنوع، وكذلك الإنسان، وإلا كيف يكون للإنسانية هوية وتأريخ وجغرافيا من غير إنسان!!..

لو كان التأريخ والجغرافيا هما الثوابت والمسئولان عن تشكيل الإنسان وهويته في صيرورة مستمرة وإلى الأبد بعيداً عن فردانيته واستقلاليته الحتمية كطبيعة خلقيّة.. لما كان رب الكون بحاجة إلى إرسال الأنبياء إلى البشرية، أو اختصاص طائفة بعينها بالرُسل لا يفصلها التأريخ والجغرافيا عن مثيلاتها من الطوائف الأخرى في بيئتها المحيطة.. ولما شهدنا العلامات المضيئة في تأريخ البشرية التي انبثقت عنها معالم وتشكلات جديدة للإنسان والعالم من حوله فيّما أعتاد علماء التأريخ أن يطلقوا عليها بـ"لحظات غيّرت مجرى التأريخ" وأعادت تشكيل حدوده الجغرافية والإنسانية..

ولو كانت القومية بتابوهاتٍ محددة، جاهزة وغير متجددة هي المُشكّل الأوحد لهوية الفرد، وتطلعاته المستقبلية، وحدوده المكانيّة.. دون أن تراعي واقعه المعاش المتجدد، والروافد المختلفة التي تغذي هذا الواقع باستمرار بفعل الدين والعرق والجنس والانفتاح.. ولا تستوعب هذا التشكّل في منظوماتٍ تُعيد من خلالها صياغة ذاتها القومية.. لما شهدنا التمزق والتشظي إلى حد الانفجار والاحتراب في المناطق التي يُمارس ضد شعوبها مثل هذا النوع من الهويات الجاهزة والمغلقة منذ أمد بعيد فيما يُعرف باسم "الدولة القويمة"!.. بل أن التجربة الأوروبية الناضجة في مجال التكامل وصياغتها الحديثة لقومية مشتركة التي جعلت مجتمعاتها أمام خيرات مفتوحة، مستوعبة كل ما ينتج عن هذه الخيارات، ومعتمدةً عليها ـ على ضوء تطورها المستمر ـ في إعادة تشكيل وبناء القومية بعيداً عن الحفر الراكدة والسيطرة والقمع والإقصاء وربما الاقتلاع!.. خير مثال على فشل التابوهات الجاهزة لمفهوم القومية التقليدي في مسعاها نحو التكامل والتوحد!

إن نظرية مركزية التأريخ والجغرافيا لا تنطبق إلا على متطلبات الأمن القومي كما يقول الأستاذ هيكل مؤخراً في حلقاته على قناة الجزيرة، لكنها تنحرف عن مسارها الطبيعي إذا سارت باتجاه السيطرة على الإنسان وتهميشه في اتصالها به في لحظته الراهنة، فكما أسلفنا أنه هو من يصنعها وليس العكس!.. ولو كان العالم اعتمد على مثل هذه المقولات المحنطة، لما شهد التطور الهائل الذي حصل له في القرون الأخيرة من تأريخه. ولما شهدنا نشوء وطناً عظيماً كان خارج السياق الزماني والمكاني القديم (أقصد أمريكا)، خصوصاً عندما استطاع أن يجاوز ـ إلى حد بعيد ـ قوقعة الهوية البيضاء(أو الرجل الأبيض) التي وقع في فخها في بداية تأريخه إلى استيعاب كل قوميات وعرقيات العالم، فتفاعل معها بصورة إيجابية، ليشكل منها وطن الأحلام، والإمبراطورية التي لا تقهر..

فالإنسان الذي قاد هذا التطور أنسلخ عن التأريخ والجغرافيا كمحددات أساسية لمساره وتطلعاته، خارجاً إلى فضاء جديد رحب نصّب نفسه فيه كمركز.. بينما بقيت المجتمعات الأخريات اللاتي يعجنّ تأريخهنّ وجغرافيتهنّ لتشكيل هويتهنّ ـ دون مراعاة التجدد ـ في أدنى السلم الحضاري!

 وبفضل هذا التقدم الذي اعتمد على محورية الإنسان واستقلاليته، أصبحنا نشهد عالماً جديداً سمّي ـ تحت مصطلح دال ـ بـ "القرية الواحدة".. فالفرد المستقل هو من لديه القدرة على التكامل مع الآخرين تكاملاً ناضجاً بناءاً، أما المستعَمر ـ بأي شكل من أشكال الاستعمار المادي والمعنوي ـ فهو كالبيت المقسوم على ذاته كما يقول جبران خليل جبران!..

لذا، كانت لحظة إعلان استقلال كوسوفو لحظة تاريخية فارقة، تحرر الشعب من أغلاله، وحدد مصيره الوجودي (الذي تعرض للاقتلاع قبل بضع سنين)، وحدوده الزمانية والمكانية بعيداً عن كل مخلفات الماضي والنظريات الكبرى(الصغيرة مضموناً) التي سيّدت التأريخ والجغرافيا والإيدلوجيا على رقاب المجتمع، وافترضت أن "إقليم كوسوفو" هي أرض بلقانية اُحتلت من قبل الإمبراطورية العثمانية وآن الأوان لكي يرجع الفرع إلى الأصل، دون مراعاة للهوية الجديدة التي تشكلت لدى الكوسوفيين، ولو أدى ذلك إلى اقتلاعهم في حالة تعارض هويتهم الجديدة وتطلعاتها مع الهوية الأصلية للبلقان! باعتبارهم غرباء أو الهامش، بينما المكان والزمان والقومية هم الثوابت الوحيدة التي سيتحدد على أساسها مصير الإقليم وشعبه!.. فهنيئاً لهم الاستقلال الذي فتح بارقة أمل ليس في قلوبهم فحسب، بل في قلوب كل الشعوب التي تقع تحت وطأة الاحتلال والقهر لدفعها إلى السير بخطى ثابتة نحو التحرر والاستقلال( والتحرر والاستقلال ليس بالمفهوم المادي الضيق، بل والمعنوي أيضاً)..