والعًودُ أحمدُ
بقلم/ أمين اليافعي
نشر منذ: 16 سنة و 11 شهراً و 17 يوماً
السبت 08 ديسمبر-كانون الأول 2007 07:20 م

مأرب برس – خاص

عندما بدأت الساحة السياسية اليمنية تستشف توجهاً غير خافي لدى الرئيس في توريث منصبه لنجله الأكبر "أحمد" على إثر الصعود الصاروخي للأخير في السلم الوظيفي العسكري الرتيب،ووصوله في بضعة أعوام إلى مناصب عليا وحساسة جداً في ذات الوقت، وكبيرة مقارنة إلى سنه وحجمه الوظيفي والمهني .. نظرت النُخب السياسية إلى هذا الصعود على أنه بداية لمرحلة انتقالية يُراد منها إعداد وتهيئة "النجل" ـ الذي لم يذق معاناة الحياة من قبل ـ للمنصب الكبير.. بينما استقبلها الشارع اليمني على طريقته المعتادة في مثل هكذا مواقف بإطلاق "النكات" اللاذعة التي لا تقل عمقاً عمّا تطلقه النُخب من تحليلات وأراء. كانت النكتة التي أطلقها الشارع بعد تسرب شائعات التوريث تتلخص في: أنه وفي أحد الأيام، وبينما كان الابن يجلس بقرب "مسبح القصر" والضجر يعتريه من كل شيء، إذ لم يجد جديداً يشغل به نفسه.. فكّر: لا يوجد إلا أمراً واحداً لم يجربه بعد! فعقد العزم على أن يذهب إلى والده ليطلب منه أن يهبه هذا الأمر، فربما قد يجد فيه ما يشغل به وقت فراغه الممل.. وأمام كرسي العرش حدّث والده بما كان قد استقر في نفسه أن يتنحى الأب عن الكرسي في أقرب فرصة ليجلس هو مكانه.. ولما كان الأب قد بلغ في الحكم عتيا مما اكسبه خبرة في اختبار الأشخاص، وافق على طلب فلذة كبده مقابل أن ينفذ الفلذة شرطا واحداً.. كان الأب قد أمر بإحضار سلة ممتلئة بالفئران، أحد طرفيها ـ الذي يبدو قد فكّت عنه خياطة المصنع ـ معقود بخيط رفيع، ثم طلب من أبنه أن يسحب الفئران من السلة على واحد واحد، وكان هذا هو شرط التنحي. بدا الأمر بسيطاً للابن قليل الخبرة، فهرع إلى السلة لينتهي من الفئران بسرعة ويتسلم الحكم(كان الأمر أيضا مسلياً للابن، وقال في نفسه: "هذه أولى أمارات قتل الضجر"!).. وبمجرد أن فك الخيط المعقود، وأدخل يده بسذاجة في السلة، اندفعت الفئران إلى خارجها دون أن يستطيع السيطرة عليها.. وفي هذه الأثناء، استغل الأب الموقف ليعطي أبنه درساً في كيفية التعامل مع الفئران!.. أمر بإحضار سلة فئران أخرى، وأمسكها من طرفها المعقود، ثم رفعها إلى أعلى، وأخذ يلفها ويلفها ويلفها في الهواء إلى وقت معلوم لديه، ثم أنزلها إلى الأرض، فك الخيط، وسحب بكل سهولة كل فار على حدة بعد أن داخت الفئران. 

ويبدو أن الأب لم يكتف بإعطاء الابن درساً مفيداً في كيفية التعامل مع الفئران(أقصد الشعب!) فحسب، بل قام بإزاحة شخصيات ثقيلة الوزن داخل بنية النظام ـ خصوصاً العسكري ـ بطرق مختلفة، عندما بدا له ـ من خبرته الطويلة ـ أن حضورها القوي في الأوساط العسكرية والشعبية سيكون له تأثير مباشر في تحديد شخص الجالس على كرسي الرئاسة مستقبلاً، ومن غير المستبعد أن يكون الرئيس القادم من بينها !.. كما سعى ـ منذ سنوات عديدة ـ إلى تهيئة الأجواء الداخلية والخارجية، وجس نبض رأيها العام حيال مسألة التوريث بالحديث إلى وسائل الإعلام المختلفة حول أحقية الابن في تولي هذا المنصب عن طريق بوابة الانتخابات( لعل أهمها ـ على ما أذكر ـ المقابلة التي أجريت مع فخامته في مطلع هذا العقد مع قناة "الجزيرة" القطرية واستشهد عند حديثه عن هذه النقطة بأسرة "بوش" الأمريكية.. وعندما قاطعته المذيعة بقولها : أن هناك رئيساً أتى بين الأب والابن، رد الرئيس: أن "كلينتون" ليس إلا "محلل"! (ويا ليت المحللين في وطنا العربي كُثر!)).. والغريب أن الساحة السياسية اليمنية ـ خصوصاً النُخب ـ بدت وكأنها قد رضخت لمسألة التوريث، إذ لم تعط المسألة حقها من النقاشات والتحليلات للنتائج الكارثية ـ بعيدة المدى ـ على مستقبل النظام الجمهوري في اليمن.
 

"أحمد" النجل الذي ظل مختبئاً عن وسائل الأعلام طيلة السنوات الماضية، وابتعد عن الساحة السياسية عدا ترشحه الوحيد للانتخابات البرلمانية 1997م.. برز بقوة وسرعة في الأوساط العسكرية ـ وكأنها بوابة الأمان لمستقبله السياسي/الإرثي!.. بداية من تسلمه قيادة الحرس الجمهوري وهو دون الثلاثين من عمره، ثم التحديث النوعي والكمي الذي طرأ على هذا الجهاز في عهده( كاختيار المنضمين إليه بعناية فائقة، استقدام طاقم تدريبي من أمريكا، النفقات الكبيرة التي تصرف عليه..)، وصولاً إلى خوض هذا الجهاز اشتباكات ميدانية عديدة كان لها فضل في كسر شوكة قوى ظلت خارج سيطرة النظام قبل توليه قيادة الحرس الجمهوري.. وكنوع من "تلميع" جانبه الإنساني ـ على اعتبار أن الجانب العسكري وحده يثير الخوف ـ في الأوساط الاجتماعية، حاول التواجد عن طريق رئاسة عدد من الجمعيات الاجتماعية والرياضية، لعل أهمها جمعية "الصّالح" الخيرية التي قامت بعدد من الأعمال الخيرية الاجتماعية كالأعراس الجماعية (بلغ أحدها 504 عريس) ورعاية المعوقين وتقديم المعونات للفقراء والمحتاجين، وبناء جامع "الصّالح" الشهير.. وكانت هذه الجمعية قد أنشأت بعد توليه قيادة الحرس الجمهوري.
 

وعندما كثُرت الشائعات التي تتحدث عن حتمية التوريث، وأصبح وكأن الأمر مسلماً به، أخذت الساحة السياسية والشعبية تتحدث عن سبب عزلة وصمت "الوريث" السياسية والإعلامية مقارنة مع أبناء شخصيات كبيرة في الدولة ـ يلوحون بقوة كمنافسين للنجل ـ قد ضجوا الدنيا بمؤتمراتهم وأحاديثهم لوسائل الإعلام(أخص بالذات أبناء الشيخ عبدا لله الأحمر حميد وحسين وبعض الشخصيات الجنوبية).. وهو ما دفع الابن في سبتمبر الماضي ـ ولا زال ببزته العسكرية قائدا للحرس الجمهوري ـ إلى الظهور عن طريق تشكيل منظمة مدنية ضمت أكثر من 100 شخصية برلمانية سابقة، واختارته رئيساً فخرياً لها!.. ومع أن هذا الظهور كان سياسياً بملامح مدنية، إلا أنه لم يتخلله أي حديث سياسي أو الإعلامي للنجل...
 

لكن ما كان مفاجئ للشارع السياسي اليمني منذ بضعة أيام ظهور الابن للمرة الأولى بحديث سياسي منمق في اختتام اجتماعات الجمعية العربية للعلوم السياسية بصنعاء!.. الابن الذي بدا في حديثه وريثاً حقيقياً هذه المرة، وأكثر تمرساً في كيفية التعامل مع "الفئران"!.. وبصورة الحداثي الذي يتماشى مع الواقع العالمي الجديد، بحديثه الذي تجاوز به النخبة الحاضرة في الندوة عن أهمية تعزيز ثقافة الديمقراطية والحرية والإبداع في الوعي السياسي والشعبي العربي.. محاولاً الظهور بنوع من الاستقلالية والحياد عن والده الحاكم عندما دعا كل الأحزاب السياسية ـ منها المعارضة ـ ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الرسمية إلى التعاون وتوحيد الجهود في سبيل تعزيز قيم الديمقراطية والحرية وثقافة التسامح والقبول بالرأي والرأي الآخر..

وقد يبدو للبعض سبب الظهور المفاجئ في هذا التوقيت بالذات موجة الحشود والمؤتمرات الجماهيرية والاصطفافات السياسية والقبيلة التي تشهدها الساحة اليمنية مؤخراً، وما رافقها من تشكُّل زعامات شعبية شابة لدى أغلبها لغة سياسية عصرية، وفكر منفتح، وقدرة على مخاطبة النُخب والجماهير، فحظيت منهم بالدعم والمشاركة الكبيرين في المؤتمرات التي دعوا إليها.. ومع استمرار الحشود والاصطفافات، وتردي الوضع اليمني اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، لا شك أن هذه الأحداث مجتمعة ستؤدي إلى تبلور مراكز قوى جديدة ومنافسين شباب أقوياء(مع الأخذ في الاعتبار أن أحمد "النجل" ليس لديه رصيد نضالي في الثورة أو الوحدة كوالده يمكن أن يرجح الكفة!) في المستقبل ـ بعد ذهاب الرئيس الخالد! ـ على منصب رئيس الجمهورية.. خصوصاً عندما تطرقت بعضها لمسألة التوريث ـ الشيخ حميد الأحمر بالذات، ودعا ـ برسالة سياسية كان الغرض منها تفويت مسألة انتقال السلطة من الأب إلى الابن ـ إلى أن يستقيل الرئيس من منصبه لرئيس من محافظة جنوبية كفرصة ذهبية لإثبات وحدويته ووطنيته، وضربة قاضية للغرماء السياسيين!.. ولم تغفل "النجل" من حديثها، إذ وجهت إليه النصيحة إلى ترك العمل العسكري في حال نية الوصول إلى كرسي الرئاسة، والسعي لإثبات نفسه، ونيل هذا المكان من خلال إيمانه الصادق بالديمقراطية وانخراطه في العمل السياسي..

ولأن الصمت في هذه المرحلة كفيل بإضاعة المنصب.. ولكون من وجه إليه النصيحة منافساً قوياً وتاريخياً، ومن عادة العرب كما يقرر ابن خلدون أنهم متنافسون في الرياسة، وقل أن يُسلم أحد منهم لغيره.. ولأن والده ـ من خلال خطاباته وسلوكياته ـ قد اظهر الوطن وكأنه جيباً من جيوبه الخلفية؛ لذا فهو الأحق بهذا الإرث!.. أيضاً لضبابية مستقبله العسكري والسياسي في حالة تولي رئاسة اليمن شخصاً غيره بعد اللغط الذي حدث حول مدى مصداقية تدرجه الوظيفي في المناصب العسكرية، وبعد تجارب عديدة لوضع أبناء رؤساء عرب سابقين بعد رحيل آبائهم.. خرج "أحمد" بهذا الخطاب السياسي الهام(كونه يكشف مرحلة وراثية قادمة لا محالة، والذي كان يقلل منها صمته السياسي الطويل).. لكنه فضّل أن يكون هذا الخطاب في الأوساط النخبوية الخالصة، بعيداً عن الوسط العسكري الذي ينتمي إليه، أو "الدّاعي القبلي" على طريقة المنافس الآخر من أبناء الشيخ عبد الله الأحمر الشيخ حسين.. وهي رسالة سياسية للمنافس التقليدي يقول فيها "ها أنا قد ظهرت نخيويا خالصاً، وليس عسكرياً وحسب"!.. في حين أن هذا الخطاب يكشف عن ثقة كبيرة لدى "النجل" في المُضي قدماً نحو ترسيخ مداميك "الجمهورية الصالحية"، وامتلاكه – في ذات الوقت - لمرجعية قوية تمكنه من مجابهة المرجعيات القبلية التقليدية التي ظلت المحدد الأوحد لشخص الرئيس في السابق.

أما ملامح المستقبل اليمني التي يمكن قرأتها في ظل الجمهورية الصالحية فهي أكثر ضبابية وتخويف!.. فالابن في الأخير ينتمي إلى المؤسسة العسكرية، وحديثه عن الديمقراطية والحرية والقبول بالرأي والرأي الأخر، وشيوع كرهه للعصبية القبلية، ما هي إلا وجبات "تلميعية" اعتاد العسكر العرب ممن تولى السلطة على تقديمها في كل مناسبة، بينما الواقع أكثر دكتاتورية من الأنظمة السابقة للثورات!..

أما ما يدعو إلى الكثير من الخوف أن " أحمداً " ليس مجرد عسكري فحسب، بل قائداً للقوات الخاصة، هذه القوات التي دُربت بأيادي أمريكية خالصة .. خصوصاً وما رسمته مفردة القوات الخاصة في الذهنية الدولية من صور للعنف والتعذيب والهمجية لم يشهد لها التأريخ مثيل.. هذا وإذا كانت هذه الصورة قد رسمتها القوات الخاصة التي تنتمي إلى أكثر دولة ديمقراطية في العالم، فكيف لنا بالقوات الخاصة اليمنية!!