الثورة: لم تترك بيتاً دون ضحية
بقلم/ عبدالله عبدالكريم فارس
نشر منذ: 15 سنة و 4 أشهر و 22 يوماً
الأحد 05 يوليو-تموز 2009 09:31 م

مأرب برس – الصين – خاص

- "رحم الله من أهدى إليّ عيوبي".

إسمحوا لي بطرح قاسي نوعاً ما وربما ممل أيضاً... مشكلتنا هي أننا لا نطيق النظر إلى وجوهنا في المرآة... ولكن كيف يهرب المرء من وجهه ومن وجعه؟ - والواقع أن ما يزعج القوم ليس الأكاذيب وإنما كشف الحقيقة.

البعض يرى أن الحل للإشكال هو في لبس قناع زائف، بينما آخرون يرون أن الحل هو في فرض العمى والظلام على سائر الأمة حتى لا ينفضح المظهر القبيح والواقع الأقبح.

ومحض الحقيقة هي أن الكل دفع ضريبة الدم وسدد فاتورة الرهان من أجل التغيير وغد أفضل نسبياً، والشاهد على ذلك أن الثورات اليمنية لم تترك بيتاً عبر امتداد الوطن دون ضحية: إما قتيلاً... أو جريحاً... أو معتقلاً... أو مخفي قسراً... أو معطوباً... أو معتلاً... أو هارباً... أو مهاجراً، لايعرف تماماً لماذا اُبعد عن وطنه.

- ولأن كذبة التغيير وخسارة الرهان سارا بإتجاه عكس تطلعات الناس، فإن تأثيرهما كان وما زال وبالاً على الجميع، ومن ينكر ذلك مصاب بداء الزهايمر المزمن وليس لدينا له من دوآء، وعسى الله أن يشفيه!

... والأمة تعرف سلفاً أنها هي من باتت مخدوعة، وأن الأقل تضرراً من الأكاذيب هم الكذابون أنفسهم، ولعل الأسلم هو إصلاح الخلل من الأصل لا الإجتهاد في تزوير وإخفاء الصورة.

بالطبع سوف يصبح اسم المقال ونوع مادته مغرياً للتحليل السطحي واستخراج الدلالات التخوينية إلى درجة التعسف، لكن أمام مظاهر السقوط الإنساني والحضاري، حينما نقرر خوض معركة - "نكون أو لا نكون" - ضمن خطاب أخلاقي وحقوقي ومطلبي شجاع مؤسس على قناعات تحاكي أبجديات الناس وروح العصر وفي لحظة صدق مع أنفسنا ومجتمعنا، فنحن لا نمارس بدعة أو نشيع فاحشة حتى يوجه الى الشجعان منا تراهات التخوين عبر تعبيرات فارغة من المعنى - التي لم تعد أصلاً تشغل بال أحد -، وربما النفي إلى جزر الكراهية والأحكام اللزجة على قاعدة "كل بدعة ضلالة".

... ولعل أبلغ ما في الأمر وأطرفه هو أن كل المشاكل وحلولها تبدأ وتنتهي بنوع ونكهة نظام الحكم وطريقة تفكيره وإسلوب إدارته، التي يبدو أن الداء والدواء يأتيان منه.

فرغم زخرفية أهداف الثورة، لم يكن هناك من عيب في سمو تلك الأهداف، إلاّ أن الإشكال الأكبر كان ولايزال عبر سرمدية حبس شعب وبلد مترامي الإطراف بالتنوع والأعراف زج به في إطار مخيخ رجل واحد، - ومهما يكن نوع وتركيبة ونووية نشاط مواد ذلك السوبر مخ أو فهلوة صاحبه، الإّ أنه يظل في كل الأحوال سجن ضيق ومظلم جداً يحده من كل الأطراف عظام جمجمة ذلك الفرد، لايرى الناس داخل غياهبه المظلمة من شيء ولايسمع الشعب - داخل تلك الجمجمة السجن - سوى طقطقة فك صاحبها وهو يلوك موارد البلاد ويحولها عبر أجهزة نظامه الهضمية كثقب أسود إلى مخلفات بلاليع.

فذلك المخ البشري، كغيره ذو قدرة هائلة على صناعة الخير والشر إذا ما مُكن من مقدرات كل العباد والبلاد، ولأنه كذلك ظل يعمل بمعيار وحيد وضيق، آلة قياسه درجة الولآء والمؤتمرية أو من أنحشر تحت عمامتيهما، حيث لا فكر يعلو على مستوى القدرة الذهنية للأب الروحي، وهو ذاته من سيّس كل شيء حتى ما يجب تقديسه ولا يجوز تسييسه... هو نفس المخ الذي على حساب العدل والأمن عسكر مجتمع لم يكن فيه الذي يستحق ذلك القدر الغير متناسق من متطلبات الحشد، واقام عسكرة غير متوازية مع مقدرات وناتج البلاد القومي، اللهم إلاّ هوس الدفاع عن ذاته إلى درجة الإفراط ولغرض فرض إرادته والحفاظ على مصالحه وأقربائه.

ومن ذلك المنطلق فالشعب المحبوس في جمجمة فرد لايرى إلاّ حيث تيمم ذلك الفرد، ولا الواقع المقلوب إلاّ من خلف قرنية عين ذلك الفرد، ولايتفاعل إلاّ مع نبض الشارات الكهروعصبية لشبكة أعصاب عقل ذلك الفرد بتشبعها وتوجسها واختزال كل شيء في الأمني والعسكري، الأمر الذي قضى على تقدير العلم والعمل وتعظيم الإنتاج، ودمر زراعات البلاد، وأضاع ثرواتها الحيوانية وصناعاتها الحرفية، وخنق التنمية والنمو الطبيعي، وجرم الإبداع، وأستنسخ جماعات ومرتزقة سواءًا لإدارة الصراعات أو لتجميل لعبته السياسية من مسلتزمات الشرعية الإنتخابية، - واللذان يذكراني بسلخ وتشويه وجه الراحل مايكل جاكسون إلى شكل مسخ بعملية تبييض إصطناعية مخالفة لسنن الخلق، والتي أدت الى تفاقم آلامه وعدم قدرته على الخروج في الشمس واعتمادة على المهدئات من العقاقير التي ادت الى القضا على حياته - ... وهو نفس العقل الذي نشر نقاط عسس قطعت مفاصل المدن وعموم البلاد محولاً إياها الى كانتونات لتزيد من معاناة الناس وقطع أرزاقهم وتذمرهم إلى درجة المقاومة والموت إحتجاجاً، وعزز ثقافة حمل السلاح من أجل الإسترزاق - حتى أن الخطف وقطع الطرق، إضافة إلى التمرد، أصبحت صناعات وطنية قائمة بحد ذاتها -، وفاقم الفقر والجهل والمرض، وأفرز حصيلة أستطاع ملخصها أن يجهض دور التناسل الإنتاجي والمعرفي والحضاري، مما أدى إلى إفشال قدرة الأفراد على التفكير وتعطيل إمكانية المجتمع على الفعل.

- أليست الحقيقة هي أنه لم يعد هناك من طموح بنّآء، وأن تضحياتنا الثورية كشعب كامل كما سبق واسلفنا تكاد تتبخر حيث لم تعد هناك مراجعة مخلصة لما وصلنا إليه، وإذا فعل أحدنا ذلك وجد نفسه متهماً بجلد الذات؟ ... بل هناك حالة من الرضى حتى بالجهل والإدمان عليه، وكأننا تعودنا على الظلام ولا نريد أن نرى النور وربما أننا أصبحنا نخاف منه أيضا.

مثل أحوالنا جميعها الموضوعة في مخزن مُهمَل ومظلم منذ وقت طويل، تسود عندنا حالة من الثبوط والعطل والوهن والكسل إلى درجة البلادة، - فعلى سبيل المثال، إذا ما وضع العفن في خزانة ملؤها طيبات، سوف تجد أن التسوس والعفن والروائح الكريهة قد نخرت كل الأشياء... وهذا ما يحدث لنا الآن، ونحن نرى بأم أعيننا وبوضوح بثور وتجاعيد شيخوخة ثورة انحرفت عن مسارها واتجهت في دورة " U " في إتجاه نحو الماضي، حيث القرابة والمصاهرة والنسب والمناطقية طغت على كل كفاءة، وأصبح عقم قيادة بدون مشروع وطني وبدون حلم مع القدر والمستقبل يدب في كل نواحي حياتنا.

يقول ابن خلدون في مقدمته: "ان الحكمة من وراء تيه بني إسرائيل في الصحراء اربعين عاماً، هي نشوء اجيال جديدة قوية العزم والإرادة قادرة على تغيير واقع الشتات والخوف".

بعد قرابة نصف قرن منذ إنقلاب الثوار على مَلكيّة كانت آيلة للسقوط أصلاً، والإنتفاضة على إمبراطورية كانت تطوي نفسها آنذاك، لعل تيهنا الثوري الذي فاق تيه بني إسرائيل يجبرنا مرغمين على صنع غد متألق على رأسه إدارة رشيدة وذلك عبر مقاومة سوقنا من الأنوف كقطيع يدار بالهراوات والبرادع، - قطيع يساق الى مسالخ الموت عبر التقادم والموت فراداً وزرافات -. وكرد للجميل أو الصاع، لافرق، على هذا الجيل أن يجسد رؤية الحاكم الذي يتأفف في كل مناسبة من رعيته وذلك بتحقيق نبوءته الخارقة التي تعتبر مواطنيه حثالة من الثعابين، والتي يعلنها نهاراً جهاراً، مراراً وتكرارا.

- لكن لعله نسى أو تناسى أننا غير ملزمين بالإعتذار أو التوبة عن قلة حيلتنا في عدم تتويجه على عرش هولندا، أو عن قصر ذات اليد وعدم تنصيبه حاكماً عسكرياً على سويسرا، وأننا كذلك فعلاً وبكل فخر، عشرون ونيف مليون ثعبان سريع الحركة، خطير وسام وبأنياب مسلحة بسم زعاف، قادرة متى اقتضى الأمر على الإنقضاض، وعلى سلخ جلد ذلك أو بالأصح تلك الأفعى الضخمة المتغولة المترهلة والعمياء والمشغولة بالإلتهام والإلتفاف خنقاً وتمزيقاً حول ضحيتها لعصر آخر أنفاسها.

هناك سبب بسيط وواضح لكل ماسبق ذكره، سبب مفهوم لدينا وعند كل ربة بيت وطفل ورضيع، وهو انك اليوم بعد ثلاثين سنة إدارة فاشلة - إدارة "إستحمار" على رأي الكاتب منير الماوري -، تستطيع أن تحذف مشهد الثورة من صورة اليمن الإمامية ويمن ما قبل الإستعمار دون أن تفقد من المنظر شيئاً!

حتى عودة الحياة الطبيعية وعودة الأمن والأمان إلى طرق وحواري مدن وأرياف اليمن، في ظل إدارة مدنية رشيدة رصينة وهادئة تحافظ على الأمانة وتقيم ميزان العدل والمساواة... إدارة ذات رؤية ومشاريع وطنية خلاقة نستطيع من خلالها الطيران على أجنحتها بأمان نحو مستقبل واعد... وحتى يكون لدينا جيش محيّد يدافع عن الوطن من أطرافه، جيش قادر أن يذود عن الثوابت وتنفيذ المهمات الوطنية المعهود بها إليه دستورياً في إطار واضح قابل للتطبيق، حيث تكون أقوى كتيبة فيه هي شرطته العسكرية... جيش لايتدخل في السياسة ولا ينحاز لحزب ولايدين بالولآء لأسرة بعينها.

حتى ذلك الحين يجب أن يكون لنا - كمجموع - أحزاباً ومستقلين وقفة عز ممنهجة عبر إرادة صلبة لا تنكسر، إرادة من لايستكين، إرادة من لا تخدره تلك الدعوات السطحية الفارغة من المضمون، وإرادة من لايتقهقر عند أول إختبار. وفي ظل الفراغ الدستوري القائم والقادم أعتقد أن علينا كحد أدنى - وباب الإجتهاد مفتوح - الإلتزام بلاءات ثلاثة: "لا، لإنتخابات أو الإعتراف بتعيينات أو مناصب وعلى قوائمها نفس تلك الوجوه... لا، لإعادة تصفير عداد كرسي السلطة... لا ... والف... لا، للتوريث".

abdulla@faris.com