رسالة مفتوحة لرئيس هيئة مكافحة الفساد (2)
بقلم/ عبدالله عبدالكريم فارس
نشر منذ: 16 سنة و 9 أشهر و 23 يوماً
السبت 02 فبراير-شباط 2008 03:05 م

مأرب برس - خاص
أعترف بأن من بين عشرات الرسائل التي وصلتني وتعليقات القراء على الجزء الأول من الرسالة .. ما أسال دموعي تأثراً .. ومنها ما ترك أثر ابتسامة... وكان اجملها برأيي عبارة لامست الجرح، واقتطف منها: "حقاً... من منا لا يحس بغصة عندما يُسأل من أي بلد أنت - حينها يكاد الجواب يبدأ بإعتذار: "عفواً، من اليمن"!

الأستاذ الفاضل/ احمد محمد الآنسي، ها أنا ابدأ من حيث انتهيت في مقدمة الرسالة المفتوحة لشخصكم الكريم، والتي استثارت حنين وشجون في ماهية الحلقات المفقودة في دورة النهوض والتغيير في ظل الإدراة الرشيدة؟

سيدي، ان السواد الأعظم يدركون أن مكافحة الفساد لن تجدى نفعاً بدون إدارة رشيدة... إدارة تجند نفسها لخدمة التنمية والتطور، فإذا صلح الرأس صلح الجسد... فالإدارة الرشيدة هي المثل الأعلى... فلن نزايد على عدل الفاروق عمر رضي الله عنه عندما أسقط إقامة الحدود في الشدائد، ولم يقطع يد السارق عندما عجز في القحط أن يوفر له لقمة الخبز... وقد تقترف الطبقة الوسطى الخطايا السبع والكبائر من ربقة العوز والديون المتراكمة عندما يرمى إليها بفتات الإجور... أمّا عند النخبة تصبح محاكاة ولي الأمر القاعدة والعرف... وعليه قطعاً... إن أي سياسة أو إدعاء لايعدوان سوى تلفيق ظاهر بدون إدراة رشيدة.. مجرد طلاء شجرة ميتة جردآء بلون أخضر ببهتان أن الحياة قد اُعيدت اليها.. وان ثمارها زوراً توشك على البزوغ!

بدون إدارة رشيدة، يُهمَّش الطموحين ويطحن المنتجون، ويتسم تعامل السلطان مع شرائح المجتمع المنتجة من المخططين الإستراتيجيين والخبراء والعلماء والمصنعين والأطباء والصيادلة والمهندسين والفنين والحرفيين والمغتربين والمزارعين والعمال وصغار التجار، إلخ، كالأطفال أوكفئات هامشية يضرب بها المثل في السذاجة... وينظر اليهم فعلاً بسخرية وتهكم... على أنهم ليسوا سوى "بغال أحمال" ليس إلاّ... لأنهم الفئة التي تبدوا أكثر إنهماكاً في الأعمال المهنية والفكرية، ولايعرفون من أين تؤكل الكتف.

ففي ظل فقدان الإدارة الرشيدة - مهما تعاظمت الثروات الطبيعية للبلاد، لن يتم - في أحسن الأحوال - حصد أكثر مما تحصده إدارة الزميل "العقيد" في القارة المجاورة.

وفي ظل فقدان الإدارة الرشيدة، يتعاظم البلاء ويتفاقم عاماً بعد عام... كرقعة شطرنج، لمجرد التغيير.. حقل تجارب... لكل ايقاعات وانواع ونكهات نظم الإدارة بمختلف الوانها، كلما اصاب السلطان الملل من طعم الطريقة القائمة.

سيدي:

إن المتحجر يمر عليه النص ويخرج كما دخل.. تاركاً عليه بصمة واضعيه!.. يصبح خاضعاً لإيحائه بدلاً من أن يكون هو من يعيد صياغته بقالب أفضل... عكس الإنسان الخلاق - وسبحان الله أحسن الخالقين -، ينهل من البيان ثم يمرره في مصنع عقله، ليعيد إخراجه بمزيج من قوة الفكر والخيال والإحساس والعاطفة والرأي... وأنت ممن حباهم المولى عز وجل بكل تلك الملَكَات.

إني شخصياً، وغيري الكثير يدركون أن المنصب بالنسبة لك ليس قمة الأمل ولامنهى العمل، بل أي موقع هو مجال نفع كغيره... وبما انك قد مُكنت في الأرض - بفضل من الله تعالى - وجب عليك ردم فتحة الذعر الأزلية في هواجسنا وهزيمة الدونية المعشعشة في أعماقنا... فالتقاعس عن واجب كهذا نكوص يجرح الإيمان، بل يقع - والعياذ بالله - تحت عدم تأدية الأمانة... وأرتكز هنا على أن الإيمان أقترن بالعمل الصالح، بأمره تعالى مراراً وتكراراً،كركن مكمل له ومؤكداً عليه، فالإيمان يضل ناقصاً - إن لم ينتفي - مالم يقرن بالعمل كشرط ... والعمل الصالح تحديداً.

ولانحتاج إلى أكثر من الدلالة القاضية على أن إبليس يؤمن بالله، ولكن تقترن أعماله بالعمل الغير صالح!

فلا بد أن يقود الإيمان الإنسان لأن يكون منتجاً وحيوياً وفاعلاً، وبهذا يصبح علينا فرض عين عمل شئ ما بهذا الإتجاه... سيدي، ما ضير أن نعلنها مدوية لمن يبغونها عوجا: "نكون إن شاء الله أو لانكون"؟ حتى إن لم يُدرك بهذه الدعوة كل الطموح، يجب ان لايترك جل الممكن من المتحقق في إعلانها.

وحتى "نكون أو لانكون"... يجب أن لايبقى وجودنا في عداد الطحالب التي تعيش على هامش الحياة وعلى ضفافها... نعيش متطفلين على الفضلات... يغمرنا موج تيار الحضارة الجارف، لأننا نعجز عن مجارات سرعته... بل يدفع بنا أينما يشاء.. يرمي بنا في القيعان.. أو يجرفنا الى حيث تتجمع المهملات في الزوايا الساكنة.

وعليه، بما أنهم أرادوها مكافحة للفساد: ... فلتكن... مكافحة فساد... معركة، بل ملحمة تاريخية خلاقة .. من نوعٍ آخر.. لاتبقي ولاتذر!

سيدي، جسد الوطن يتألم بين أيدينا... كفى معارك جانبية، وكفى إهداراً للحياة - أثمن ما في الوجود -، بخلافاتنا وتفاهاتنا وخصوماتنا وحماقاتنا وضيق أفقنا ولوحات تخلفنا... حتى أننا نبدوا للعالم كمومياءات اُسيء تحنيطها!

فقط.. عندما نعلنها مجلجلة بتضاريس شوامخ اليمن: مثقوبة هي قورابنا في البحار.. مجروحة صدورنا.. محترقة اهدابنا...

لا.. لن نصبح نهراً راكداً بلا جريان.. ولا بحراً بلا أمواج متلاطمة.. ولن نكون موج شطئان بلا زبد...

لا.. لن نقبل أن نبقى خلف ابواب مغلقة.. بين الجدران والعري.. نتلاعب بين الدخان والمضغ.. وفينا وطن يتألم...

لا.. لسياسة غرس العيدان على الاطراف مدعيين حماية الأرض من الطوفان...

لا.. لن يمر العمر في وقت ضائع.. ولن نرحل من هذه الدنيا دون منازلة.. ولن نغادرها قبل معركة كرامة...

اليوم: سنقفز فوق سياج الجهل بلا منجمون.. أو تنظير.

عندها، سيدي، ستبرق عيون الأطفال بالأمل وتعلوا الوجوة بسمة الحياة ... سترى كيف ستثمر السواعد.. وكيف يكتسي العظام لحما... وسوف ترى تتصبب جداولٌ من عرق الرجال... وسترى كيف سيغزل من زغاريد النسآء حريراً ويَنبِت من أناملهن خبزا... وعندها، سيدي، ستصدح العصافير على السنابل و ستعزف مآذن بيوت الله تسبيحاً وحمدا... وسترى ياسيدي، وجوه الشيوخ ترنوا الى السمآء مرةً اُخرى.. ليسترجعوا ذكريات لونها وشكل سُحبها!

***

غير ان التحليل العقلاني قد يستهجن مثل هذه الدعوة الثورية "الغيفارية"، وقد يدور بالخلد مايدور في خضم تسييس كل شئ!

إن الأمر لايقتصر على خطبة مهرجانية، أو ديماغوجية موجهة ضد الوطن.. أو دعوة للتبارز فوق أنقاضه.. أو إبتداع الوسائل لتدميره.. أوشق صف وحدته... لا.. - معاذ الله - بل دعوة إلى حب حسنه وقبحه، بل كشف مكامن ضعفه وإزالتها، ومواقع فساده لإصلاحها، وعثراته لنقيلها، وأمراضه لنداويها، عبر تنسيق محاورة منهجية.. وحتى صدام حضاري.. مع السلطان المبهور بالسلع الجاهزة والمطوية بالخمائل، بل ومخاطبته بلغته التي تعتمد بالأساس على حشو مفرط بأن الحياة "سياسة في سياسة، وعصا وجزرة" إلى أن تقوم الساعة.. وأن الصناعة والزراعة والبرمجيات والعلوم الحديثة والإنتاج خص الله بها أسيادنا من بني الجنس الأبيض دون غيرهم... أما رعيته فكانوا على شفى المسخ إلى قردة، لولا اللطف الخفي في آخر لحظة.

كذلك بعيداً عن التلقين والوعظ، وما لاتستحبه نفسه المجبوله على الأسلوب العسكري، والإستعداد لتلقي السخرية بصدر رحب من السلطان وحاشيته، وحتى ربما من شرائح المدجنين - من بعض اصحاب القضية أنفسهم -. بل سيكون غبناً إذا حصرنا أثر النظر على اي طرح بمقدار السخرية التي قد يتعرض لها، من غير أن نشير إلى أن اطروحات سماوية من عند الله سبق وأن عوملت بسخرية أيضاً، وذلك ناتج من طبيعة الغواية في التسرع بصد أي أطروحة قبل التمعن فيها.

إن تهيئة السلطان للقبول بمبداء الإدراة الرشيدة - جزئياً - قد يكون أمَرّ من العلقم عليه، وقد يكون أول من يساندها ظاهراً، ويظمر لها السوء في نفس اللحظة، ليلقن السذج درساً في الشماتة يتعض منها كل من تسول له نفسه التطاول على شمولية سلطانه.

إن مجرد إعتراف أو إدراك السلطان بمرارة الأمر الواقع، وقبولة مبايعة من - طراز جديد - على مبدأ: إنه من أهل الحكمة وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، ياصاحب النظام تعال إلى كلمة سواء بيننا وبينك، ألاَّ نخدم إلاَّ الوطن ولانشرك بسلطانك الدنيوي شيئا... خذ بمسعانا بعيداً عن الكذب والخداع والمراوغة أو الإدعاءات الذي تتسم بها اطروحاتكم السياسية... هذا ربما قد يحقق بعض النتائج... فالطبيعة الأمنيَّة للسلطان تجعله يتصرف مع رعيته كما الحاوي (مروض الأفاعي) مع الثعابين!

اللهم لاتجعلنا ممن دينهم رياء.. ودنياهم ادعاء.. وآخرتهم هباء... ولإن رضيت تستخلف فينا بمن يستخف بنا، فالموت راحة للأشقياء..

سيدي ، دعني اغمض عيناي في حلم يقظة.. في حضرة السلطان:

ياغلام:... هب للمستضعفين من ملكي منطقة حرة مستحدثة ضمن معاييرهم المحددة لايتدخل فيها حرسنا القديم... ياحاجب: اكتب الى وزرائنا وولاتنا اني قد اعتقت كل من فيها ودخل في حمايتي كل من ولجها، واعلن في الناس في كافة الأقاليم والعزل والمخاليف أن من دخلها صار آمناً على نفسه وماله وارضه وعرضه، وانه قد حرم على زبانيتنا تلويثها بحمران العيون وقناصي الفيد وجحافل المخبرين ونقاط مرتزقة الطرقات والموانئ أو أمننا المركزي أومعسكراتنا على مداخلها أومخارجها... واعلمهم بأنها منطقة حرام... السلاح المدني فيها حرام... والنهب فيها حرام... وأذى الطريق فيها حرام... و أن ارضها مصونه غير مستباحة... و اني قد أطلقت يد واليها فيها... يكون له وأعوانه وقضاتهم حق التصرف المطلق في إدراة شئونها، بما فيها إقامة نظامهم المالي والمصرفي وابواق إعلامهم ... وكذلك إقامات الرعية والجنسية .. وأن أمنها لها.. وانها ملاذ آمن لأي عنصر مبدع وفعال من كل أطياف اللون البشري.

ياحاجب: اكتب الى وزرائنا وولاتنا وكبير شرطتنا ومسئولي عسسنا... أن من عاداها فقد عاداني... ومن افسد فيها فقد افسد في كافة ملكي... واني قد اصطفيتها محافظة جديدة نموذجية اتباهى بها امام أقراني.. واغيض بنجاحها اعدائي... ياحاجب: اكتب الى كبير وزرائنا، ان ما شُغِل أو صُنَع على أرضها فإني قد فضلته على كافة منتجات الأقطار في سائر الأرض وان عدة وعتاد جندي وملكي وشعبي يجب ان تأتي من أرضها او عبرها ان لم توجد في مدن مملكتي.. واذكر لهم في الكتاب ان سلطاني السيادي عليها احدده بنفسي، وان لاسلطان لأحدٍ عليها، وعند النوائب حماية ارضها وجوها وبحرها واجبة عليِّ.

إن مثل فكرة المنطقة الطازجة - والغير جديدة أصلاً، أسوة بتجارب ناجحة لمجتمعات عديدة - والمستقلة على غرار إستقلالية محطة الجزيرة داخل دولة قطر مثلاً، هي في الحقيقة، مدخل لإيجاد الإدراة الرشيدة التي تخدم دورة النهوض والتغيير في عموم الوطن في ظل السلطان القائم... بل يمكن بلورتها لغرض جمع شتات الراغبين في العودة من أصقاع العالم بعيداً عن ناهبي الأراضي والتخطيط الذي يعدل "بقرش"، والبيروقراطية المستفحلة التي كلما عولج جانب منها، زادت الطين بله في الجانب الآخر، وكذلك إستيعاب هجرة لابأس بها من الداخل، وتأهيل كوادر وعمالة الداخل والعمالة القابلة للتصدير بعد صقلها ضمن معايير حديثة واحتكاكها بالخبرات الأجنبية المطعمة بها كوادر المنطقة، وإستقطاب الرأسمال المحلي وربما أجنبي أو من خلال شراكات محلية واجنبية.

إن الإطروحات التي تخدم دورة النهوض والتغيير في ظل الإدراة الرشيدة - وإن كانت آذاننا صمّاء عنها اليوم - لا يمحوها تقادم الأيام علينا، وتراكم الغباء في عقولنا... وستظل دوماً في قمة الأولويات، وإن كانت مطمورة بغبار الحاضر، فسوف نعود إليها يوماً ما... آمل ألّا يصل ذلك اليوم بعد فوات الأوان.

الى اللقاء في بقية الرسالة المفتوحة...

abdulla@faris.com