مشاهدات حاج يمني
بقلم/ محمد حسين الرخمي
نشر منذ: 13 سنة و 11 شهراً و 15 يوماً
الثلاثاء 14 ديسمبر-كانون الأول 2010 04:21 م

لم يكن الحاج علي أبن محافظة ذمار اليمنية يعلم بأن حماره وبقرته اللذين باعهما خصيصا لأداء مناسك الحج سيجعلان منه مثلاً يُضرب عن طيبة المواطن اليمني وسذاجته ، فعندما وصل الي الكعبة ورأى الناس يطوفون ويسعون ويؤدون بقية المشاعر دون ان يفهم منها شيئ ودون ان يجد من يعلمه ويشرح له ماذا يفعل ، خاف على حجه ان لا يُقبل بعد ان ضحى في سبيله باغلى ما يملك ، فما كان منه الا ان توجه الي الكعبة وتعلق باستارها صائحاً : يا رب .. الحاج علي من ذمار .. باع البقره والحمار .. مش بعدين تقول ما شفته ما رايته ) ثم رجع إلي بلاده .

والحاج علي ليس سوى أنموذجا لحجاجنا اليمنيين وهم يستعذبون الألم ويتحملون في حجهم كل أشكال المعاناة ومظاهر الظلم والغبن ، حتى لو وصلت في أحايين كثيرة إلى مرتبة السكوت عن الحق .

وقد كتب الله عز وجل بفضله وكرمه ويسر لي آداء فريضة الحج لهذا العام وشرفني بزيارة قبر نبيه الكريم عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والتسليم ، فوجدت لزاما علي أن أنقل للقراء تجربتي التي خضتها ورحلتى التي قضيتها في الرحاب الطاهرة بحلوها ومرة عسى أن يستفيد منها أحد أو تكون دافعا للتفكير في طرق معالجات واصلاح أوضاع بعثتنا وتحسين صورتنا أمام الآخرين .

أنت يماني !؟

بدأت رحلتنا عبر منفذ حرض المتواضع والذي عبرناه خلال دقائق مستكملين اجراءات الخروج بسهولة ويسر لم نكن نتوقعها ، لنتوجه الي منفذ الطوال الحدودي التابع للمملكة العربية السعودية والذي يلفت الانظار بمظلاته الإسمنتية الضخمة وبنائه الحديث الذي لا يقارن بجاره اليمني على الاطلاق .

وصلنا الطوال قبل آذان المغرب والامل يحدونا ان لا نؤدي صلاة الفجر الا في المسجد النبوي ، ولكن المفاجئة اننا لم نجد مسئولين عن هذا المنفذ الحدودي الهام ، سوى عدة أفراد من طلاب المدارس السعودية بملابس الكشافة يقومون بترتيب الحجاج في صفوف طويلة ثم يتركونهم لساعات دون أن يسأل عنهم أحد ، وما ان يظهر أحد العساكر او يشتبه الحجاج في احد السعوديين ويُؤملوا ان يكون صاحب قرار الا وهرعوا إليه عله يريحهم من تعبهم ولكن دون جدوى .

وأخيرا وبعد خمس ساعات ونحن ننتقل من شخص الي آخر ومن عسكري إلى ثاني ومن مطوع الي مطوع حضر احد الموظفين الدائمين في المنفذ - حسب ما قال لنا - وبدأ في أخذ جوازاتنا واستكمال إجراءات دخولنا الي أراضي المملكة ، دون أن يخلو عمله من تناول القهوة وإجراء عدة اتصالات .

وبعد ختم الجوازات ومطابقتها انتقلنا الي بوابة التفتيش حيث فحصت جميع أغراضنا وحقائبنا بصورة استفزازية وصلت الي فك كراسي السيارات ونزع إطاراتها ، بل واستخدمت الكلاب البوليسية في تفتيش الحجاج كما سمعنا من بعض اليمنيين الذين التقينا بهم لاحقا .

المهم وبعد ساعتين من التفتيش الدقيق وبعد تسديد مبلغ 150 ريال سعودي كرسوم اجبارية لتأمين السيارة عبرنا بوابة الخروج الأخيرة وقد بلغت القلوب الحناجر ، ولم يعد ببالنا سوى البحث عن فندق نلقي فيه أجسادنا المنهكة ونريح أعصابنا المشدودة .

ولكن يبدو أن سبع ساعات من التأخير والإرهاق لم تكن كافية ، فما أن تجاوزنا المعبر بعدة أمتار وقف في طريقنا شخص ملتحي بملابس مدنية وبجانبه عدد من المرافقين وأجبرنا على الوقوف والنزول من سيارتنا وتسليم جوازاتنا إليه دون ان يكون له اي صفة رسمية ، حينها لم يتمالك احد زملائي نفسه وأنفجر غاضبا في وجه سائلا عن سبب هذه المعاملة والإجراءات التعسفية ، فأجابنا : يا يماني .. أسئل حكومتك !

في رحاب المسجد النبوي

وصلنا مدينة الحبيب عليه أفضل الصلاة والسلام في اليوم التالي وأدينا صلاة الجمعة في مسجده الشريف ، وانتقلنا بعدها إلي مكان إقامتنا بفندق طيبة السكني المطل على صرح المسجد .

وهنالك بدأنا نشعر بالراحة والسكينة ، وأسرنا بكرم أهل المدينة ودماثة أخلاقهم وتواضعهم الجم ، وانبهرنا بروعة وبهاء المسجد النبوي الشريف ومستوى الخدمات المقدمة لزواره من قبل القائمين عليه وقدرتهم على تنظيم دخول وخروج المصلين والوافدين اليه بسلاسة ويسر ، كما زرنا قبر الحبيب المصطفى وتشرفنا بالسلام عليه والصلاة في روضته الشريفة .

إلا أن هذه السعادة والراحة لم يُكتب لها ان تكتمل ، فما ان أكملنا يومنا الثاني في المدينة المنورة الا وفوجئنا بعمال الفندق يطالبونا بمغادرته والخروج منه رغم ان مدة إقامتنا خمسة ايام كاملة حسب الاتفاق مع الوكالة التي جئنا عبرها .

توجهنا لمسئول الوكالة فأخبرنا أن الأمر ليس بيده ، سألنا إدارة الفندق فاعتذروا ونفوا علمهم بذلك وطالبونا بالإسراع بالمغادرة .

فقررنا عدم الخروج من الفندق مهما حدث وصممنا على استكمال مدتنا متسلحين بالوثائق الرسمية التي حصلنا عليها من قبل الوكالة في اليمن والتي تثبت ذلك ، الا أن ذلك الحماس خفت وتلاشى عندما شاهدنا عمال الفندق البنغاليين يقتحمون غرفة احد الحجاج اليمنيين ويطردونه منها بالقوة ويلقون بأغراضه وأمتعته إلى الخارج تحت سمع وبصر ادارة الفندق !

فأثرنا السلامة واستعذنا بالله من الشيطان الرجيم وحزمنا أمتعتنا وحملنا حقائبنا وتوجهنا الي مكة .

الطريق إلي مكة

مررنا بميقات أهل المدينة ذو الحليفة والذي يسمى حاليا (آبار علي) و  يبعد حوالي 400 كم من مكة ، فأحرمنا منه ثم اكملنا سفرنا الي مكة المكرمة ومنها إلي بيت الله الحرام لأداء مناسك العمرة ، وأكرمنا الله عز وجل بالطواف في صحن الكعبة وبلغنا الحجر الاسود والركن اليماني رغم الزحام الشديد عليهما .

وكما هو رائع ذلكم الشعور الذي يعتري الانسان وهو يشاهد الكعبة لاول وهلة والرهبة الكبيرة التي يشعر بها عندما تلتقي عيناه بأستارها السوداء المهيبة .

شعور يصعب وصفه والحديث عنه ، حيث لا يجد المرء أمامه الا ان يرفع يديه الي السماء مناجيا مولاه ومناشدا له أن يدخله في واسع رحمته ويتقبله بين عباده الصالحين .

وبأداء العمرة يحل الحاج المتمتع إحرامه وينقطع للعبادة والصلاة طوال الأيام التي يظل فيها بمكة حتى يحين وقت أداء بقية مناسك الحج .

أبراج التيسير تحييكم

عندما تفكر بآداء الحج فأكثر ما يهمك أن تحضى بسكن قريب من المسجد الحرام لتتمكن من أداء صلواتك فيه حيث الصلاة فيه بمائة ألف صلاة ، وبحسب المسافة التي تفصل مقر السكن عن المسجد الحرام يحدد أغلب الحجاج اليمنيين الوكالة التي يسافرون معها .

الا أن المسافات التي تحددها الوكالات على أرض اليمن تختلف تماما عن المسافات الحقيقية على أرض مكة ، فعشرات الأمتار تتحول إلى مئات والمئات إلى آلاف والطرقات الممهدة الواسعة تتحول إلي وعرة ومرتفعة تشق النفس .

وهذا هو حال ما يقارب العشرة آلاف حاج يمني تابعين لعدة وكالات تم حشرهم في مكان واحد وهو أبراج التيسير رغم انها لا تتسع لأكثر من نصف هذا العدد ، وقد بدا ذلك واضحا في الفوضى التي كانت تحدث فيها أثناء استخدام الحجاج للمصاعد الكهربائية حال عودتهم من آداء الصلوات.

وأبراج التيسير عبارة عن ثلاثة فنادق راقية متوسطة الحجم تقع في منطقة تدعى القشلة في شارع أم القرى بمكة المكرمة وتبعد مسافة 1500 متر تقريبا عن المسجد الحرام ، وهي مسافة طويلة يصعب قطعها خمس مرات يوميا لأداء الصلاة خصوصا والطريق إليها مزدحم ويمر بمرتفع جبلي شاق .

ورغم أن هذه الفنادق مصنفة من فئة أربعة نجوم إلا انها لا تحتوى على أبسط الخدمات الفندقية العادية، فلا تنظيف يومي للغرف ولا تغيير ملايات ولا مطعم مناوب ولا بوفية ولا حتى بقالة ، إضافة إلي أنها تقع في حي شعبي ينقصه الكثير من المقومات لاستقبال هذا العدد الكبير من الحجاج مما جعلنا فريسة للتجار والباعة الصغار الذين مارسوا علينا شتى أنواع الابتزاز والاستغلال ، وارتفعت فيه أسعار البضائع والمواد الغذائية ومختلف الخدمات الأخرى بشكل جنوني .

وعندما تسأل من حشرنا في مثل هكذا مكان لا تجد من يجيبك ، فأصحاب الوكالات يقولون بان وزارة الأوقاف أجبرتهم على السكن في هذا المكان بعد ان استأجرته لخمس سنوات قادمة ، ومسئولو الوزارة ينفون ويؤكدون على وجود وكالات أخرى استأجرت فنادق قريبة من الحرم دون ان يمنعهم أحد .

وهكذا ظللنا في هذا الفندق حتى حلول يوم التروية (8 ذوالحجة) فأحرمنا من محل اقامتنا وتوجهنا الي منى .

متسولون رغم أنوفكم !

قبل الحديث عن مخيمات منى أعرج سريعا على تناولات بعض الصحف السعودية خصوصا في السنوات الأخيرة ، فالمتابع لها يخيل إليه أن اليمنيين الذين يدخلون أراضي المملكة سواء بطرق رسمية او تهريب ليس لهم شغل ولا عمل الا التسول والشحاتة في أسواقها ومساجدها !

ورغم أني لم اكن اصدق ذلك بادئ الأمر الا ان تتالي الاخبار والتناولات الصحفية حول ذلك ادخل الشك في نفسي خصوصا وأن الكثير من صحفنا المحلية كانت تنقل عنها دون تثبت أو تمحيص ، إلى أن زرت السعودية في هذا الموسم فدفعني الفضول الي البحث عن اي متسول يمني لأعرف دوافعه ، ويعلم الله اني طوال الفترة التي قضيتها - قرابة الشهر - وتنقلي في ثلاث مدن رئيسية لم أجد متسولا يمنيا واحدا باستثناء شاب في السادسة والثلاثين من عمره رأيته في أحد مساجد مكة يسأل المصلين وأغلبهم من الحجاج اليمنيين مدعيا أن فلوسه سرقت اثناء الطواف .

وليس معنى ذلك انه لا وجود لمتسولين يمنيين بالمطلق فالأمر لا يخلو بالتأكيد في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها بلادنا ، وفي المقابل ليس التسول لصيق بتواجد اليمنيين في السعودية كما يحلو للبعض أن يصوره ، فالزائر للمملكة يشاهد تواجد الكثير من المتسولين من جميع الجنسيات والأعراق وفي كل مكان يذهب اليه .

ولا يفوتني هنا ان انقل لكم اجابة أحد اليمنيين الذين يعملون على سيارة أجرة ، وهو يشكو المضايقات التي يتعرض لها أثناء عمله خلال موسم الحج ، فسألته مازحاً : روح اتسول لك في باب الحرم احسن لك ؟ ، فاجابني : يا اخي ما بيقبلونا شغالين عاد عيسمحوا لنا نشحت !

مخيمات منى : حيثما تكونوا تدرككم البهذلة !

يأتي توجه الحجاج إلى منطقة منى ليحكي لنا جانبا من أبرز أوجه معاناة الحجاج اليمنيين لهذا الموسم وفي المواسم الأخيرة كذلك ، ألا هي مخيمات منى التي يبيتون فيها طوال أيام التشريق كسائر الحجيج .

فمقر إقامة اليمنيين يقع على ربوة عالية آيلة للسقوط ويصعب الوصول إليه ، بعكس غالبية حجاج الدول الأخرى فمخيماتهم في الأسفل وفي أماكن واسعة وآمنة وسهلة الوصول .

ورغم ذلك فقد بلينا في الفوج الذي وفدنا معه بمطوف سعودي ساهم مع طاقمه – بقصد او بدون قصد - في إرهاق اليمنيين وتنغيص مبيتهم طوال الايام الثلاثة التي قضوها في منى .

فمياه المجاري تخترق المخيمات وتمر بالكثير من الخيام لتحول رائحة المخيم باكمله الي جيفة ، والقمامة وبقايا الأكل والمخلفات ملقية على طول الطرقات وفي اروقة المخيمات وعلى أبوابها ومداخلها .

ومياة الشرب رغم عدم نظافتها الا انها اذا توفرت في الصباح انقطعت في الظهر واذا تمكنا من الوصول اليها في المساء افتقدناها ليلا وهكذا دواليك .

طبعا الحديث هنا عن مياة الشرب اما مياة الوضوء والاستحمام فالحديث عنها صعب جدا في ظل شحة الحمامات وقذارتها والازدحام الكبير عليها وانقطاع المياه عنها في أوقات كثيرة من الليل والنهار .

وكل ذلك في كفة وتكدس الحجاج بأعداد كبيرة بداخل الخيام في كفة اخرى ، فالخيمة التي يفترض انها تتسع لستين إلى ثمانين حاج كأقصى حد وضع فيها أكثر من 128 حاج ، بل وصل العدد في بعض خيام النساء إلى 140 إمراءة تم حشرهن في إحدى الخيام رغم تعطل المكيفات فيها وخلوها من اي منافذ للتهوية باستثناء باب الخيمة ، وكان فيها الكثير من كبيرات السن والمصابات بأمراض الضغط والسكري .

وغير ذلك الكثير من المشاكل والمنغصات التي بدأت منذ وطئت أقدامنا المخيمات وظلت تلازمنا طوال اليومين الذي قضيناها هنالك ، بعد ان ظهر لنا جليا الحكمة الربانية في التخفيف عن عباده المتعجلين في المبيت بمنى مكتفين بقضاء يومين فقط .

طبعا وزارتي الأوقاف اليمنية والسعودية كانتا تعلمان بذلك فقد نشر الخبر عبر مواقع الانترنت وخدمات الموبايل الاخبارية ، وزارنا العديد من المسئولين والمختصين في البلدين ، وممثلين عن الهلال الأحمر والدفاع المدني ، إلا أنهم جميعا اكتفوا بالتصوير والتوثيق وتبادل الاتهامات ، ثم راحوا لحال سبيلهم .

والغريب أننا سمعنا من بعض مسئولي وكالات الحج ان مقر إقامة الحجاج اليمنيين في مخيمات منى كان أرقى بكثير من ذلك المكان الذي سكنا فيه إلى ما قبل خمس سنوات فقط ، متهمين مسئولين في وزارة الأوقاف بالتنازل به وبيعه لدولة أخرى !

وقد التقينا بوزير الأوقاف أثناء وقوفنا بعرفة وسألناه عن الأمر ، فنفى مسئوليته الشخصية عن ذلك التصرف مؤكدا بأن نقل مخيمات الحجاج اليمنيين وقع قبل توليه للوزارة وأنه شخصيا لا يعرف المسئول عن ذلك !

الرقود بعرفة !

يوم عرفة هو اليوم المشهود للحج يتوجه فيه الحجيج من مخيماتهم بمنى الي جبل عرفة عقب شروق الشمس ويكثرون فيه الذكر والدعاء وقراءة القرآن حتى الغروب ، الا ان الواصل اليه يجد تغيرا كبيرا عما يشاهدة في التلفاز ، فالخيام منصوبة والأفرشة مرتبة وعشرات الحجاج مستلقين عليها وبعضهم يغط في نوم عميق من أثر السفر ، حتى ان احد الحجاج قال مازحا : هم يرقدوا في عرفة اولا يوقفوا !

وقد تميزت بعثة الحج لهذا العام بالتنظيم الملفت لتفويج الحجاج إلي جبل عرفة وتسهيل وصولهم اليه ، فقد بدأ تفويج الكثير منهم طوال الليلة السابقة ليوم عرفه واستمر حتى الظهر ، مما خفف حدة الازدحام الذي تسببه باصات وحافلات النقل نتيجة تحركها في آن واحد .

لذلك لم يستغرق زمن وصولنا الي جبل عرفة أكثر من ساعتين فقط بعكس عملية العودة لرمي الجمرات والمرور من مزدلفة فقد اختلف الوضع تماما حيث تحركت الحافلات في وقت واحد وإلى جانبها يسير المئات من المشاة ، فأحتار الحجاج بين أمرين إما ان يظلوا راكبين على حافلاتهم وفي هذه الحالة علي الحاج ان يمتلك أعصاب فولاذية ويتحمل مشقة الزحف البطئ لها وتوقفها لساعات في صفوف طويلة تنتهي بالجمرات مخلفة ورائها غازات وروائح كريهة تنبعث من عوادمها .

أو يغامر بالسير على قدميه في طريق المشاة لأكثر من خمسة كيلومترات بين مئات الألوف من الحجاج ، متحملا كافة الصعاب والمخاطر التي قد تحدث نتيجة الزحام الشديد وتدافع الحجاج ، وكان هذا الخيار هو ما اضطررنا اليه بعد قضاء ثلاث ساعات من الانتظار فوق الحافلات دون أن تتحرك سوى امتار قليلة .

الطريق عبر مزدلفة

من المفارقات الغريبة أن العديد من معارفنا الذين سبق لهم الحج كانوا عندما يحدثوننا عن آداء المناسك كثيرا ما يحذروننا من رمي الجمرات والزحام الكبير الذي يحدث فيها ، ولكن أحدا لم يحدثنا عن الطريق الي الجمرات وبالتحديد منطقة مزدلفة التي يبيت فيها الحجاج بعد وقوفهم بعرفة .

فبعد ان ترجلنا من الحافلات سلكنا طريق المشاة وسرنا فيه حتى قبيل منتصف الليل فتوقفنا لصلاة المغرب والعشاء ثم افترشنا جانب الطريق ونمنا لأقل من ساعتين قبل ان نفوق على وقع أقدام ألاف الحجاج يمرون من امامنا وبعضهم يتخطانا ، حتى بدا لنا أنهم استيقظوا جميعهم في وقت واحد ولهدف واحد !

 فلم يكن امامنا الا مجارتهم والسير معهم علنا نجد مخرجا نصل به الي إحدى جانبي الطريق ولكن دون جدوى .

فالمئات من الحجاج رجالا ونساء نائمين ومتكومين على جانبي الطرقات بشكل عشوائي ، ومنهم من افترش وسط الطريق وجلس ليستريح ، وآخرين يأكلون ويشربون غيرعابئين بأحد ، وغيرهم يدفعون العربات بمختلف أنواعها واحجامها يحملون عليها اشخاصا عاجزين عن السير فيخترقون الحشود ويدهسون من أمامهم ، كل ذلك في كفة والحجاج الافارقة من السود في كفة اخرى فهم يأتون في مجموعات كبيرة قد تصل الي عشرة أشخاص ، وقد منحهم الله ضخامة في الجسم وشراسة في التعامل فاذا مشوا دفعوا بكل من أمامهم وتجاوزوه ، وإذا افترشوا الطريق فلا مجال لان يعبر من خلالهم احد .

كل ذلك يحدث والهتافات تدوي في كل مكان وبكل اللغات واللهجات ، في ظل غياب شبه تام لأي تنظيم او ترتيب او حتى تواجد حقيقي لجهات أمنية او طبية تحسبا لوقوع أية مخاطر !

بالإضافة الي شحة مياة الشرب و انقطاعها في ارجاء كثيرة من الطريق ، وندرة وجود الحمامات ودورات المياة ، ناهيك عن امكانية الحصول على طعام في مثل هكذا ظروف .

وطوال ساعات من الكر والفر تمكنا أخيرا من الخروج بعد ان اتسع بنا الطريق قليلا في أحد التقاطعات ، فأكملنا سيرنا إلى الجمرات ونحن لا نكاد نصدق بالنجاة !

الجمرات : أبرز معالم الحج

قبل أربعة أعوام فجعت الأمة الإسلامية بمصرع ثلاثمائة وأربعين حاجاً وإصابة ضعف هذا العدد في حادثة تعثر وتدافع للحجاج أثناء تأديتهم لنسك رمي الجمار ثاني أيام التشريق .

ولم يكن هذا الحادث هو الأول من نوعه بل سبقته العديد من الحوادث التي تعرض لها الحجاج على جسر الجمرات وراح ضحيتها المئات منهم ، حتى أصبح آداء هذا النسك يثير حذر ومخاوف الكثير من الحجاج ويصيب ذويهم وأقاربهم المترقبين بحالة من التوجس والقلق .

إلا أن الزائر لجسر الجمرات هذا العام قد لا يصدق بأنه نفس المكان الذي يشهد وقوع كل تلك الحوادث المؤلمة في ظل التوسعة الأخيرة التي شهدتها منطقة الجمرات و المناطق التي حولها مؤخرا ، فضخامة البناء الهندسي والتجهيزات التقنية المسخرة له بالإضافة إلي آلية التنظيم والانسياب الذي تدار به وفود الحجيج المتدفقة عليه أمر يدعو للإعجاب، حتى عدها الكثير من الحجاج أبرز معالم الحج لهذا العام ، ومن أأمن المناسك وأكثرها سهولة ويسر .

وبالفعل لم نجد عناء كبيرا عند رمي جمرة العقبة الكبرى و بقية الجمار الأخرى لاحقاً ، فأكملنا طريقنا الي المسجد الحرام وصلينا العيد فيه ومن ثم حلقنا ونحرنا الهدي ، وأكملنا بقية المشاعر خلال اليومين اللاحقين ، ثم حزمنا حقائبنا وتوجهنا في زيارة قصيرة لمدينة جدة قبل ان نبدأ رحلة العودة الي بلادنا ، علنا نعرف (جدة غير) أيش !! ، والحديث عن ذلك يطول ويتشعب بنا فاتركه لفرصة أخرى باذن الله .

وختاما :

كثيرة هي المشاهد والمواقف والمتناقضات التي يرصدها الزائر لبلد آخر غير بلده ، والتي بالتأكيد لن أستطيع ان اجملها في مقال واحد ، الا أكثر ما استوقفني وأثار استغرابي في مكة المكرمة هو تزامن عمليات هدم وازالة بعض الفنادق المطلة على المسجد الحرام مع حلول موسم الحج وذلك ضمن سياسة توسعة المشاعر المقدسة التي تتبناها المملكة ، فحتى لو افترضنا ان برامج التوسعة تجري طوال العام فمن اللائق باعتقادي توقفها خلال هذه الايام تكريما لزوار بيت الله .

يضاف الي ذلك كيف يُسمح ببناء هذه الفنادق والمنشئات التجارية حول الحرم ليتم ازالتها بعد سنوات قليلة ، وكأن عمليات وبرامج التوسعة لا تحكمها أي ضوابط أو خطط هندسية مدروسة .

فتجد أن المسئولين عن توسعة المسجد الحرام مشغولون تماما بهدم الفنادق وبنائها في حين يحتاج المسجد الي الكثير من الخدمات العاجلة التي لم تعد تحتمل التأخير، كدورات المياة القليلة التي لم تعد تكفي لربع المصلين الذين يتوافدون عليه ، وكذلك تركيب مظلات لساحات المسجد وأسطحه كتلك التي تميز المسجد النبوي والتي بالتأكيد ستمتص ازدحام المصلين وتكدسهم بداخله هربا من حرارة الشمس .

وأخيرا لا أدري لماذا ساورني الحزن وانا اشاهد حجم التغير الكبير الذي تتسبب به عمليات التحديث والتوسعة للمشاعر المقدسة في طمس معالم وتضاريس مكة المكرمة وازالة الكثير من الأثار التاريخية التي عاصرت مراحل تشكل هذا الدين العظيم .

فسألت نفسي ألا يمكننا أن نجمع بين هذين الأمرين العظيمين ( التوسعة والحفاظ على المعالم الأثرية) دون ان يطغى أحدهما على الأخر ... أتمنى ذلك .

Rakhme2003@gmail.com