مقصد الحرية رؤية تأصيلية قرآنية (2)
بقلم/ حارث الشوكاني
نشر منذ: 14 سنة و 3 أسابيع و 5 أيام
الإثنين 01 نوفمبر-تشرين الثاني 2010 10:47 ص

سر التركيز القرآني على طغيان الأحبار والرهبان والعلماء (السلطة الروحية ) وطغيان الحكام والأمراء (السلطة السياسية ):

كما أوضحت سلفاً بأن الحرية سنة فطرية في طبيعة الخلق الإنسانية وهذه الحرية الفطرية تجسدت في تكريم الإنسان بالعقل وبحرية الإرادة ولذلك نجد الشريعة وعقيدة التوحيد جعلت أول مقاصدها مقاومة ومحاربة الاستبداد والطاغوت السياسي والاجتماعي لأن سنن الإسلام التشريعية موافقة لسنن الله في الخلق والفطرة ومردّ هذا الاهتمام بموضوع الحرية الإنسانية ومحاربة الطاغوت، من زاوية إصلاح المجتمعات والدول أن العقل البشري والإرادة البشرية لا يمكن أن ينموا ويبدعا إلا في أجواء الحرية فلا يمكن أن تحصل نهضة علمية معرفية (عطاء العقل البشري) ولا يمكن أن تحصل نهضة حضارية عملية شاملة إلا عبر الفعالية والإرادة القوية الدافعة للعمل والبناء لأن صناعة التاريخ هي نتاج الإرادات الفاعلة (عطاء الإرادة الإنسانية) (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) وهناك حكمة قالها أحد المفكرين (غير نفسك تغير التاريخ).

أما أجواء الاستبداد والطغيان العلمي للأحبار والرهبان والعلماء وأجواء الاستبداد والطغيان السياسي للأمراء والحكام فتؤدي إلى اختزال عقل الأمة في عقل علمائها واختزال إرادة الأمة في إرادة حكامها فتُقتل الطاقات الإبداعية للأمة سواء في عطائها العلمي أو إنجازاتها العملية المختلفة.

ولذلك يمكننا القول بأن الحرية كقيمة إنسانية دينية هي بمثابة الرئة التي يتنفس من خلالها العقل البشري حياة ونمواً وعطاءً وتتنفس، من خلالها الإرادة البشرية عزماً وصلابة وفعلاً في حركة التاريخ لا انفعالاً بها ولذلك ليس من الغريب أن نجد المضمون الرئيسي لعقيدة التوحيد قائم على النفي والإثبات، (لا إله) نفي، (إلا الله) إثبات، بحيث لا يقبل الإيمان بالله إثباتاً إلا بعد نفي حكم الطاغوت ويتعزز هذا الفهم لعقيدة التوحيد بمنهجية تفسير القرآن بالقرآن بقوله تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ) فصريح الآية جعل شرط الإيمان بالله الكفر بحكم الطاغوت نفياً (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) ثم الإثبات للإيمان بالله (وَيُؤْمِن بِاللّهِ)، ومن أدرك عمق معنى الشهادة بهذه الكيفية القائمة على النفي والإثبات سيدرك أن عقيدة التوحيد لا تتم للمؤمن بمجرد النطق بالشهادة بلسان المقال فحسب وإنما بلسان المقال ولسان الحال، وكل هذا التشديد القرآني على ضرورة الكفر بالطاغوت أولاً كشرط لقبول الإيمان بالله إنما جاء لإطلاق حرية الإنسان إزاء الإنسان (وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ) ليتم إطلاق الطاقات والمواهب الإنسانية من الأغلال والآصار الطاغوتية.

ومن هذه الزاوية نؤكد بأن دور الأحبار والرهبان والعلماء في منظور أديان السماء هو بناء عقول أفراد المجتمع لا إلغائها ودور قيادات المجتمع السياسية هو تربية وإعداد قيادات سياسية مؤهلة لا أتباع وجنود. إن دور الطليعة القيادية في المجتمعات والدول والحضارات هو إيجاد مجتمع وأمة قائدة، والأمة القائدة تصنع حضارة قائدة {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}آل عمران110، والأمة الحضارية القائدة تنساح بين الشعوب لتبشر بقيم إنسانية رفيعة هي مقاصد الأديان عبر التاريخ ( السلام العالمي لا الصراع الحضاري، والوحدة لا الفرقة والنزاع، والعدالة لا الطغيان والاستبداد ).

القيادة في المنظور العلمي السنني هو علم اكتشاف المواهب والطاقات الإنسانية والعمل على تنميتها وتشجيعها وإطلاقها، والقيادة بهذا المنظور ليست محصورة في فئة معينة فكل أفراد المجتمع لهم مواهب وطاقات كبرت أو صغرت والقيادة الحقة هي التي تطلق كل هذه المواهب وتديرها في نسق مجتمعي مهدّف، ولو حاولنا معرفة أسباب التخلف والأزمة الحضارية التي تعيشها أمتنا العربية والإسلامية لما ترددنا في القول بأن أهم أسباب هذه الأزمة تكمن في عامل أساسي وهو الاستبداد والطغيان السياسي والاجتماعي الذي بدأ في تاريخنا بالانحراف عن نهج الخلافة الراشدة عبر التآمر المجوسي اليهودي المبكر عليها، وصدق رسول الله (ص) القائل: (لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة أولها الحكم وآخرها الصلاة) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

 صحيح إن عطاءات الأمة الإسلامية تواصلت أيام الدولة الأموية والعباسية إلى سقوط الخلافة العثمانية، إلا أن الانحراف السياسي المبكر كان المسمار الأول الذي ضرب في نعش الحضارة الإسلامية العالمية لأن الانحراف السياسي حوّل دولة الإسلام من أداة لخدمة الأمة إلى مغنمٍ سياسيٍ تتصارع عليه الأهواء والمطامع السياسية دارت من أجله الكثير من الحروب والفتن مما أدى إلى تبديد الكثير من الطاقات والإمكانات في صراعات داخلية، ومن يفتح أحد المراجع التاريخية لتاريخنا الإسلامي سيجد الكثير من الحروب والصراعات الداخلية بصورة مذهلة مما أدى في كثير من الأحيان إلى تمزق الدولة الإسلامية في حين أن السلطة السياسية الإسلامية لو ضُبطت بآلية الشورى المقصد الإسلامي الأول لعقيدة التوحيد لأدى ذلك إلى استقرار سياسي أولاً وإلى ظهور قيادات سياسية تجسد مصالح الأمة وتعزز قوتها.

وإلى جوار الاستبداد السياسي ظهر في تاريخنا أيضاً الاستبداد العلمي وقد تجسد هذا الاستبداد في:

أ) إستبداد عقدي : طرح العقيدة الإسلامية بعيداً عن واقع الأمة عبر المباحث الكلامية التي لا تمثل أصول العقيدة بمفاهيمها القرآنية مثل قضية خلق القرآن- والذات والصفات- والفهم الخاطئ للقضاء والقدر مما أدى إلى تكريس عقيدة جبرية تعطل الإرادة الإنسانية وتعزز سلبية المسلم إزاء مجتمعه والطبيعة من حوله على صعيد التنمية والفعل الحضاري.

ب) استبداد تعليمي وتربوي: تتجلى أبرز مظاهره في :

1) القول بجواز مبدأ التقليد عند أهل السنة والمرجعية العلمية عند الشيعة (إتباع رأي العالم دون سؤاله عن الدليل والحجة) (استسلام المتعلم للعالم كاستسلام الميت لمغسله).

وأدى إقرار مبدأ التقليد إلى إلغاء عقول المتعلمين باختزالها وتذويبها في عقول العلماء واختزال عقول العلماء الحاليين في عقول علماء التراث واختزال عقول علماء التراث في عقول أئمة المذاهب وتكون المحصلة النهائية اختزال عقول أفراد الأمة العربية والإسلامية في عقول عشرة أو عشرين من أئمة المذاهب السنية والشيعية والصوفية ..الخ.

وإذا كان التقليد عند أهل السنة قد أدى إلى الجمود العلمي ولم يؤدي إلى الانحراف العقدي الخطير إلا أن التقليد عند بعض الفرق كالشيعة وغيرهم قد أدى إلى انحراف عقائدي خطير.

- إن دور العلماء هو أن يكونوا مفاتيح لعقول المتعلمين يكتشفون المواهب العلمية وينمّونها لا أقفال ومغاليق. ومبدأ التقليد حوّلهم في الحقيقة إلى أقفال للعقول لا مفاتيح، لأنه كرس استبداد وطغيان العالم إزاء المتعلم وعظّم مكانته ومهابته حتى أصبح طالب العلم لا يفكر إلا في تلقي ما يأتيه من العالم فضلاً عن محاورته ومناقشته بل وصل الأمر إلى حد الخلط بين قداسة الوحي ورأي العالم فانسحبت قداسة النصوص على آراء العلماء إن لم تكن على مستوى النظر فإنها قائمة على مستوى الواقع والتعامل فأدى هذا الاستبداد العلمي عبر التقليد إلى سحق نفسية المتعلم إزاء العالم، وبالتالي تحول عقل طالب العلم إلى أداة للتلقي تنمو فيه ملكة الحفظ وتُقتل فيه ملكة الفهم، وملكة الفهم هذه لا تنمو إلا في أجواء الحرية العلمية أجواء التدبر الذاتي والتفكر الذاتي أي أن يترك له مساحة واسعة لإبداء رأيه عبر التعليم الشوروي القائم على تفاعل العالم مع المتعلم وتربيته على أن القداسة للنصوص الموحاة فقط وعلى احترام العلماء لا تقديسهم وصدق الله العظيم {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }محمد:24، والقائل: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ {17} الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ{18}الزمر، فقد أوضحت هذه الآية معنى الطاغوت بأنه التبعية العمياء الصماء البكماء لطاغوت العلماء وطاغوت الأمراء دون نقاش أو حوار وأشادت بأجواء الحوار والنقاش ومداولة الرأي ثم إتباع أحسن الآراء، كما أوضحت الآية أن أجواء الحوار وتداول الرأي (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) هي الأجواء التي تطلق فيها الطاقات وتنموا فيها العقول (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ).

نعم لقد قُتلت ملكة طلاب العلم العقلية (ملكة الفهم) لأنهم لم يتربوا على مبدأ التدبر الذاتي لتنمو عقولهم من خلاله حتى عندما يغدوا طالب العلم عالماً لا يتجرءا على التدبر الذاتي للقرآن لأن العلماء الذين تربى على أيديهم أقفلوا عقله وملكة الفهم فيه بسبب روح المهابة والقداسة التي أوجدوها في نفسه وقلبه فلا يتجرأ على تدبر القرآن وتفهمه وإنما ينظر للقرآن من زاوية أقوال الآخرين وهكذا في كل شأن.

ومن هذه الزاوية نفهم لماذا شدد القرآن في رفضه للطاعة العمياء والتبعية العمياء للأحبار والرهبان والعلماء {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ}التوبة31 لأن أقل مخاطر التبعية العمياء والتقليد هي قتل عقل المتعلم وتذويب عقله في عقل معلمه فيصبح المتعلم نسخة مكررة لعقل العالم بسلبياته وإيجابياته وأعظم المخاطر أن يقود التقليد إلى الانحراف العقائدي والجمود العلمي وأعظم مظاهر هذا الجمود العلمي هو ما أشرت إليه في بداية الموضوع عدم تمكن العقلية الإسلامية من الاجتهاد والتجديد لمواكبة متغيرات كل عصر واستجرار التراث العلمي التاريخي بطريقة تجعله عامل إعاقة لا إثراء للعقل الإسلامي المعاصر.

2) التعصب المذهبي:

المذاهب الإسلامية التاريخية يمكن أن تكون عامل إثراء للعقلية الإسلامية إذا تم التعامل معها كتراث ينبغي الاسترشاد به ولكن لا ينبغي التوقف عنده.

أما إذا عبّرت الصحوة الإسلامية المعاصرة عن نفسها ببعث كل الأشكال التاريخية الماضوية فإن هذا دليل عملي على عدم الوعي والنضج المعرفي الإسلامي وعلى الغفول عن الواقع المعاصر بتحدياته ومستجداته، لأن المذاهب الإسلامية التاريخية في التكييف الشرعي لها إنما هي في حقيقة الأمر تعبير عن حركة الاجتهاد العلمية التاريخية المواكبة لعصرها بظرفه الزماني والمكاني، وواقعنا المعاصر يحتاج إلى رؤية تجديدية اجتهادية تتناسب مع حجم المتغيرات الكبرى التي شهدها عصرنا هذه المتغيرات التي لا يستطيع تراثنا الفقهي مجتمعاً أن يواكبها فضلاً عن الالتزام بمذهب من المذاهب، ويمكن إختزال النظرة الشرعية القرآنية للمذاهب بقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى}النجم23.

وبالتالي فالالتزام المذهبي تتجلى أبرز سلبياته في عاملين هما أنه عامل جمود من جهة وعامل انقسام للأمة ومثار تعصب من جهة أخرى.

الإسلام يقوم على محورين محور ثابت وهو الوحي المقدس قرآناً معصوماً وسنة معصومة بالقرآن ومحور متغير وهو الاجتهاد انطلاقاً منهما.

والمذاهب كما أسلفنا هي تعبير عن حركة الاجتهاد العلمية التاريخية وبالتالي فإن اعتبارها مرجعية دائمة أي إدخالها في عنصر الثبات - ولا ثابت إلا الوحي المقدس - يؤدي إلى الجمود والجمود يؤدي إلى عدم المقدرة على الاجتهاد والتجديد وهذا ما حصل تاريخياً، فالأرضية التي تأسست عليها المذاهب هي التقليد ولذلك لم تظهر المذاهب في المراحل الإسلامية الأولى، والتقليد يؤدي إلى الجمود العقلي (تضخم ملكة الحفظ وقتل ملكة الفهم) وبالتالي إلى الجمود العلمي حيث تصبح عقول التابعين لمذهب مختزله في عقل إمامهم وبالتالي يغيب الاجتهاد وتتحول المذاهب إلى ثابت وهي متغير.

إن تاريخ ظهور المذاهب الإسلامية في الحقيقة ليس تاريخ النهضة العلمية وإنما هو تاريخ الجمود والانحطاط العلمي والمعرفي، ومن أراد دراسة أسباب جمود العقلية الإسلامية وعدم ظهور عقليات تجديدية كظاهرة عامة فعليه تتبع مراحل ظهور التقليد وظهور المذاهب فهي أبرز العوامل التي أدت إلى جمود العقلية الإسلامية وإلى قتل ملكة الاجتهاد والتجديد حتى أصبح علماؤنا المعاصرين اليوم يعيشون عالة على التراث غير قادرين على امتلاك رؤية تجديدية إسلامية منزله على الواقع المعاصر بمستجداته وبتحدياته الخطيرة، لقد غدا لسان حالهم يقول { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}الزخرف23.

لم يذم الإسلام شيء كما ذم التقليد والتبعية العمياء والمسلمون ليسوا خارجين عن هذه السنة الاجتماعية (داء الآبائية والتقليد).

هذه بصورة مختصرة أخطر آثار الاستبداد والطغيان استبداد وطغيان العلماء يؤدي إلى إفساد نظامنا التعليمي والتربوي وطغيان الأمراء يؤدي إلى فساد نظامنا السياسي والاجتماعي فيحصل الجمود في حياة المجتمع بمختلف صوره ويكتنف التخلف والسلبية مختلف مظاهر الحياة.