ارتفاع سهم الرئيس في بورصة دول النفط
بقلم/ محمد العلائي
نشر منذ: 15 سنة و 8 أشهر و 28 يوماً
الأربعاء 25 فبراير-شباط 2009 07:00 م

لأول وهلة، يبدو الرئيس وكأنه تعلم أخيراً كيف يحسن التصرف مع دول النفط. السبت الفائت، كان هو اليوم الذي استعاد فيه الرجل البالغ من العمر قرابة 68 عاماً، والذي يحكم اليمن منذ 1978، لياقته وديناميكيته بشأن كيفية التعامل مع العالم الخارجي. هل نقول وإحساسه بالزمن أيضا؟

قبل بضعة أيام، أثارت تصريحات إيرانية تمس البحرين عاصفة إعلامية في منطقة الخليج. التصريحات أدلى بها علي أكبر ناطق نوري، مستشار المرشد الأعلى الإيراني، علي الخامنئي، تعتبر أن البحرين كانت محافظة إيرانية، وأنها كانت لها ممثل في البرلمان، منتقداً الشاه الراحل، محمد رضا بهلوي، الذي قال إنه "فرط" بالبحرين جراء ضغوطات أمريكية وبريطانية. ولقد رأت فيها المنامة مساً بسيادتها واستقلالها الوطني.

استحضر الجميع غزو الكويت، بوعي وبدون وعي. وذهبت الأنظار إلى الدول التي لم تتخذ جانب القوات الدولية بقيادة الولايات المتحدة لتحرير الكويت، ومنها اليمن والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية والسودان وليبيا، وتحفظ كل من الجزائر وتونس. (الأسبوع الفائت هرع ملك الأردن إلى البحرين لإبداء التضامن، وكان حسني مبارك على وشك اللحاق به، وشجبت تونس ومحمود عباس، وتقريبا غالبية الدول العربية، التهديدات الإيرانية).

من جهتها، أدارت السعودية بصرها ناحية الرئيس اليمني. وفي صباح السبت، ما إن انفض اجتماعه بوزير الطاقة الإيراني برويز فتاح، وفرغ لتوه من قراءة الرسالة الخطية التي بعثها الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، حتى تحول فأدار سماعة الهاتف، وأجرى مكالمة مقتضبة مع ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة، أعرب خلالها "عن وقوف اليمن، قيادة وحكومة وشعباً، إلى جانب البحرين وسيادتها واستقلالها، وعبر عن استنكاره لأي محاولة للنيل من سيادة واستقلال البحرين الشقيق والمساس بأمنه واستقراره"، حسبما جاء في الموقع الالكتروني للرئيس.

وبمعزل عن الرعونة والعدائية التي اتسمت بها تلك التصريحات، وبالنظر إلى التحولات الجوهرية التي شهدتها العلاقات اليمنية الخليجية منذ حرب الخليج الثانية، فإن ردة فعل الحكومة اليمنية تستبطن ما يجب التوقف عنده مليا. فالرئيس لم يكتف بالمكالمة التي أجراها مع ملك البحرين، للبرهنة على استيعابه لدرس غزو الكويت، بل تعززت ببيان من البرلمان وتصريح مصدر في الخارجية اليمنية كلاهما شجبا التهديدات الإيرانية. ما هو ملفت هنا، أنه فيما قام الرئيس بواجبه تجاه الجيران بنجاح أسوة بقادة دول "الاعتدال"، كانت صنعاء توقع على 5 برامج تنفيذية للتعاون بين اليمن وإيران، في مجالات الثقافة والسياحة والتعليم العالي والتدريب المهني والأوقاف.

العلاقات اليمنية الكويتية بدأت تتماثل للشفاء. قبل نحو أسبوعين، وصل وزير الخارجية الكويتي نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الشيخ محمد صباح السالم الصباح إلى عدن، في زيارة رسمية ترأس خلالها الجانب الكويتي في الاجتماع الثاني للجنة الوزارية المشتركة. وإذ أسفر عن الاجتماعات التوقيع على 7 اتفاقيات تعاون، فإن أياً من الجانبين لم يتطرق لموضوع انضمام اليمن لمجلس التعاون الخليجي.

في طريقه إلى اليمن، كان الوزير الكويتي قد أدلى بتصريحات من شأنها تثبيط الطموح اليمني بالانتماء الى نادي الأغنياء. "مجلس التعاون الخليجي يضم في عضويته ست دول وانتهينا. نحن هنا في الكويت نتكلم عن رؤيتنا بأن تكون هناك علاقة خاصة بين دول مجلس التعاون الخليجي ودول الجوار لهذا المجلس، وهي اليمن والعراق والأردن، وهذا الأمر لا يعني إطلاقا أنه يجب أن تفتح العضوية في مجلس التعاون الخليجي، المهم أن يكون عندنا علاقة مميزة" قال الوزير الكويتي.

....

عندما اجتاح صدام الكويت لم يستأذن أحداً. ومع ذلك، كان الكويتيون ينتظرون من اليمن موقفاً شبيهاً بموقفه من البحرين الآن: تضامن بروتوكولي لا تترتب عليه التزامات من أي نوع. وعدا خطيئة اليمن في تلك الحرب العاصفة، التي كانت أكثر من مجرد صراع عربي عربي، أو بتعبير المفكر الأمريكي صموئيل هنتجتون "أولى حروب الحضارات"، فقد ظل سجل العلاقات اليمنية الكويتية خالياً من أية أحقاد وجروح تاريخية. وهي على أية حال خطيئة ليست عصية على النسيان. فثمة خطايا تسقط بمجرد الاعتراف بها، وخطايا تبهت في الذاكرة بفعل الزمن. وما قد يساعد في تسريع اندمال ذلك الجرح العميق هو أن الكويت لم تسع يوماً لبسط نفوذها في هذا البلد أو ذاك.

لكن، هناك من يعتقد بأن الكويت كانت تمتلك نفوذاً محدوداً في جمهورية اليمن الديمقراطية، قبل الوحدة، دأبت على استعماله لمناكفة السعودية. ويحلو لبعض الكويتيين أحياناً الربط السلبي بين الوحدة اليمنية واحتلالهم من قبل جيش صدام حسين. ولوحظ أنه عند انطلاق الحراك في جنوب اليمن 2007 أصبح تاريخ 2 أغسطس يوماً رمزياً مثقلاً بالدلالات، يستخدم للإشارة إلى التماثل التاريخي بين الكويت والجنوب. ولا ريب أن ثمة تشابه تاريخي. فالجنوب اليمني والكويت، كانا آخر مناطق النفوذ البريطاني في الشرق الأوسط، ونالا استقلالهما في أزمنة متقاربة، وطيلة النصف الثاني من القرن العشرين كان البلدان محاصرين بدعاوى الانتماء إلى البلد الأم.

على حين غرة، وبعد مضي 72 يوماً فقط على توقيع اتفاقية الوحدة اليمنية في عدن، سقطت الكويت في قبضة صدام. وبصرف النظر عن صوابية الموقف اليمني من عدمه، فقد اختار النظام الحاكم حينها نهجاً، مستقلاً، بعض الشيء، في تعاطيه مع الأزمة، يبدو وكأنه مستوحى من الفوران الشعبي الذي اجتاح عواصم البلدان العربية والإسلامية، أكثر مما هو استجابة لمصالح وحسابات سياسية. ولقد فسر هنتجتون في كتابه "صراع الحضارات" ذلك الغضب الشعبي، بكونه ناجم عن تحول حرب الخليج إلى حرب حضارات: "لأن الغرب تدخل عسكرياً في صراع إسلامي، والغربيون دعموا هذا التدخل بأغلبية ساحقة، والمسلمون في جميع أنحاء العالم فهموه على أنه حرب ضدهم، فتجمعوا ضد ما رأوه مرحلة أخرى من مراحل الاستعمار".

وفي حين أدانت اليمن الاحتلال، رفضت فكرة تحرير الكويت بالقوة. وامتنع مندوبا اليمن في الجامعة العربية والأمم المتحدة عن التصويت لصالح قرارات تدين صدام حسين وتطالب بفرض عقوبات دولية. ثم امتنعت اليمن عن المشاركة في التحالف الدولي الذي ضم قرابة 34 دولة.

ومهما يكن من شيء، فقد كان لدى الكويت ما يكفي من الأسباب للغضب. لهذا، حينما ساندت الكويت الانفصال في صيف 94 لم يستغرب ذلك أحد بقدر الاستغراب من موقف الإمارات مثلا. لسببين: لأنه كان فعل انتقامي شديد الوضوح، بسبب وقوف اليمن موقف المتفرج من النكبة التي حلت بالكويت، ولأن الوحدة أصلا سلبت الكويت أحد حلفائها في المنطقة، ناهيك عما يعتقده بعض الكويتيون بأن الوحدة لعبت دور الملهم لـ صدام كي يقوم بما قام به.

انقشع غبار حرب الخليج. وبحلول عام 1994 كان اليمن على شفير حرب أهلية. وتهيأت الكويت للنيل من اليمن. حتى إن صحيفة الوطن الكويتيه كتبت تقول: "يسعدنا أن نزف البشرى إلى كل أبناء الشعب الكويتي حول أحداث غير سعيدة يمر بها حالياً اليمن السعيد. بوادر الانفصال آتية لا ريب فيها بين الشمال والجنوب، والتي من مصلحتنا أن نغذيها من أجل مصلحة الكويت ودول الخليج وكل العرب".

ويرى نجيب رياض الريس في كتابه "رياح الجنوب" أن المأخذ الكويتي على اليمن، وخاصة على جنوبه، متأتي من كون الكويت كانت "أول منْ دعم مشاريعه وساهم في إعماره، فأسست مكاتب للتمنية في عدن، وأقامت اللجان للتعليم والصحة وسواها من وسائل المساعدات في صنعاء. ويعتقد الكويتيون أن علي سالم البيض والحزب الاشتراكي العدني لم يكونا يريدان الوقوف مع العراق، وأنهما كانا أكثر عقلانية من نظيرهما في الشمال، حيث كان علي عبد الله صالح وحزب المؤتمر متعاطفين مع صدام حسين. لذلك كان الكويتيون يأملون أن يبقى اليمن على الأقل، على الحياد".

الأمر بالنسبة للسعودية مختلف جملة وتفصيلا. وعلى الرغم أن هذه الدولة الكبيرة ما تزال تتمتع بموطئ قدم راسخ في اليمن، إلا أن خطيئة الأخير تتعدى موقفه من حرب الخليج الثانية. إنها من طراز الخطايا التي يستحيل التجاوز عنها: وجود اليمن نفسه متاخماً للملكة مترامية الأطراف.

...

منذ توليه الحكم، غالباً ما كانت الظروف الدولية مواتية للرئيس علي عبدالله صالح. بدأ الأمر في نهاية سبعينات القرن الفائت حين كانت الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي في أوجها، في الوقت الذي كانت الحركة الماركسية قاب قوسين أو أدنى من صنعاء. ولقد شكل ذلك التهديد واحدة من أهم نقاط الالتقاء الحاسمة مع السعودية، التي كانت حينئذٍ أهم حليف للمعسكر الغربي في المنطقة.

في غضون العقدين الأخيرين انقسمت الدول العربية، لجهة مواقفها من إسرائيل، إلى معسكرين. أحدهما يطلق عليه "معسكر الممانعة" والآخر "معسكر الاعتدال". ويضم المعسكران صنفان من الدول: دول المركز ودول الهامش. وبموجب الحقائق التاريخية والسياسية لا يمكن أن تكون اليمن إلا واحدة من دول الهامش الباحثة عن مركز تنتظم في فلكه. وإذا كانت السعودية هي التي تقف على رأس محور الاعتدال، فإن اليمن نصيبها التقليدي.

إلى وقت قريب، كان اكتشاف الرغبة السعودية في الهيمنة على القرار اليمني منوط بنخبة سياسية ضيقة. ومنذ مارس 2008، حيث التأمت القمة العربية في دمشق، أصبح المواطن العادي في اليمن يلمس النفوذ السعودي ودوره الحاسم في صوغ وتوجيه السياسة الخارجية اليمنية، يراه ويسمعه ويشم رائحته دون وسيط. آنذاك كان الرئيس صالح قد عقد العزم على المشاركة في القمة. بيد أنه طار إلى الرياض في زيارة خاطفة تكللت بعدوله عن تمثيل اليمن في قمة دمشق وسافر بدلا عنه نائبه. وجلب الأمر كماً هائلاً من التأويل، والتأويل في زمن الفضائيات لم يعد حكراً على أحد، بعد أن تقلصت المسافة بين النخبة والناس العاديين، بحسب الناقد والمفكر السعودي عبدالله الغذامي في "الثقافة التلفزيونية"، الذي شرح فيه كيف أن الصورة عملت على "زعزعة مفهوم النخبة بحيث صار الجميع سواسية في التعرف على العالم".

وبين قمة الدوحة والكويت الشهر الماضي اختار الأخيرة، بعد تلقيه مكالمة من العاهل السعودي عشية انعقاد قمة قطر. توطدت علاقته بالسعودية ولم يخسر قطر. كان الخاسر الأكبر هو المذيع في الفضائية اليمنية أحمد المسيبلي وظيفته وأمنه الشخصي.

من الواضح أن الرئيس اليمني بدأ يدرك، في السنوات الأخيرة، كم إن الأرضية، التي بات يقف عليها، هشة. والحق أنه عند التفكير في السعودية بالذات، هناك دائما ما يخشى منه. ومن شبه المؤكد أنه حينما قرر الانخراط، بدون تحفظ، في مدار السعودية، كان يتوخى الحصول على مكسبين: درء مخاطرها التي لا تحتمل، وكسب حليف قوي لوقت الملمات. وإذا كان لتحسن علاقته بالرياض من مردود فهو إنما يتمثل في مساعدة صالح على البقاء الآمن في الحكم لأطول فترة ممكنة. فيما أخذت شعبيته داخلياً تضمحل بوتيرة متسارعة، العام تلو الآخر، فإن قيمة أسهمه ارتفعت، خلال الأشهر الفائتة، إلى أعلى مستوياتها في مؤشر بورصة دول النفط الغارقة في البذخ والنعيم. بكلمات أخرى: ما إن يلمح انخفاض وزنه السياسي في أوساط الشعب، حتى يبادر بالتصرف بطريقة تجعل منه صديقاً مهماً ولا يستبدل لدى دول الخليج، السعودية بالذات، وتلقائياً أمريكا.

....

والامتثال للسطوة السعودية ليس قدراً لا فكاك منه. فدولة صغيرة مثل قطر تمكنت من الإفلات من القبضة السعودية ذات يوم. ففي سبتمبر 1992، حين نشب النزاع الحدودي بين البلدين، هاجمت قوات سعودية مخفر الخفوس القطري الحدودي وقتلت اثنين من حرس الحدود القطري. والخفوس مخفر يقع جنوب شبه جزيرة قطر، ويبعد عن خور العديد، على مياه الخليج، مسافة كيلومتر. وكان هذا الحدث نقطة فارقة في علاقات البلدين لتتحول قطر إلى دولة ذات ثقل سياسي يوشك أن يضاهي ثقل السعودية بعرضها وطولها. وباتت تتهم بتقاسم قيادة ما يسمى محور "الممانعة" مع سوريا وإيران.

في عام 1995 وقعت في الحدود اليمنية السعودية حادثة مشابهة، "اتهمت فيها المملكة اليمن بالسيطرة على مواقع خلال اشتباكات بين الجانبين، واختراق الأراضي السعودية شرق منطقة الخراخير على الحدود الشرقية اليمنية ـ السعودية". وبلغ التوتر بين البلدين إلى درجة أن الأمير سلطان بن عبدالعزير، وزير الدفاع آنذاك، اتصل بكل من عبدالعزيز عبدالغني رئيس الوزراء، الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، مهدداً بقصف القوات اليمنية بالطائرات.

وفي 13 فبراير 1995 ألقى الرئيس اليمني خطاباً شديد اللهجة في المكلا. وقال موجهاً كلامه إلى السعوديين: "لقد تآمروا على الإنسان في اليمن، فإذا بنا بسياسة التجويع والانفصال والاقتتال واقتطاع الأرض التي لا يتقبلها شعبنا على الإطلاق. لقد قلنا أثناء الحرب إننا لا نقبل بالانفصال. واليوم نقول إننا لا يمكن أن نقبل بمزيد من اقتطاع الأرض". وأضاف محتداً: "نحن موجودون على الخارطة وشعبنا تاريخي. بلدنا قائم منذ القدم وليس (كالسعودية) منذ ستين عاماً فقط. ولا يستطيع أحد أن ينتزعنا من الخارطة الجغرافية". (رياح الجنوب، نجيب رياض الريس).

وكان اللجوء للتفاوض خياراً جيداً للطرفين. وكيفما كانت النتيجة، التي انتهت إليها اتفاقية ترسيم الحدود، فقد كانت الفرصة سانحة، أكثر من أي وقت مضى، للخروج من معطف المملكة، والشروع في تعزيز استقلال القرار اليمني. لتحقيق ذلك، كان يتوجب على الرئيس الانهماك في العمل على ردم الفجوة الاقتصادية الهائلة بين البلدين، التي زادت اتساعاً بعد حملة التأديب بالغة القسوة، التي أعقبت حرب الخليج، وتسببت في طرد ما يربو على 800 ألف مغترب يمني من السعودية وحدها، وحرمان البلد من المساعدات السعودية وقيمتها أكثر من 120 مليون دولار سنويا.

لو فعل، حينها فقط، يصبح بمقدوره بناء علاقات قوامها الاحترام المتبادل، والشراكة الاقتصادية والسياسية المتكافئة. عوضاً عن ذلك، راح الرجل يردم فجوة أخرى قريبة الغور: تقليص الفوارق بين شكلي الحكم في البلدين لتغدو ما كانت تسمى جمهورية أقرب ما تكون للحكم الأسري. وهذا تقريبا ما أفلح فيه ويحظى بالمساندة، وربما هو العائد الوحيد من دفء العلاقة.

...

الخلاصة: إن كانت اليمن تمثل شيئاً بالنسبة لدول النفط الخليجية، فإنها لا تعدو كونها مصدر خطر مستديم. وأقل، وإن شئتم أصدق، ما يمكن أن توصف به العلاقات اليمنية الخليجية هو أنها "غير متكافئة". أو يمكن شرحها على هذا النحو: علاقة عائلة فقيرة بمحيط فاحش الثراء وأناني لا يدرك جيداً كم إن مظاهر الترف مستفزة.

تقريباً، للتفاوت في العلاقات الفردية البسيطة نفس مفعول التفاوت في علاقات الدول. وعلى الدوام، فدرجة التكافؤ الاقتصادي والاجتماعي، داخل مجتمع معين، تحدد مستوى التماسك والتضامن والسلم. وكلما زادت الهوة اتساعاً فإنه لا شيء يجعل من التعايش أمراً ممكناً.

ولقائل أن يقول: ثمة نماذج في العالم يصعب حصرها لمجتمعات يعيش أفرادها ضمن ظروف غير عادلة ومع ذلك لم ينجم عن تلك الظروف ما من شأنه تقويض استقراها السياسي والاجتماعي. هذا صحيح. لكن أحداً لم يقل بأنه من الحتمي أن اللاتكافؤ يجيء مصحوباً بالاضطراب والفوضى كل الوقت. الشيء الحتمي هو أن اللاتكافؤ في العلاقات لا يتوقف عن نشر جو من النقمة المتبادلة والحقد الموارب وانعدام الثقة. تظل هذه المشاعر ذات صلة بطبائع البشر، مقموعة وبالتالي مستترة، لبعض الوقت، ثم إنها ما تلبث أن تعبر عن نفسها في صورة وحشية بغيضة عندما تصبح الفرص مواتية لذلك.

دائما الهدوء في ظل اللاتكافؤ زائف وباهظ الكلفة، ونتائجه ليست مثمرة غالباً. وعند الكاتب الأردني خيري منصور، يتطلب هذا النمط من العلاقات "طرفين أحدهما يبدي الإعجاب والآخر يستمرئ هذا الاعتراف بتفوقه، لكن ما من إعجاب غير مشوب بدرجة أو بأخرى بعاطفة سلبية، قد تبدأ بالتحاسد ثم تنتهي بالكراهية والأحقاد". ولاحظ في مقال نشرته الخليج الإماراتية، قبل بضعة أسابيع، أن "اللاتكافؤ يخلق إحساساً بالدونية لدى الأضعف أو الأقبح أو الأفقر، وما من سبيل لردم الهوة المتفاقمة إلا بانتظار القوي كي يضعف أو الغني كي يفقر".

إلى حد ما، تكاد تصدق هذه المقاربة على العلاقات الفردية اليومية، في إطار المجتمعات الصغيرة، صدقها على العلاقات داخل منظومة المجتمع الدولي الواسع.