ما لا يحبه الناس في حميد الأحمر
بقلم/ محمد العلائي
نشر منذ: 16 سنة و أسبوعين
الثلاثاء 11 نوفمبر-تشرين الثاني 2008 09:49 م

في مقابلته مع قناة الجزيرة مباشر، استعاد حميد الأحمر بعض وهجه الذي كاد أن يخبو، وبعض حرارة صوته التي أوشكت على بلوغ مادون الصفر. الجمعة الماضية انتظره محبوه بفارغ الصبر. ورغم انه تحاشى مهاجمة الرئيس صراحة مكتفيا بالتعريض، إلا أن حديثه إجمالا كان يبعث على الاطمئنان. لكأنه كان يقول: لم أخذلكم بعد.

لا توجد مآخذ عميقة على حميد الأحمر. لكن أكثر ما يضعف من حماسة الناس حيال هذا الرجل، بحسب تقديري، أمران: الجغرافيا والقبيلة اللتان يتحدر منهما. وهما أمران لم يخترهما بإرادته حينما أبصر النور عام 1968.

إنهما عنصران حتميان يلتصقان بالمرء عادة لحظة ولادته، دون أن يجد الحيلة لتغييرهما. وفوق ذلك فرجل الأعمال المرموق فاحش الثراء، وشديد الاعتداد بقبيلته حاشد، وجد نفسه مثقلا بعبء سياسي تاريخي زاخر ورثه عن أسلافه.

يمثل حميد الأحمر نموذجا نادرا من السياسيين، الذين يحتاج المرء، إذا ما أراد الإعراب عن إعجابه بهم، إلى إبداء بعض التحفظ بين كل كلمة وأخرى، ولو من قبيل التماشي مع الميول السائد أثناء الحديث.

فمثلا، عندما تكون في وسط يساريين غير راضين عن اللقاء المشترك، أو حداثيين(مجازا) ذوي أهواء سياسية متضاربة، تظل تفكر كيف تتفادى القبض عليك متلبسا بمؤازرة وتأييد رموز البنى التقليدية والترويج لها.

على أنه يمثل لدى غالبية الإصلاحيين مصدر الهام وفخر وقوة.

حميد متحدث لبق، وملامحه تحمل سيماء الجد، إنما شخصيته المدموغة بأفكار نمطية مسبقة، تثير مشاعر إعجاب دفينة. إذ تدرك أهمية إخفائها لئلا تصاب بخيبة أمل فيما لو تغيرت قناعاته ومواقفه ذات يوم. وكلما تذكرت جذوره وارتباط سلالته ببيوت الحكم، معارضة حينا وتأييدا أحايين كثيرة، عبر زهاء قرنين، تتحوط بصورة متزمتة عن أن تعلق آمالاً عريضة عليه كداعية تغيير يعبر عن آمال الشعب.

وعلى الرغم من أن الرجل نشأ وترعرع في بحبوحة من العيش، فإن شكله لا يبدو باذخا إنما أنيق ينطوي على بساطة، ويعكس من مظاهر الرخاء والنعمة أقل بكثير مما يتوقعه الناس بالنسبة لرجل تقدر ثروته بمئات الملايين من الدولارات.

لا يكف البعض عن التشكيك في مدى جدية معارضته للنظام. بل لقد وجد عدد من مناوئيه في نهجه المقتصد الكلام ذي النبرة المنخفضة تجاه الرئيس بالذات، في أعقاب وفاة والده، البرهان المنشود على صدق دعاواهم. فهم يزعمون أن أداءه السياسي المعارض ليس سوى فعل مخطط له سلفا في إطار نص طويل يوزع أدواره علي عبدالله صالح . واعتبروا مهادنته للرئيس رضوخا وتنازلا ضمن صفقة تنتهي بموجبها الإجراءات العقابية التي لحقت به خلال الفترة الماضية.

والقول بأن الدعاوى السابقة كلها حقائق، شطط ومبالغة تكاد تخلو تماما من المنطق. كما إن القول بأن جميعها أوهام- مغالاة مفرطة وتنزيه قد يحيل إلى عكسه. شخصيا، أظن أنها، في معظم الأحيان، ولاسيما في الآونة الأخيرة، أوهام أخذت طابعا يقينيا مع مرور الوقت. علاوة على أنها اكتسبت أهميتها وديمومتها من فكرة ارتباط عائلة الأحمر ببيت الحكم الحالي طيلة 3 عقود.

في انتخابات الرئاسة 2006 خاض حميد الأحمر معركة انتخابية حامية الوطيس. وأكثر من ذلك، فتحركه المشرف، ضمن فريق مرشح الرئاسة فيصل بن شملان، أقض مضاجع النظام إلى درجة أن الرئيس بدأ يأخذ الأمر على محمل شخصي.

 لقد لعب الشاب الثري ابن السلطة، الحاصل على مؤهله الجامعي في الاقتصاد، دورا شبيها بشخصية بروتس-في جانب منها- في المسرحية التراجيدية الشهيرة "يوليوس قيصر" لـ وليم شكسبير. حيث يتمكن كاسيوس بنوايا سيئة، ولمآرب شخصية، من كسب تأييد بروتس، الرجل النبيل، ضد صديقه المقرب والطامح للتاج يوليوس قيصر، بذريعة أن الأخير قرر، تحت تأثير زهو الانتصارات العظيمة، تحويل روما من جمهورية إلى مملكة. وبالطبع ليس اللقاء المشترك كاسيوس بأي حال، غير أن احتمالية أن يصبح الرئيس صالح يوما يوليوس قيصر ممكنة جدا، لا، بل هي الآن ماثلة للعيان.

في الواقع لم يكن حميد يعبث، حينما اصطف مع المعارضة لتعبئة قبيلة حاشد لانتخاب شخص قادم من حضرموت للمنصب الأول في البلد. وكان الاحتشاد الغفير في مهرجان بن شملان الانتخابي بعمران بمثابة ثورة حقيقية تزعمها حميد على مرأى من والده الذي كان ما يزال يصارع المرض في الرياض. حتى إن بعضهم اعتبر المهرجان صرخة احتجاج ضد محاولة الرئيس تقليص دور حاشد أكثر مما هو التفاف حول بن شملان. وبصرف النظر عن الدوافع، فقد كان شجاعا وجريئا، ونجح في الظهور بصورة المناضل المندفع الواثق من نفسه.

يتمتع حميد بسحر جذاب ووهج حاد التأثير(قد يكون للأمر علاقة بقوة شخصيته، وربما أنه وهج السلطة والمال اللذين استمدهما عن أبيه)، بيد أن مبغضيه يضعونه على الدوام في عداد المحكوم عليهم سلفا كرجال مخادعين دوما ومزدوجي الشخصية. وهذا غير صحيح.

من الواضح أن الرجل يكافح لإظهار إلى أي حد هو جاد في تبني خطاب المعارضة بحذافيره ودونما استثناء، لكن ثمة رغبة جامحة للحيلولة دون زوال الاعتقاد السلبي الدارج وإبقائه ساري المفعول.

كم يبدو من الصعب أحيانا التعاطف مع قائد سياسي ما، بطريقة تليق برجل. بمعنى أن تستطيع محبته من غير أن تضطر ولو للحظة إلى التمويه في الدفاع عنه، أو الاحمرار خجلا من كونك تؤيد الشخص الخطأ المليء بالغموض والنقائص والمتناقضات.

مقارنة بغيره من النخبة السياسية التقليدية(المتجذرة)، فإن مثالب وعيوب حميد الأحمر الجوهرية ضئيلة الشأن، لكنها لا تتسم بالقابلية للتغيير، على غرار: هو من حاشد، كلهم حمر، أو كلهم حق مطلع، أو أمثولة "أنت رئيسي وأنا شيخك" المنسوبة للراحل الشيخ عبدالله. وهذا بيت القصيد.

هناك حسابات منطقية فعلا يجب أن يتنبه لها الشيخ حميد جيدا. فبالنظر إلى التعقيدات الاجتماعية الناجمة عن التفاوت في حق التمثيل السياسي للمواطنين، حيث لم يحصل أن تسنمت سدة الرئاسة شخصية من المحافظات الوسطى، أو الجنوبية بعد الوحدة، فإن المنزعجين لبزوغ نجمه الطاغي، محقون في ذلك من نواح عدة. ذلك أنهم يطالبون أولا، وقبل أي شيء آخر، بضبط موازين القوى وترتيب المصالح بما يكفل ولو حتى المستوى الأدنى من العدالة، ومن تكافؤ الفرص، في السياسة مثلما في الاقتصاد. بتعبير آخر: ينبغي العمل على تقويض الأسس النظرية لموازين القوى المستفردة بالحكم، والبدء بإرساء، بدلا عنها، تنظيمات اجتماعية وسياسة بمقاسات وطنية تمكن كل إنسان من أسباب القوة سواء بسواء. ومن ثم ليطمح حميد أو غير حميد ما شاء له أن يطمح.

مالا يحبه السواد الأعظم من الناس في حميد الأحمر، بدرجة أساسية، هو كونه من حاشد أولا بوصفه أحد زعاماتها، وثانيا لأنه من آل الأحمر، وثالثا لأنه من شمال الشمال. وكلها أشياء لم يساهم في اختيارها، ولا يملك ترف تبديلها. وثمة من يرى -إضافة لما سبق- في كون الرجل إصلاحيا محافظا، وله ارتباط موروث بالنظام السعودي، مشكلتان تنتقصان من أهليته. وتلك قصة أخرى.

في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم كان الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر هو الرجل الأقوى في اليمن الشمالي بلا منازع. آنذاك كان الانتماء لقبيلة حاشد امتيازا حاسما يجلب الحظ. ولو قدر لنجله حميد أن تكون تلك الحقبتين هما فترة نضجه لكانت المآخذ التي تضمنتها هذه السطور مجرد ترهات لا أحد يعيرها اهتمامه. لكنه ولد في الزمان الخطأ.

 لقد تبدلت الأحوال عما كانت عليه. فمنذ صعود صالح إلى الرئاسة في 1978 ومسارعة حاشد إلى الاعتراف به كواحد من أفرادها، أصبحت تطلعات الشيخ وأبنائه لا تتعدى البرلمان. والسبب هو أن صالح، الذي أنكروا نسبته لحاشد مؤخرا، أخذ نصيب الجميع، القبيلة والشيخ، وراح يؤسس لنفسه قبيلته الخاصة.

إذاً، بعد تولي صالح الحكم، واستمراره 3 عقود متواصلة، ترسخت في ذاكرة الناس الجمعية صورة سلبية عن حاشد تحتوي على كل ما هو مشين، إذ باتت ترمز إلى التسلط والفوضى والأنانية والفوقية. طبعا ليس لحميد ذنب في هذا غير أن المرء أحيانا يدفع ضريبة قومه.

حميد قيادي محنك ومقنع. ومهما كان كذلك، وحتى لو كان رسولا، إلا أن دربا غير ممهد ينتظره، ويجب عليه أن يشق طريقه فيه بخطى وئيدة. فعلى سبيل المثال، لا يمكن القفز على مطالب الجنوبيين في الحصول على فرص متساوية، بحيث يغدو الوصول إلى أي منصب في الدولة منوطا بالكفاءة والقدرة من غير ما التفات للهويات البالية. وباختصار: عليه أن يناضل من أجل الآخرين وليس لمجد حاشد وتفوقها. أظن أنه يفعل هذا الآن.

لا ينشغل الناس كثيرا، في تناولهم لشخصية حميد الأحمر، بسؤال ماركس، مثلا، عن المصدر الأول لرأس مال الرأسماليين. وهذا جيدا. فهم يرون أنه أيا ما كان مصدر ثرائه، فهذا لا يهم كثيرا الآن، طالما أنه استطاع فسخ علاقة ثروته مع الحكم شيئا فشيئا، وتمرن في كنف أبيه على إدارة مصالحه خارج المنشأ الأصلي لها.

الثقة أسوأ ما قد يفتقده السياسي لدى جماهيره. ومع أن مظهر حميد الأحمر وتعابير وجهه يولدان الانطباع بأنه مهذب وشريف ومستقيم، إلا أن مصداقيته، لسوء الحظ، وللاعتبارات المذكورة سابقا، خاضعة لامتحان عسير وممتد ولا متناه. لكن ماذا بوسعه أن يقوم به حقا ليحظى بثقة الناس، ودحض أقاويل المشككين، ويتسنى له بعد ذلك اجتياز الامتحان العصيب بتفوق.

قبل بضعة أشهر اعتمد اللقاء المشترك صيغة عمل جديدة أطلق عليها اسم "لجان التشاور الوطني". وعند وضع الهيكل التنظيمي لتلك اللجان اسند منصب رئاسة اللجنة العليا للتشاور للشيخ حميد الأحمر. لا نعرف ما إذا كان القرار جيدا أم سيئا، لكنه امتحان عسير آخر يسعى حميد لاجتيازه.

وفق ما هو معلن فالمهمة إياه شاقة. فهي عملية استقطاب كبيرة لمراكز التأثير في عموم البلد تحمل رسالة قصيرة مفادها: طفح الكيل من هذا النظام، والوطن في طريقه إلى التشرذم، وبالتالي علينا أن نتدارس كيف يجب أن نتصرف. وحالما تصل الرسالة إلى أكبر عدد ممكن، يبدأ حميد الأحمر ولجانه التوطئة لانعقاد ملتقى التشاور الوطني، الذي سيقرر التصرف المناسب. من يدري قد يخرج الرئيس عن طوره إزاء هذا العمل.

 على أية حال، بقي أن نقول للشيخ حميد: إنك تقوم بعمل رائع يا رجل، والناس ينظرون إليك كأحد أهم ركائز التغيير المعول عليهم بشدة، وإنهم ليكنون لك مودة وتوقيرا عظيمين، وإن تظاهروا بغير ذلك.

صحيح هناك الكثير مما يجب تغييره، لكن العالم لم يفقد صوابه ليطلب منك التنصل عن كونك من حاشد، لأن هذا المطلب سخيف بقدر ما هو مستحيل. حينما تصير الأقدار عادلة ومتكافئة في هذا البلد سنتغاضى عن النظر إلى نسبك وتاريخ أسلافك... حينها فقط يمكن أن تصبح رئيسا.

alalaiy@yahoo.com