لا أتقرب لحراك، والشمال لم يكن ملجأي الوحيد (6)
بقلم/ نجيب قحطان الشعبي
نشر منذ: 14 سنة و 6 أشهر و 16 يوماً
الأحد 09 مايو 2010 04:05 م

(إلى الحراك اللاهث وراء "حق تقرير المصير)

أشرت بالحلقة الفائتة إلى أنني وشقيقي (ناصر قحطان) لمحنا بوتفليقه يسير في ردهات فندق شيراتون (القاهرة، 1977م) وبرفقته وزير خارجية البحرين، فارتأينا أن نوضح له الوضع السيء الذي يعيشه أبانا في معتقله الانفرادي الرهيب بعدن وأن نناشده بأن تطلب الجزائر من عدن معاملته بنفس ما يعامل به الرئيس الجزائري أحمد بن بللا الذي أطاح به انقلاب عسكري في 1965م.

مع بوتفليقة

قمنا من مقعدينا وذهبنا إلى بوتفليقة وصافحناه والوزير البحريني ثم قلت له "نرجو أن نتحدث معك لبضع دقائق" فأجاب بكلمة واحدة هي "بوليساريو" (سأوضح بعد قليل معناها) فرد شقيقي "لا، نحن أبناء الرئيس قحطان الشعبي المحبوس بعدن منذ استقالته". فأخذ يصافحنا مجدداً وبحرارة ثم أشار إلى طاولة قريبة حولها مقاعد وقال "اقعدوا هنا وسأحضر إليكم بعد دقيقتين" فقعدنا ثم رأيناه وهو يصافح الوزير البحريني ومشيراً بإصبعه نحونا (مما يعني أنه يستأذنه أن يتركه كي يجلس معنا) ولحظتها كنت أقول لشقيقي "إنشاء الله لا يأتي مطيع الآن ويرانا مع بوتفليقة".

توضيح: كان أبي قد نبهنا إلى أنه عندما نتصل بالقادة العرب لنوضح لهم حقيقة الوضع الذي يعيشه في المعتقل ونطالبهم بالتوسط لدى عدن لإطلاق سراحه فعلينا أن نلفت نظرهم بأن يكون توسطهم في شكل مبادرة منهم فلا يشيروا إلى أن أسرة قحطان الشعبي اتصلت بهم وإلا فإن السلطة بعدن ستنكل بوالدنا أكثر وستنكل بنا وتكون كارثة علينا. لذلك خشينا أن يرانا مطيع ونحن مع بوتفليقة فلو رآنا معه فسيعود إلى عدن ويحكي لرفاقه بأننا نتصل بوزراء الخارجية العرب، وعندما سيتوسط بومدين لدى عدن ستفهم عدن بأنه لم يتوسط إلا بطلب منا وبذا ستحل الكارثة بنا.

جاء بوتفليقة وجلس معنا وأخذنا نعرض عليه الوضع المقرف الذي يعيشه والدنا في المعتقل رغم تنازله عن السلطة سلمياً ورغم أنه لم يحاكم ولم يحقق معه ولم توجه إليه أية تهمة، وأوضحنا له بأن كل شيء تقريباً ممنوع عنه وأن ما يقدم إليه من طعام إنما هو فضلات طعام الجنود المكلفين بحراسته وغير مسموح له بتلقي العلاج وغير مسموح لنا بزيارته إلا على فترات متباعدة، وقلنا له بأننا لا نطلب أن تتوسط الجزائر لإطلاق سراحه فالسلطة الماركسية بعدن سترد بأن بن بللا معتقل أيضاً فهذه هي حجتهم لأنهم لا يعرفون بأن بن بللا يعامل بشكل كريم يليق بتاريخه النضالي وبكونه أول رئيس لجمهورية الجزائر المستقلة فيعيش في مزرعة وكل طلباته مجابة، ولذلك فإننا نرجوه أن ينقل للرئيس بومدين تحياتنا ورجائنا أن يطالب عدن بمعاملة قحطان الشعبي بمثل ما يعامل بن بللا.

وخلال الثواني التي صمتنا فيها ريثما ينتهي من إشعال لفافة من التبغ الفاخر(سيجار"هافانا" الكوبي) لكزني شقيقي وأشار بوجهه ناحية باب الفندق فنظرت إلى هناك فرأيت مطيع يدلف وسمعت شقيقي وهو يقول بصوت خفيض "هذا ما كان ينقصنا" ولم يكن أمامنا إلا أن نواصل التحدث إلى بوتفليقة وعيوننا شبه مركزة على مطيع الذي أخذ يقترب من مكان جلوسنا.. ويقترب.. ويقترب.. ثم يمر من أمامنا ويتجاوزنا دون أن ينتبه لوجودنا فقد كان ملتفتاً للجهة الأخرى منشغلاً بالحديث مع شخص يرافقه (ومن الطريف أن موظفي استقبال الفندق و مراسيم جامعة الدول العربية لم يزفوه إلى قاعة إجتماع وزراء الخارجية العرب بينما هو وزير لخارجية عدن, فيما زفونا أنا وشقيقي اللذين لا شأن لنا بذلك الاجتماع فالبذلات الأنيقة وسيارتنا الجديدة وعدم قيامنا بوضعها بموقف السيارات وتكليفنا أحد العمال بذلك، كل تلك المظاهر عملت عملها فأحاطنا موظفو الإستقبال بالفندق ومراسيم الجامعة بالترحاب والإحترام الوافر وتجاهلوا وزيراً للخارجية).

وقد وعدنا بوتفليقة بالاهتمام بالموضوع وبأنه سينقل للرئيس بومدين ما عرفه منا حول الحياة التعيسة التي فرضت على والدنا في معتقلة الانفرادي.

توضيح: قبل أن نلتقي بوتفليقة بسنوات، كان والدي قد ذكر لنا في إحدى زياراتنا له بمعتقله أن بوتفليقة هو أحد أنشط وزراء الخارجية على مستوى العالم.

بين البوليساريو والحراك الجنوبي

قال بوتفليقة "بوليساريو" لأنه ظن بأننا ننتمي لجبهة البوليساريو التي كانت آنئذ تقاتل القوات المغربية في سبيل تحرير إقليم الصحراء الغربية، فملامحنا أنا وشقيقي شديدة الشبه بمقاتلي البوليساريو من حيث تقاطيع الوجه وإسمرار البشرة، وكانت الجزائر– ولا تزال – أكبر مؤيد لجبهة البوليساريو.

توضيح: "البوليساريو" هي اختصار لاسم "الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب" وتشكلت في 1973م لتقاتل الاستعمار الإسباني للصحراء الغربية وكانت تحظى بدعم ليبيا، وعندما أنهت إسبانيا احتلالها للصحراء الغربية في عام 1975م قامت المغرب على الفور بضمها وأعلنتها إقليماً مغربياً، ومساحة الصحراء كبيرة فهي تفوق الربع مليون كيلو متراً مربعاً (أكبر من مساحة ماكان يسمى بالشطر الشمالي من اليمن) ويعيش على هذه المساحة نحو ثلاثمائة ألف نسمة فقط، والصحراء غنية بالفوسفات. ومنذ رحيل الاستعمار الإسباني صارت الجزائر هي المساند والداعم الأول لجبهة البوليساريو فيما تراجع الدعم الليبي حتى توقف في 1984م، ومارست البوليساريو كفاحاً كان بعضه مسلحاً ضد القوات المغربية, وفي العام 1991م أصدرت الأمم المتحدة أول قراراتها بشأن منح سكان الصحراء حق تقرير المصير، ووافق مجلس الأمن على خطة جيمس بيكر (وزير خارجية الولايات المتحدة سابقاً ومبعوث الأمم المتحدة إلى إقليم الصحراء) وتقوم الخطة على منح سكان الصحراء حكماً ذاتياً لخمسة أعوام وبعدها يستفتون حول الرغبة بالانضمام للمغرب أم الاستقلال، وقد وافقت البوليساريو على تلك الخطة فيما رفضتها الرباط التي تقول بأن الصحراء هي إقليم مغربي يمكن أن يمنح حكماً ذاتياً في إطار السيادة المغربية على الإقليم لكنها لن تقبل بالاستفتاء حول مصيره. أما الجزائر فهي ترى أنها مسألة تصفية استعمار مغربي منذ جلاء القوات الإسبانية عن الصحراء في 1975م.

وقد أعلنت البوليساريو - بزعامة محمد بن عبدالعزيز- الجمهورية في الصحراء تحت اسم "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" واعترفت بها عشرات الدول ثم استطاعت الرباط التأثير على معظم تلك الدول فسحبت اعترافاتها.

لم أكتب هذه النبذة عن البوليساريو وقضية الصحراء الغربية لاستعرض ثقافتي حول ذلك مثلما قد يتبادر إلى ذهن البعض، فلو أردت ذلك لكتبت المزيد، ولكنني كتبته على أساس أن اللبيب تكفيه الإشارة، وأما غير اللبيب فأوضح له بأن الأمر يتصل بالحراك الجنوبي الذي يطالب معظمه بمنح الشعب في الجنوب حق تقرير المصير.

في "حق تقرير المصير"

والسؤال لمن يطالبون بحق تقرير المصير للشعب في الجنوب (أي استفتاء الشعب حول مستقبله السياسي لمعرفة رأيه هل يرغب باستمرار الوحدة اليمنية الحالية أم استقلال الجنوب) انظروا إلى حالة الصحراء الغربية فجبهة البوليساريو وبعد أن خاضت كفاحاً كان بعضه مسلحاً لأكثر من 15 عاماً نالت قراراً من الأمم المتحدة بحق تقرير المصير لشعب الصحراء ومع ذلك مضت نحو 20 عاماً ولم يتم تنفيذ القرار بسبب معارضة الرباط, فكيف سيتسنى للحراك الجنوبي أن ينال من الأمم المتحدة قراراً مشابهاً؟ وإذا ما افترضنا صدور مثل ذلك القرار فمن الذي سينفذه؟ ومتى؟ وبأية آلية؟

لا أقصد إثارة الإحباط لدى الحراك ولكن ما نيل المطالب بالتمني, ولا بالتغني على غير أساس بالاستقلال الثاني القريب مثلما صرح علي البيض, أو القادم في أكتوبر القادم مثلما صرح طارق الفضلي (أحد قادة الحراك, وكان قد أعلن في مطلع مارس الفائت إتفاقه مع السلطة على "التهدئة" حتى نهاية أبريل وقد أنتهت المدة إلا أنه لم يعاود نشاطه الحراكي) ولا بالتراجع عن المواقف, ولا بمعاداة أكثر من 20 مليون يمني في الشمال اليمني، ولا بتمني عودة الاحتلال البريطاني للجنوب (أيضاً مثلما صرح الفضلي) مما يكشف التناقض مع الدعوة لاستقلاله! ولا بالإكثار من التصريحات بمناسبة وبدون مناسبة حتى صارت مكررة.

إن ما تقدم يفصح عن العشوائية في العمل السياسي وعدم وجود حتى دليل نظري ليهتدي به المنخرطون في ذلك الحراك مما يودي بجهود المخلصين في الحراك ويضع الكل على طريق الضياع السياسي والتنظيمي.

إن من أهم العيوب التي يعانيها الحراك الجنوبي المنادي بحق تقرير المصير أنه لم يستلهم العبر حتى من تاريخنا الوطني القريب في ظل الاحتلال البريطاني وكيف رفضت بريطانيا تطبيق "حق تقرير المصير" على عدن ومحميات عدن ثم عندما قبلت به تحت وطأة الانتصارات المتتالية التي حققتها "الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل" فإن الجبهة القومية رفضته وقالت عن قرارات الأمم المتحدة بشأن الجنوب والمتضمنة منح شعبه حق تقرير المصير "إن هذه القرارات إنما تعبر عن تعاطف مشكور من قبل الأمم المتحدة مع نضال شعب الجنوب، ولكنها لا تعبر بأية حال إلا عن جزء بسيط من مطالب الشعب وأهدافه الأساسية التي يخوض معركته المسلحة من أجل تحقيقها، وأنها لم تعد تتناسب مع المرحلة الثورية التي وصلها نضال الشعب" (بيان للجبهة في 19 مايو 1965).

وفي بيان لاحق (في 10 أغسطس 1965) قالت الجبهة عن القرارات المذكورة للأمم المتحدة "أنها بنظر الجبهة محاولة لأن تعود تلك القرارات التي لا تمثل مطالب الشعب الحقيقية, وتكتسب قيمتها التي فقدتها بعد أن تجاوزها نضال الشعب".

لقد رفضت الجبهة القومية "حق تقرير المصير" الذي كان في متناول يديها فهو ليس الأمل والمراد بل أنه يمكن أن يصير سلاحاً ذا حدين( ولن أفسر ذلك حتى لا أتهم من قبل البعض بأنني أحاول تثبيط همتهم في المطالبة بذلك الحق) لكن معظم الحراك الجنوبي ينشد ذلك الحق, وأنا وغيري لسنا أوصياء على الحراك لنحدد له خياراته ولكنني فقط استغرب أن يطالب الكثيرون بذلك الحق دون أية دراسة موضوعية تبين إيجابياته وسلبياته في ضوء الظروف السياسية القائمة إقليميا وعالمياً وحتى على مستوى الجنوب نفسه بل حتى على مستوى الحراك نفسه الذي يتسم نشاطه بالعفوية وعلى الرغم من نشأته منذ نحو ثلاثة أعوام إلا أنه لم ينشأ تنظيم سياسي أو منظمة سياسية ذات شأن لتقود ذلك الحراك وفق دليل نظري يبين المنطلقات والمبادئ والغايات والوسائل التي ستتبع لبلوغ الغايات.

ومن الواضح أن الحراك الجنوبي لم يستلهم العبر من تجارب حركات التحرير الوطني في العالم أو من تجارب الحركات الانفصالية التي شهدها العالم في الخمسون عاماً الفائتة, وكيف سيستلهمها من تلك الحركات وهو لم يستلهمها من تجربة البوليساريو؟ بل لم يستلهمها حتى من تاريخنا الوطني في جنوب اليمن!

من الواضح أن أحداً في الحراك المطالب بحق تقرير المصير لم يبحث في تاريخ نشوء وتطور وتفعيل ذلك الحق وما تمخض عنه من نجاحات وإخفاقات في ظل إقراره من قبل الأمم المتحدة سواء كمبدأ عام (قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1514 الصادر في 14 ديسمبر 1960) أو كقرارات لحالات فردية (وهي عديدة).

وما أود أن أخلص إليه هو أنه ليس سليماً أن يكرس الكثيرون حركتهم للمطالبة بحق تقرير المصير ويرونه بدون أية دراسة الحل الوحيد أو الحل الأمثل لمشكلات الجنوب! فهذا الحق صعب المنال (وما نيل المطالب بالتمني) والأصعب هو تنفيذه والأخطر هو أنه يمكن أن يصير سلاحاً ذا حدين, وكان بإمكان الحراك - ولا يزال بمقدوره - أن يحقق للجنوبيين أشياء إيجابية لكنه لا يزال يهدر الفرص السانحة, ولابد أن هناك في الحراك من يود أن يسألني حول تلك الأشياء الإيجابية, فأقول له بأنني ربما أوضح في وقت آخر فالأجواء الآن غير مشجعة وهناك من نشر عبر الصحافة أفكاراً واقعية ومفيدة لكن طلع له بعض الحراكيين وهبوا فيه وشتموه وأتهموه بالعمالة للسلطة وأنها دفعته لنشر تلك الأفكار لتشتيت وعرقلة الحراك! مع أنها مجرد أفكار لا أحد مجبر على الأخذ بها.

وبإذن الله سأختم مقالي هذا بالحلقة القادمة رقم7.