تجار القلم في السوق السوداء
بقلم/ علي الكاش
نشر منذ: 15 سنة و 5 أشهر و 15 يوماً
الجمعة 12 يونيو-حزيران 2009 07:11 م

 ما يزال واقع الصحافة في العراق المحتل يثير الكثير من الجدل ويحفز الذاكرة على المزيد من التساؤلات، وهي كما تبدو للعيان تساؤلات مشروعة لكنها موجعة تصل الى مستوى الفضائح والصفائح. الحديث عن حرية الصحافة هو صفحة من كتاب الحريات الأساسية وفقرة من فصل حرية التعبير في المواثيق الدولية ودساتير معظم الأمم. وإذا أعرنا الواقع بعض اهتمامنا وإنتباهنا فأن الديمقراطية بمفهومها العام والبديهي تؤمن وتحفظ كتاب الحريات الأساسية من الخدش, وهي بحاجة ماسة الى جلد قانوني يؤمن لها البقاء والإستمرار والأمان من تلويث أصابع السلطة التنفيذية عندما تستحوذ على كتاب الحريات وتورقه بطريقة مبتذلة أو تكسر أوراقه أو تمزق بعض صفحاته فتشوه شكله وتبعثر محتوياته فيفقد قيمته.

السلطة الرابعة لا تسطيع ان تحارب في الميدان مالم تكن تلبس الدرع الذي يقيها سهام السلطة الثالثة سيما سهام الغدر، هذا الترس هو الذي يضمن حياة وسلامة الصحفيين ويؤمن المحافظة على مصادر معلوماتهم بل يطالب السلطة التنفيذية بمتابعة وتقصي الحقائق التي توردها المصادر الصحفية لغرض تصحيح المسارات الخاطئة سواء السياسية أو الإقتصادية والعسكرية والثقافية والإجتماعية وهي نفس الميادين الني تعني بها الحكومة والصحافة على حد سواء.

 أشد المخاطر التي تهدد الصحافة هي بوليسية الدولة عندما تتعامل الحكومة وخاصة أجهزتها الأمنية بمنطق العنف وتمسك الكرباج منتهجة ذرى أعلى من الضراوة في تعاملها مع الصحافة والإعلام فتقيد أقدامه بسلاسل الترهيب والتهديد والوعيد أوتسبر أفواه الصحفيين والإعلاميين بخرقة الدعم المادي والمعنوي فيصمتوا عن قول الحقيقة وينحرفوا عن الإتجاهات الرصينة ويتحولوا الى حفنة من المتزلفين والمزمرين في اوركسترا الحكومة ملتزمين بشعاراتها الطنانة وهتافاتها الرنانة سواء كانت حقا أو باطلا. لذلك يمكن الجزم بأن الأمم إنما ترتقي بمستوى إرتقاء الإعلام والصحافة فيها والعكس بالعكس, وهي ليست" مكب للنفايات" كما وصف المالكي، بل هي علامة مضيئة على طريق مشوارها الحضاري وتقدمها.! لذلك نرى الدول المتقدمة بلغت فيها الصحافة شأورا راقيا في حين تعاني دول العالم الثاث من تدني مستوياتها وهذا يعني ضياع صوت العقل وخفوت نداء الحق وإنحسار موجات العدل وإنهيار الثقة وعرقلة الرأي الأخر ورجم النقد بحجر الصمت.

 منذ الغزو الغاشم للعراق رفع بهلوانات الإحتلال شعار الحريات الاساسية وحماية حقوق الإنسان ونشرالقييم الديمقرطية بين صفوف الشعب العراق, وقد تضمن الدستور الفليدماني ما يشير الى هذه الشعارات السرابية، فحرية التعبير والتجمعات والتظاهرات والحريات الصحفية كفلها القانون لكن بنفس الوقت إكتنفها لغزا غريبا وهو أن لا تخالف الآداب العامة! وترك مفوم الآداب العامة سائبا لتفسره السلطة التنفيذية حسبما وكيفما تريد، ويبدو ان هذا للغز لم يكن عابرا وإنما مقصودا ومبيتا يمكن للدولة أن تسثمره في التجاوز على الحقوق والحريات الصحفية وإنتهاكها بشكل قانوني كفله الدستور وفق اللغز المشار اليه. لذلك يشهد الميدان الإعلامي والصحفي إنتهاكات فاضحة تكاد تكون يومية ضد العاملين فيها.

 المسئولون في العراق الجديد ليس لهم طاقة تحمل وصبر على ما تجيش به أقلام وأفواه رجال الإعلام والصحافة بالرغم ان الأخيرين صابرين على الفساد المالي والإداري والأخلاقي والأخطاء القاتلة التي ترتكبها الحكومة ضد الشعب وقمع حرياته الاساسية, فربما صفحات أو أسطر من شأنها أن ثير حفيظة المسئولين وتجعلهم أشد وحشية من ذئاب ليل تتضور جوعا, فهم يطالبون الشعب بالصبر لكنهم في الوقت نفسه لا طاقة لهم للصبر على حرية تعبيره. ومن المعرف إن الفساد الحكومي هو من أولى إهتمامات الإعلام وله الأسبقية عن باقي المواضيع, ولأن السلطة الرابعة تتولى مهمة الرقابة والفحص والتمحيص لإداء السلطة التنفيذية وحتى التشريعية والقضائية فهذا يجعلها في تقاطع مستمر مع حدود هذه السلطات سيما أن إنحرفت عن طريقها, مع إستثناء الراقصون على خشبة المسرح الرسمي والمستمتعون بأغانيها الناشزة. ففساد هؤلاء الاعلاميين والصحفيين لا يقل عن فساد الحكومة.

 تحاول الحكومات أن تمسك الصحافة من عنقها بقبضة حديدية وتمتص بشراهة ما في داخلها حتى تفرغها من محتواها, أو تحاول أن تستفرد بها أو بالحق في إمتلاكها أو على الأقل أن تتجنب إثارتها. فالصحافة تكون أشبه بالأسد في الدول المتقدمة، وأشبه بالثعلب في الدول الأقل تطورا، وكالقرد في الدول المتخلفة، ولكنها كالجرذ في الدول المحتلة. والجبنة التي يقدمها المحتل لإنصاره وعملائه تستمر بإستمرار تواجده، لكنه لا يطعمها إلا للجرذان الداخلة طوعا في قفصه.

 لذلك فكل من يتحدث عن حرية إعلام وصحافة في ظل الإحتلال فأنه يرمي الى تشويه الحقائق كمن يدعي ان الشمس تشرق ليلا والقمر صباحا فيعتبره البعض معتوها! وهذا ما يتجلى بوضوح في إدعاء نقيب الصحفيين العراقيين مؤيد اللامي بقوله " نعمل بحرية وبمساحة كافية جدا ونكتب ما نراه دون رقيب"- ربما يقصد نفسه وفريقه القابعين في حظيرة الإحتلال أو الحكومة التي نصبها- فوظيفة اللامي وأعوانه هي طلي جدار الحكومة بفرشاة المديح والتملق لأخفاء العيوب والثقوب فيه. وسنتوقف عند بعض المحطات لإستعرض مسيرة الأعلام العراقي والمساحة الكافية من الحرية التي يتحدث عنها اللامي! ونحدد موقف الصحافة والإعلام تجاه الإحتلال والفساد الحكومي لمعرفة حقيقة تلك التوجهات. ونود أن نشير بهذ الصدد الى أن نقابة الصحفيين العراقيين والإعلام العراقي المسير وفق أجندة الإحتلال لا يستخدام مفردة( إحتلال) بل يرفضها رفضا باتا. وبنفس القوة يرفض استخدام كلمة (مقاومة) فبالرغم من كل العمليات الجهادية الباسلة والجرئية ضد قوات الإحتلال الغاشم وبطانة العملاء والمرتزقة. لا يعترف اللامي ونقابته بوجود مقاومة وطنية! وكأن الخسائر اليومية في المرتزقة والأجهزة والمعدات التي تتكبدها القوات الأمريكية تتم على أيدي أشباح وليس على أيدي المجاهدين الأبطال! فهل هناك مصيبة أشد من ذلك؟

 الكثير يعرف ما يجري وراء الأبواب لكن الصحفي هو الذي يجرؤ على اقتحامها بطريقة ذكية وخفة ويفاجأ بدخوله وجرأته من هم داخل الحدث، وينقل ما يحدث لمن هم خارجه الحقيقة الكاملة وكلما كان صادقا في نقلها كلما حظي بإحترامهم وتقديرهم لجهوده, فالحقيقة كالعطر لا يمكن اخفائه. لذلك وصفت الصحافة بـ( مهنة المتاعب). ولم يأت هذا الوصف إعتباطا وإنما من دراسة وتحليل عميقين. وما يميز هذه المهنة الشاقة طبيعة رأسمالها الذي يكمن في روح المغامرة والمخاطرة. وريعها الحقيقة والشهرة. لذلك فالأعلامي والصحفي الملتزم لا ينخدع في التغييرات الظاهرية التي تطوف على السطح كالشوائب، وإنما ينفذ بقوة الى الأعماق ويتحمل ضغوطها ومشاقها كي يتمكن من تحليل ماهية وطبيعة وأساسيات تلك التغييرات ويحدد بالتالي موقفة منها على ضوء النتائج التي يتوصل اليها، فيقتنع بها ثم يؤمن ويتمسك بها وأخيرا يدافع عنها بها ضد التيارات المعاكسة ويوصلها الى مرفا الشعب بأمانة ودقة، وأحيانا قد تكون الهوة بين السطح والاعماق واسعة جدا بما لا تسمح بالتسرع في الحكم وإتخاذ القرار فيتطلب عند ذلك الصبر والتروي خدمة للحقيقة وشرف المهنة. وهنا تصح القاعدة ( إنفذ الى اعماق محيطك وتمعن بقوة مدى صلابة قاعدة التماسك الاجتماعي والثقافي والسياسي والإقتصادي، من ثم وظف قدرتك لمواجهة التحديات والانكسارات ونصرة الحق والحقيقة).

 عند تقيم الصحافة والإعلام في زمن ديمقراطية العم سام وتحالف زمرة اللئام لا بد من توريق الصفحات السياسية والإقتصادية والثقافية والإجماعية قبل الغزو وبعده، وتدقيق كل واردة وشاردة فيها، وبعدها نعرج الى الفصل الأول من الغزو وننتهي بالفصل الحالي بتروي وإمعان رصينين وتجرد وإلتزام مهني يجسد الكلمة الصادقة، كي يكون تقييمنا عادل ومنصف بعيد عن متاهات الإنحراف والتحييز, ولا بد أن نرجع الى النصوص النظرية في تقديرنا لحجم التغييرات بكل إيجابياتها وسلبياتها, ولكن في الوقت نفسه لا بد ان نركز على الاستشهادات العملية والواقعية التي تحدث خارج تلك النصوص حتى تتكامل نظرتنا وتصدق رؤيتنا ويصح تحليلنا. ولكن قبل هذا وتلك لا بد أن يكون الإلتزام الوطني هو المحك الرئيسي للعمل الإعلامي والصحفي وهذا يعني نزع جلباب الإلتزامات الحزبية والطائفية والقومية والمصلحية, ووضع قلنسوة الرياء والزلف والتملق جانبا ليبدأ المشوار الصعب.

 عندما نتحدث عن الصحافة والإعلام في العراق لا يمكن أن نتجاهل خارطة الأرقام والإحصائيات سواء كانت الصادرة من الجهات المحلية أو الدولية كذلك التي تصدرها منظمات حكومية وغير حكومية وإتحادات ومراكز بحثية, بإعتبارها المرآة العاكسة لحقيقة الأوضاع. فبعد الغزو أصبح العراق يحتل موقعا موجعا في الترتيب العالمي لحرية الصحافة وهي المرتبة(158) من بين(193) دولة في العالم بمعنى أنه يعتبر واحد من أخطر الأماكن في العالم للعمل الصحفي، وهو ما أكدته (منظمة مراسلون بلا حدود) في تقريرها لعام 2008 "يعيش هؤلاء الصحافيون في المهجر بمأمن إثر نجاتهم من الجحيم العراقي لا سيما أن هذه الدولة تعدّ الأكثر دموية في العالم" وبلغ عدد الصحفيين الذين لقوا مصرهم في العراق (259) منذ الإجتياح الأمريكي لغاية عام 2008 طبقا لإحصائيات مرصد الحريات الصحفية في العراق، ويضيف التقرير" هرب معظم الصحفيون الى سوريا والأردن وأوربا بعد نجاتهم من محاولات إغتيال أو تعرضهم للتهديد"على أيدى الأجهزة الحكومية والإيرانية والميليشيات الطائفية والعصابات الإجرامية! كما أشارت (منظمة مراسلون بلا حدود) الى أن الصحفيين كانوا" ضحية الميليشيات السنية والشيعية وتنظيم القاعدة، ولكن أيضاً السلطات،ولا سيما الشرطة، وقوات التحالف بقيادة الأمريكيين". وتتفق لجنة حماية الصحفيين التي تتخذ من نيويورك مقرا لها مع هذه المعلومات فقد جاء في تقرير لها نشر في الأمم المتحدة بأن " العراق أصبح أخطر بلد في العالم بالنسبة للصحافة بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003". 

وفي الوقت الذي أدعى مرصد الحريات الصحفية بتعرض حوالي (20) صحفيا الى الإختطاف" فإن منظمة مراسلون بلا حدود إستسخفت هذا الرقم وتؤكد حدوث(87) عملية إختطاف جرت منذ الغزو ولا يزال" هناك 15 معاوناً إعلامياً، من بينهم بريطاني، محتجزين كرهائن في العراق فيما لا يزال الصحافي الفرنسي من المحطة البريطانية ITN  فريد نيراك في عداد المفقودين". وهو ما يؤكد صحة تقديراتها. كما أشارت الجمعية العراقية للدفاع عن حقوق الصحفيين بأنه خلال عام 2007 فقط تم إختطاف(10) صحفيين, في حين قتل في نفس العام (54) صحفيا ( أعلى إحصائية قتل في العالم للصحفيين) وتضيف إن" جميع الجرائم سجلت ضد مجهول, ولم يجر تحقيق فيها وسمح لقتلة الصحفيين بالإفلات من العقاب"!!!

 كما أشارت لجنة حماية الصحفيين في تقرير لها بوجود"(79) قضية اغتيال للصحفيين في العراق لم يكشف من ورائها، منها إغتيال نقيب الصحفيين شهاب التميمي في شباط عام 2007". رغم ان هناك روايات تحدثت بأن الاغتيال جاء كتصفية حسابات داخل النقابة لإستبدال النقيب شهاب التميمي بالنقيب الحالي؟ ولمعرفة حجم تراجيديا الصحافة في العراق نجد إن الدول التي جاءت بعده في المرتبة الثانية وهي سيراليون التي عاشت حرب أهلية مدمرة لمدة(11) عاما، لم يتجاوز فيها عدد القتلى من الصحفيين سوى(9) فقط تم إغتيالهم وتمكنت السلطات المحلية من القبض على المجرمين والمتورطين فيها تلك. والصومال التي شهدت حربا مدمرة وإضطرابات لمدة(11) عاما وحظيت بالمرتبة الثالثة. وكان عدد الصحفيين الذين أغتيلوا فيها (5) فقط. مع الأخذ بنظر الإعتبار ان مدة الحروب في هاتين الدولتين تزيد عن غزو العراق(من 2003 – 2009) بمقدار الضعف وعدد قتلى الصحافة يعتبر هامشي أزاء الحصيلة في العراق، مع إن الأسباب كما يبدو متشابهة، فقد أنحت (شيلا كورونيل) الناشطة في مجال حقوق الإنسان خلال مؤتمر صحفي عقد في الأمم المتحدة باللائمة على " ضعف سيادة القانون وضعف النظام القضائي".

ومن الملاحظ ان الوضع الإعلامي بشكل عام يرتبط إرتباطا عضويا بالأوضاع السياسية فكلما كانت الاخيرة سيئة كلما إنعكس ذلك سلبيا على الوضع الإعلامي والعكس صحيح. وطالما إن الإحتلال يعد من أسوأ الظروف السياسية لذلك فأن الإعلام المحلي سيتأثر بوجوده، وسيتفرع التأثير والتأثر لرافدين أولهما: الإعلام الموجه لخدمة أجندة الإحتلال وهو الذي يتمثل بالواقع الصحفي الرسمي الحالي في العراق حيث تتظافر جهود إدارة الاحتلال مع الحكومة التي نصبها لتلميع صورته. ثانيهما: الأعلام المعارض والذي يحارب الأحتلال بكل ما أوتي من قوة ورباط جأش سواء كان يحارب في الجبهة الداخلية أو الخارجية. وهناك إعلام محايد لكن يكاد أن لا يشكل قيمة وهو عادة ما يكون عرضة لتأثير الرافدين الأساسيين فينتهي بأن يصب في احدهما. وغالبا ما يكون القلم أمضى سلاحا من البندقية لذلك يحاول المحتل أن يشتري ذمم رجال الصحافة والأعلام المحليين. وقد اعترفت الإدارة الأمريكية بأنها أنفقت مليارات الدولارات لجعل إحداثيات الأعلام العراقي ضمن مجالها المغنطيسي، وقد نجحت في ذلك نجاحا منظورا لا يمكن إنكاره. لكن مع هذا فأن الأعلام العراقي المعارض رغم انه لا يمتلك 1% من إمكانات المحتل المادية والمالية والتقنية. وهو يحارب من قبل دولتين رئيسيتين (الولايات المتحدة الأمريكية و إيران) مدعوما بكل أجهزتها الأستخبارية، ويعاضدهما الكيان الصهيوني بشكل متستر، علاوة على دول أخرى منظورة ومتسترة. كما إن حكومة الأحتلال تفتح على الاعلام المعارض جبهة واسعة وضارية إستخدمت فيها كل الأسلحة المحظورة من إغتيال وخطف وإعتقال وتهجير. لكنه مع كل هذه التحديات بقي صامدا ومنيعا مسببا لجميع تلك الأطراف المعادية صداعا مبرحا. فقد فشلت لغة الإغراء والتهديد التي مورست ضده، كما فشلت كل محاولات إختراقه أو تحييده، يوم بعد يوم يكبر ويتصلب ويندفع الى الأمام بقوة مثل كرة جليد تتدحرج من جبل شاهق لا أحد يمكن أن يوقفها أو يعترضها.

في آخر حديث لرئيس حكومة الأحتلال نوري المالكي أدلى به متزامنا مع عقد مؤتمرالإتحادات والنقابات الصحافية العالمية في بغداد أشار الى أن"العراق يكاد يكون أفضل دول المنطقة في مجال حرية الاعلام والعمل السياسي!" وطبعا لم يقصد المالكي أن يروح على نفوس الحاضرين بنكتة حيث لم يعرف عنه ذلك، بل نطق بها كحقيقة، وربما كان يسخر في سريرته والله أعلم ما في النفوس! في الضفة الأخرى كان رأي الأمين العام للإتحاد الدولي للصحفيين( أيدن وايت) بأن الهدف من المؤتمر هو الدعم والتضامن مع الصحفيين العراقيين" الذين يطالبون بظروف عمل لائقة وإنهاء الضغوطات التي تمارس عليهم في مجال الإعلام" أي إنه نسف مقولة المالكي من أساسها. فظروف العمل غير اللائقة مع وجود ضغوطات على الأعلام لا تتناسب إطلاقا مع الحية التي يدعيها المالكي. وهي تدل على حالتين: أما أن المالكي كان نائما كنوم أهل الكهف ولا يعرف حقيقة الوضع الإعلامي والصحفي في العراق، ولم يطلعه العباقرة من مستشاريه على الإحصائيات الدولية بشأن وضع الصحفيين. أو أنه يستغفل المؤتمرين ويضحك عليهم. وكلاهما أمر من الآخر! لكن من الطريف ان يتزامن تصريح المالكي مع أحداث تتناقض كليا مع حرية الصحافة التي ذكرها وسوف نعرج لاحقا على موضوع الحريات السياسية في مقال مستقل. سنذكر من الحوادث أربع على سبيل المثال وليس الحصر:-

 ألاول : ما ورد في تقريرمنظمة السلام العالمي الأخير بأن" العراق ما يزال يمثل أكثر دول العالم خطورة بسبب الأوضاع السياسية التي تعيشها البلاد ومخاطر العنف والأرهاب وإنتهاكات حقوق الإنسان" وهذه هي المرة الثالثة الذي تنال فيها حكومة المالكي منزلة الشرف العظيم. أما المرتبة التي حققتها حكومة المالكي حسب تقرير المنظمة فهو(144)! ولسخرية الأقدار فأن الدراسة شملت (144) دولة فقط أي لا يوجد منافس! علما إن المنظمة تستخدم(23) معيارا للحكم على الدول تتضمن المجالات السياسية والإقتصادية والثقافية والإجتماعية لتحدد مرتبتها بما يبعد عنها التحييز. لربما كانت زلة لسان للمالكي ( Slip of tongue ) فإسخدم كلمة( أفضل) وكان يقصد بها( اردأ) لكي تتناسب وحقيقة الواقع الإعلامي والصحفي في العراق، وكذلك تتناسب مع التقارير التي نشرتها المنظمات الدولية بما فيها الأمريكية.

الثاني : إن مستشاري المالكي( من خريجي إكاديمية جحا لفنون الحمق والغباء) نصحوه بإقامة دعوى قضائية ضد موقع كتابات الألكتروني وشملت الدعوى صاحب الموقع السيد أياد الزاملي وتناست الدعوى مقاضاة صاحب المقالة التي أثارت المالكي وملئت قلبه قيحا. علما أن الموقع وضع عبارة تخلي مسئوليته عما ينشره الكتاب فهم يتحملون مسئولية ما يكتبون وهي صيغة متداولة في معظم المواقع الألكترونية. وفي إلتفاتة أبوية آية الحنان والشفافية طالب المالكي بتعويض قدره(مليار) دينار عراقي فقط! قابل للتمدد حسب حرارة الجو الثقافي على إعتبار إن العراق مقبل على صيف قارض. وبعد مسرحية كوميدية تقاسم بطولتها الفنان عبد الرحيم جهيم (محامي المالكي) وزميله مؤيد اللامي (نقيب الصحفيين العراقيين) سحب المالكي دعواه القضائية برسالة بطنها تهديدات ملغومة للموقع. وقبل أن تسدل ستائر المسرح،عبرت نقابة اللامي" عن شكرها وتقديرها لهذا القرار الشجاع الذي ينطلق من تفهم السيد رئيس الوزراء لدور الصحافة ودعمه للصحفيين العراقيين وتقديره لتضحياتهم واحترامه للرأي والرأي الاخر"! ويبدو أن هذه المسرحية ستكرر في الأيام القادمة بتنسيق بين المالكي والتميمي وفق قاعدة " شيلني وأشيلك".

الثالث: كان مع (بريطانيا) أحدى أذرع الشيطان الأكبر، فقد إستطاب المالكي مذاق الدعاوى القضائية سيما انه لم يعقد منذ تولي منصبه كرئيس للوزراء أية جلسه مع وزرائه فكل يشتغل من وحي مصلحته ومصلحة أسياده. وربما شعر بضرورة تعويض المبالغ الخيالية الي أنفقها إبنه الذي أشترى فندق خمس نجوم في دمشق بملايين الدولارات. فرفع دعوى أخرى على صحيفة الغارديان البريطانية وصفتها (منظمة مراسلون بلا حدود) بأنها " دعوة قضائية عبثية" ويبدو أن بريطانيا لم تصبر طويلا على هذه الحركة البهلوانية للمالكي فردت الصاع له بصاعين وبسرعة صاروخية. فقد طالبته بإطلاق سراح مواطنها وزير التجارة عبد الفلاح السوداني المعتقل لدى الحكومة كما يشاع بسبب اختلاسات تقدر بمليارات الدولارات وخلال 24 ساعة مع تحذير صفيق " وإلا فإن قوة عسكرية بريطانية تساندها قوات الامريكية سوف تقتحم المكان الذي يحتجز فيه السوداني وتقوم باطلاق سراحه اذا مارفضت الجهات العراقية ذلك، بإعتباره مواطنا بريطانيا يحمل الجنسية البريطانية وجواز السفر البريطاني. وأشار البيان اللعين إلى ان الأوامر صدرت الى القوات البريطانية لتنفيذ العملية ضمن الوقت المحدد".

ويبدو ان الماكي لا يعرف الفروق بين صحيفة ورقية وصحيفة الكترونية أو بين صحفي بريطاني له حصانة قانونية وآخر عراقي لا احد يحميه، فقد طالب أيضا بتعويض قدره مليون دولار بما يعادل مليار دينار عراقي لأن الصحيفة أطلقت عليه صفة " متسلط" فقط!

الرابع : تحقق المثل القائل" حبل الكذب قصير" فقد أسشهد أثنان من رجال الأعلام والصحافة وجرح آخر بعد تصريح المالكي بيومين فقط، حيث أغتيل الشاعر خالد عبد الرضا السعدي، كما أسشهد الأعلامي علاء عبد الوهاب وجرح زميل له. وبذلك إنضم أثنان من رجال الأعلام الى قافلة شهداء الكلمة والرأي، ليكون مجموع شهداء مقبرة الصحافة في العراق الديمقراطي(261) إعلاميا مع أضعاف هذا العدد من الجرحى وعدد آخر من المختطفين! ونعتقد أن هذا الأحداث هي الرد الشافي على تصريح المالكي. وكلمة أخيرة للمالكي إن سمحت لهذه الترهات بأن تتغلغل في عقلك فإننا نعترضها ولا نسمح لها بالتغلغل.

للموضوع تابع بعون الله.