بين الانفجار العظيم والشجار السقيم!
بقلم/ دكتور/فيصل القاسم
نشر منذ: 16 سنة و شهرين و 26 يوماً
الثلاثاء 30 سبتمبر-أيلول 2008 05:08 م

لا يسع المرء وهو يقارن أحوال الأوربيين بأحوال العرب هذه الأيام إلا أن ينفجر ضاحكاً، أو ربما باكياً، وهو الأنسب، على تلك الهوة السحيقة التي تفصل بين اهتمامات الجانبين ومشاغلهم. ففي الوقت الذي ينهمك فيه أكثر من ثمانية آلاف عالم غربي في تجربة علمية تاريخية بامتياز كلفت مليارات الدولارات للتعرف على كيفية نشوء الكون وبدء الخليقة، وما إذا كان قد نتج عما يسمى بـ"الانفجار العظيم"، نرى أن العرب لا هم لهم هذه الأيام سوى المشاحنات المذهبية والطائفية والقبلية السقيمة التي مضى على اجترارها مئات السنين.

الأوربيون يغوصون في أعماق التاريخ ليعيدوا اكتشاف قصة الخلق قبل ملايين الأعوام، ونحن نتغلغل في الماضي لنعيد اكتشاف صراعاتنا الموغلة في القدم، ونعيد تمثيلها في القرن الحادي والعشرين بعبثية عز نظيرها. العالم يتصارع على المستقبل، ونحن نتصارع على ثاراتنا القديمة. الجميع يعيش في الحاضر، ويرنو إلى قادم الأيام، ونحن نخوض معارك دونكوشوتية عمر أقرب واحده منها أكثر من ألف عام.

قبل فترة ثارت ثائرة بعض القبائل على مسلسل درامي، وأقاموا الدنيا ولم يقعدوها، لا بل ضغطوا على بعض الحكام العرب للتدخل لوقف عرض ذلك المسلسل المسمى "سعدون العواجي". وفعلاً استجاب بعض القادة، وضغطوا على بعض الفضائيات، فطار المسلسل المسكين من على الشاشات العربية. فليذهب الفن في ستين ألف داهية! كيف يتجرأ على إلقاء بعض الضوء على إحدى قصص التاريخ ونزاعاته القبلية؟ أليست قبائلنا العربية غاية في القداسة، والويل كل الويل لمن يحاول أن يمسها ولو درامياً؟ يا إلهي العالم يتطور، ويحقق أكبر الإنجازات العلمية والتكنولوجية العظيمة، ونحن نتشاحن حول خلافات قبلية مضى عليه عدة قرون، ونخشى من مجرد أن يتعرف عليها الناس بعد مرور مئات السنين على حدوثها. طبعاً لا نلوم المنتفضين على المسلسل "اللعين" والمطالبين برأسه، فما زلنا نعيش سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وحتى ثقافياً بعقلية السيف والمنسف والربابة، شعوباً وحكاماً ومثقفين.

وحدث ولا حرج عن المعارك المذهبية والطائفية الطاحنة التي أصبحت شعار المرحلة منذ أن غزا الأمريكان بلاد العربان. لا يمكن أبداً القول إن أمريكا خسرت معاركها معنا لا في العراق ولا في لبنان ولا في فلسطين ولا في أفغانستان. لقد انتصرت علينا انتصاراً ساحقاً، مع العلم أنها تحاربنا على أراضينا. كيف لا وهي تزرع بيننا العداوة والبغضاء والشقاق بمجرد أن تثير قضية مذهبية أو طائفية مضى عليها مئات السنين. ونحن نبتلع الطعم، ونتصرف كالثيران الهائجة، كما لو أننا حققنا كل طموحاتنا، ولم يبق أمامنا سوى التسلي بإحياء حروب داحس والغبراء مذهبياً وطائفياً وعشائرياً، مع العلم أن أكثر من خمسين بالمائة منا لا يعرفون القراءة والكتابة. ليست شعوبنا بحاجة إلا لإيماءة يتيمة حتى تسن السيوف، وترفع الرماح، ويتنادى القوم إلى ساحات الوغى بأشكالها كافة لنبش قبور الأولين. ما أشطرنا في القفز إلى غياهب التاريخ وأعماق الماضي فوراً والاصطفاف إلى جانب فرق متخاصمة موغلة في القدم والزمان. يصيح أحد الكتاب بحرقة مفهومة. "طبعاً، وسط الحماس وقعقعة سيوف التلاسن المذهبي يغيب عن عقول المتحاربين أن من يشاركهم إشعال النار في منتديات الانترنت قد يأتي من تل أبيب"، أو من أي جهة خارجية تتسلى بصراعاتنا ونزاعاتنا القروسطية، وتستغلها في شرذمتنا وتفريقنا خدمة لمصالحها.

إن المصائب التي تواجهنا، يا جماعة الخير، أكبر من أن يتم الانشغال عنها باهتمامات انصرافية، وأمور تعمق أزماتنا، وتخلق في وسطنا انشقاقات جديدة نحن في غنى عنها. كم كان الدكتور عبد الوهاب الأفندي محقاً عندما شبه صراعاتنا المذهبية والطائفية والعشائرية التي تحاصرنا من كل حدب وصوب بالخلافات العبثية التي كانت تدور بين الركاب المنكوبين على متن سفينة "التايتانك" الشهيرة وهي تغرق في عرض البحر.

"هناك مثل إنجليزي مشهور يقول عمن يشتغل بأمور انصرافية في وقت الشدائد: هذا كمن يرتب المقاعد على ظهر التايتانك . و التايتانك التي اشتهرت مؤخراً بالفيلم الذي صور كارثتها هي بالطبع تلك السفينة الضخمة التي غرقت في مطلع القرن الماضي بعد اصطدامها بجبل جليدي وهي في طريقها من بريطانيا إلي أمريكا، وكان علي متنها قرابة ألف شخص لمن ينج منهم إلا القليل. وما نراه اليوم من صراع واستهداف طائفي ومذهبي هو أسوأ، لأنه تنازع على مقاعد السفينة الغارقة. فأي فائدة من غنائم كهذه؟"

هل كنا سنتقاتل على الماضي لو كان حاضرنا مزدهراً؟ بالطبع لا. إننا مثل التاجر الخاسر الذي لا يجد أمامه سوى العودة إلى دفاتره القديمة!!