بمساعدة الحوثي نفسه، لماذا قد ينجح المشترك في الحوول دون انفجار الوضع
بقلم/ محمد العلائي
نشر منذ: 15 سنة و 9 أشهر و 4 أيام
الأربعاء 11 مارس - آذار 2009 03:50 م

إنني كثيرا ما أفكر بأن وجود "صعدة"، وكلمة "الحرب" في جملة واحدة، هو أسوء ما قد تقع عليه عيناي. في الحديث عن حرب صعدة، يحضرني ذلك الوجه الممتقع والشاحب، لعسكري قلق في جولة الجمنة على خط المطار، بيديه المرتعشتين ودرع الرصاص المعلق كيفما اتفق، حينما هم بإطلاق النار على التاكسي، الذي كان يقلني من الصحيفة، في ساعة متأخرة من المساءات الموحشة لصيف 2008، يونيو على ما أظن، حيث كانت المدافع تزمجر على مرمى حجر من العاصمة: بني حشيش.

كان السائق فتى بدا لي وكأنه في الـ16 من عمره، وهو من أرحب على ما أتذكر. كان يقود السيارة بأقصى سرعة، حينما غلبه النعاس على مقربة من نقطة التفتيش، فوصلها بسرعة توحي وكأننا في صدد مهاجمة النقطة. كنا نقترب باتجاهه، وكان العسكري يحملق مندهشا ويتراجع خطوة إلى الوراء. لقد ظلت بندقيته مصوبة ناحيتنا حتى غربنا عن وجهه. والراجح أنه، لحظتئذٍ، شم البارود والموت في أنفه.

بمشقة استطاع السائق وقف السيارة، لكن بعد أن تجاوز النقطة ببضعة أمتار. لحق بنا ذلك العسكري المتهالك بخطى حذرة، ومثلما يحدث في الأفلام، أمرنا بالترجل من السيارة، وإلقاء كل شيء على الأزفلت، وأن نرفع أيدينا، تماما على طريقة البوليس عند القبض على المجرمين. بالطبع عرضنا بطائقنا الشخصية، وهي عادة علي أن أتأهب لها عند كل جولة حرب. وإذ قدمنا اعتذارنا له بلباقة مصطنعة وبابتسامة رجال نجو من الموت للتو، فقد قال لنا بصوت يستجدي إظهار الامتنان: "يا الله، الحمد لله والله إنني كنت باطلق النار". أعترف أنني شعرت حينها بدنو الأجل، ولو قيل لي الآن أن ارسم صورة تقريبية للموت، لاتخذت من وجه ذلك الجندي الناحل النموذج الأمثل لما يمكن أن تكون عليه صورة الموت.

مثل هذه الذكريات المريرة هو ما يتبقى من الحروب عادة. لهذا عندما أعلن الرئيس علي عبدالله صالح انتهاء الحرب في يوليو 2008، تمنيت في قرارة نفسي ألا أجدني يوما مضطرا للكتابة عن صعدة في ذلك السياق المشؤوم، سياق النار والبارود ونقاط التفتيش.

لكن الأخبار الآتية من صعدة هذا الأسبوع تبعث على الضيق والاشمئزاز. وفي حين درجت العادة على أن وقوع حادثة أمنية مفاجئة في صعدة تحسب تلقائيا بمثابة بداية رمزية لحرب جديدة، فإن البداية الرمزية للحرب السادسة التي نخشى أن تكون شرارتها الاولى قد انطلقت، لم تكن واضحة كفاية لرؤيتها دون الرجوع الى التكهن والتحليل. فلا أحد يعرف ما إن كانت زيارة الرئيس لموسكو وعقد صفقة أسلحة هي الإشارة التي أحسن الحوثيون التقاطها، وبالتالي يمكن النظر لهذه الزيارة بوصفها الشرارة الأولى.

هناك احتمال آخر. وهو الاتفاق الذي ابرم أخيرا بين اللقاء المشترك والمؤتمر، وفيه ربما قرأ الحوثيون إشارة مفادها أن السنتين القادمتين سيكرسهما الرئيس لدحر مليشياتهم. على أن تصريحات الشيخ صالح هبرة للوسط شكلت الانطلاقة الرمزية للحملات الاعلامية.

وعلى أية حال، وأي تكن سوداوية الأخبار القادمة من تلك البؤرة الملتهبة، فإنه يجب ألا نسمح لأنفسنا أبدا بالنظر إلى احتمالية تجدد القتال في صعدة كحتمية وقدر لا محيد عنهما. لا بد أن هناك الكثير مما يتعين القيام به لتفادي وقوع الكارثة مرة أخرى. من بينها على سبيل المثال، توضيح الفروق الدقيقة بين كون السلطة سيئة، وأحيانا عدوانية، وغالبا ما تفتقر للكياسة والمسؤولية في تعاطيها مع الأزمات التي تعصف بها وبالبلد، وبين الكيفية المعقولة والذكية والقانونية أيضا، الأقل كلفة لمعارضتها.

لم تكن القوة يوما سبيلا لحسم صراع، أي صراع. ثمة ما يمكن عمله دائما بدلا عن الدم والدموع والأشلاء التي تصيب البلد برمته في مقتل. كما ينبغي على مناوئي حركة الحوثي التمييز بين حقيقة أنها راديكالية، إن صح التعبير، وأنها تحمل أفكارا متطرفة وعنيفة، وربما نوايا بغيضة كامنة، كما يعتقدون، ومؤجلة، وبين ضرورة البحث عن طريقة ملائمة وأكثر نجاعة، خارج أدوات العنف، لجعلها تتموضع سياسيا، ويتسنى لها رسم أهدافها وممارسة طقوسها ومعتقداتها ضمن أفق وطني وبأساليب سلمية تنشد التعايش والتساكن مع الآخر.

لا أظن أن الحوثي شرير لدرجة الاعتقاد بأن الحوار معه لن يجدي فتيلا. صحيح، لديه فائض عنف وهذا مفهوم بالنسبة إلى زعيم مليشيا مدججة بالسلاح، شأن أغلب القبائل اليمنية طبعا، خاضت 5 حروب على التوالي في ظرف 5 سنوات. رغم ذلك فإنه من الممكن جدا السعي الدؤوب لتصريف ذلك الفائض وتفريغه بروية وصبر في أوعية ديمقراطية سلمية.

إليكم البرهان على قابلية الحوثي للاسترخاء. قبل بضعة أشهر، وضعت أحزاب اللقاء المشترك حركة الحوثي، على لائحة القوى التي يجب التواصل معها ضمن برنامج التشاور الوطني، باعتبارهم أحد الحقائق السياسية والاجتماعية المنبعثة من رماد الحروب المتتالية. لقد كان، والحق يقال، تصرفا ذكيا، وينم عن حس وطني مسئول. ولدينا من الأسباب ما قد تجعل المرء ينظر بايجابية لتلك الخطوة الرمزية من قبل المشترك، والتي تفاعل معها الحوثي بشكل جيد، ولاسيما إعلانه التماهي الكامل في موقفه من الانتخابات مع موقف المشترك.

الأجواء ساخنة، وربما تنذر باندلاع حرب سادسة، أو تبدو كذلك، على الأقل حتى كتابة هذه السطور. وعليه، فإن ثمة مهمة وطنية سامية تنتظر لجنة التشاور الوطني. هذه المهمة هي ما يجدر إنجازه الآن قبل أي شيء آخر. بكلمات أوضح: يتوجب على هذه اللجنة، تكريس معظم أنشطتها في المحاولة، الجادة والمدروسة، لإغلاق هذا الملف اللعين. كأن تعلق مؤقتا أجندتها، من حلقات نقاش أو ما شابه، وتنهمك لوضع مقاربة مبتكرة للحل، بالتنسيق، أكثر ما تستطيع، مع عبدالملك الحوثي. يبدأ الأمر بإقناعه على الاستجابة الهادئة لاستفزازات الجيش وحضه على سد ذرائع المواجهة المسلحة قدر ما أمكن، والاعتماد بصورة أساسية على توضيح الحقائق أولا بأول، وتوجيه الغضب والعنف وجهته الحكيمة، بتنظيم الاحتجاجات السلمية مثلا. هذا المقترح البسيط يرتكز على افتراض صدق دعاوى الحوثي بأنه يقف فقط موقف المدافع عن النفس، وبهذا ستكون حقيقة أن نواياه بريئة موضع اختبار، وبمرأى من العالم.

لطالما اعتقدنا بأن ملف صعدة أكثر تعقيدا والتباسا مما يبدو عليه. وهذا لا ريب فيه. ولقد أثبتت الحروب الخمس السابقة، بما لا يدع مجالا للشك، أن الاقتصار على السياسات الأمنية الصرفة إنما الاعتباطية أيضا لسوء الحظ، في معالجة الوضع المتأزم هناك، لن يفعل سوى مفاقمة الصراع وتوسيع نطاقه الجغرافي والزمني، ناهيك عن إتلاف ما تبقى من نسيج اجتماعي مهترئ أصلا.

alalaiy@yahoo.com