أحيت المواقف الأخيرة لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان صورة الزعيم ، والبطل و القائد الاسطوري المرسومة في ذهنية المواطن العربي الذي عادةً ما يعيش في حالة شوق و ترقب وانتظار لقائد او زعيم يستطيع ان يصدح بمواقف ويأتي بأفعال تعبر عن رغبة الشعوب في نيل الكرامة و الوقوف بمواقف العزة والأباء .

تلك المواقف التي اختفت من حياة الناس وواقعهم ، فلم يعد بإمكان المواطن العربي مشاهدة ما يثلج صدره ويقر عينه من مواقف وافعال في مواجهة الصلف الصهيوني والاستكبار العالمي ، ويأتي ذلك في ظل وضع عربي بائس وقادة ما فتئوا يخيبون آمال الجماهير العريضة عن طريق مواقفهم المستلسمة والضعيفة والخانعة والتي كانت وما تزال تشكل دائماً صدمة وخيبة أمل للناس .

ولا يمكن انكار ما يتمتع به الرجل (رجب طيب اردوغان) من جاذبية شخصية وقوة وصلابة وكاريزمية لم تتوفر لكثير من الزعماء في الوقت الحاضر وكذلك الفترة القريبة التي سبقت ذلك ، ولم يعد خافياً أن قطاعاً واسعاً من الجمهور العربي بات يعول كثيراً على رئيس الوزراء "التركي" ولا يعول مطلقاً على الرؤساء والملوك والقادة "العرب" في حل مشاكل وقضايا تهم مجموع الأمة كقضية فلسطين .

كما أن تاريخ الرجل ورفاقه في حزب العدالة والتنمية وكذلك اقطاب الحركة الاسلامية السابقين مثل نجم الدين اربكان ، أجبر الكثيرين على احترام التجربة وتقدير الانجازات التي استطاعوا تحقيقها وسط نظام علماني صلب الاركان يسيطر على كل مفاصل البلاد .

ولكن .. اين تكمن المشكلة :

الإشكال لا يأتي من كون اردوغان أو غيره زعيم وقائد تاريخي من عدمه ، لكن يأتي دائما من طريقتنا في التعاطي مع قضايانا والاستسلام لحالة السلبية والوقوع ضحية ردود الأفعال ، وتوقعنا أن تأتي الحلول بظهور زعيم هنا أو قائد "بطل" هناك.

نسينا في غمرة فرحتنا بخطابات اردوغان ومواقفه التعرف على البيئة التي يعمل فيها الرجل وكذلك القواعد والامكانيات التي ينطلق منها، فهو أي اردوغان رئيس وزراء للدولة التركية القوية التي تحكمها المؤسسات وتتربع على موقع استراتيجي وبينة عملاقة واقتصاد يعد من بين أفضل عشرين اقتصاداً في العالم ، وكذلك شعب وامة حازت على قسط كبير من التعليم والثقافة ولديها معرفة بحقوقها و ملئت اسواق الجيران القريبين والبعيدين بالمنتجات التي خرجت من بين ثنايا ثقافة الانجاز والعمل التي ارستها مبادئ الحداثة والتطور واستفادت منها كافة اطياف الشعب التركي ونخبه بمن فيهم الاسلاميون.هناك تركيبة وبنية سمحت بظهور تلك المواقف أي أن هناك قائد ، مؤسسات ، عقد اجتماعي وقوانين ودستور، ثقافة انجاز وعمل ، شعب واعي ومثقف، اقتصاد قوي .. الخ.

كما أن علينا أن لا نقع في الخطأ ذاته والذي مازلنا نجتره منذ قرون عن طريق البحث عن الزعيم والمنقذ والمخلص والملهم والرجل الهمام الذي لا يشق له غبار ولا يدركه أحد .

هذا الفكر انتهى وولي ، وحل محله فكر دولة النظام والقانون والانضباط والعقد الاجتماعي، الذي يقل فيه دور الفرد ويزيد فيه دور الشعوب.

لابد للشعوب من أن تقوم باستعادة أدوارها .. وأن تفيق من الغفوة التي تعيش فيها منذ مدة طويلة ..
وان تكف عن عادة البحث عن زعامات فالزعامات تذهب ولكن يبقي ما قدمته الشعوب على الصعيد الانساني من تراث ونظام وآليات تضبط وتنظم ايقاع حياتها.

كل الشعوب وضعت قطارها على سكة التقدم .. وتبقت هذه الأمة خارج السكة وخارج الركب .. ومن اسباب ذلك التأخر أنها لا زالت تعيش حالة الانتظار تلك للزعيم الاوحد والملهم و المتيم صاحب الراي الحكيم والقول السديد ...والذي لن يأتي أبداً ولا انكر هنا دور القيادة وما يمكن ان تقدمه وتحققه لجهة شحذ الهمم وتوجيه الطاقات ...لكن صدقوني أيها السادة بدون وجود آليات وضوابط .. تضبط الحاكم والمحكوم .. "مافيش فائده".

فهاهي الدول الحديثة قد انشئت نظاما وارست قواعداً تضبط بها مسيرتها و تضمن حصول الشعوب على حقوقها.
فلا يستطيع حاكم ولا زعيم ان يدير دفتها ويغير اتجاها من اليمين إلى اليسار أو العكس بسهولة وحسب رغبته .