أسُر الشهداء كرافعة أساسية لانتصار الثورات
بقلم/ محمد الجماعي
نشر منذ: 13 سنة و 8 أشهر و 11 يوماً
الأحد 10 إبريل-نيسان 2011 06:02 م

لم يموتوا.. لم تذبل آمال الوطن وأحلامه برحي لهم. أدرك السفاح قبح ما اقترف بإضافة حياة أخرى إلى حياتهم. كانوا أفرادا بعدد أحلامهم، صاروا بعد اختراق الرصاص لأجسادهم أمواجا من غضب لا يرعوى أمام جبروت آلات القمع, أضحت بيوتهم ومنازلهم ماكينة إنتاج لملاحم تعيد ذهبيات التاريخ بوسائل حديثة ومتطورة. 

هكذا هم، لا يراهم الناس إلا عناوين مجد سطروه بدمائهم، حين أهرقت على طريق الحلم أيا كان طلابه، لا تستثنى عقيدة من ذلك.

شهداء اليمن في جمعة الكرامة خطوا بدمائهم أسفارا من حب، من ولاء، من ثورة أشعلوها كسابقيهم في عدن وإب ثم تعز، وصبوا على نارها إكسير حياتهم.

بين سن السابعة عشرة، والخامسة والثلاثين، تفاوتت أعمارهم الدنيوية، ليس بينهم شيخ نضبت أحلامه، بل كتل من لحم ودم وأحلام، قضوا هناك بالقرب من جدار نصبه بليد عسى تتوقف طموحات هؤلاء وأولئك.

ملحمة أخرى خاضتها كل أسرة شهيد سقط في ساحة التغيير، في كل بيت على حدة، ألهمتنا زيارة بعضهم كثيرا من الشعور المحتشد بأسباب الاختيار لهذه الأسرة أو تلك، وليتخذ الله منهم شهداء، أحالوا اليمن إلى جنة أخرى، بدمائهم وبصمود أهلهم وذويهم الذين كانوا مثالا رائعا في زمن الثورات الجميل.

وجدنا أسرا مشحونة بثورات الأمم والحضارات المجاورة، رحبت بفتح أبوابها لاستقبال العزاء في شهيدهم، كأنما كانوا يعدونه لذلك، بل رفضوا مساومات وملايين الحاكم الذي كان جلاوزته يتصلون بكل واحد منهم على حده، للتراجع عن التشييع حينا وإدانة الفعل الذي كان ولدهم إحدى حقائقه الجلية، حينا آخر..

إدارة مؤسسة رعاية أسر الشهداء التي أفرزتها الثورة في زيارة لأسرة الشهيد الشرعبي

في منزله بشارع بيروت في حدة، استقبلنا المهندس أحمد الشاهري والد الشهيد علوي الشاهري، مدير مصنع وطني بجوار بيته، استقبلنا ببشاشة وجهه، متأبطا حفيده عبدالعزيز. (توجد صورة) وفي الداخل كان هو وعددا من أصدقاء الشهيد يسردون سيرة ذاتية لعلوي قبل وأثناء الثورة. لم يكن يعلم جلاوزة النظام المهترئ أن والد علوي كان يرى استشهاد ابنه حقيقة ماثلة أمام عينيه ينتظرها في أي لحظة، وحين سمع عن مجزرة جمعة الكرامة لم يستطع إخفاء صوت دقات قلبه المتسارعة. بصبر وأناة اتصل قبل أن يتناول غداءه بزملاء علوي للبحث عنه، كانت والدة علوي تبحث عنه هي أيضا، ولكن بيقين الواثق بوقوع ماكان ولدها حدثها به ليلة الجمعة. علوي الشاهري (31 عاما) الأب لولدين (عبد العزيز وسارة) أحد سكان حارة الجامعة مستقلا عن بيت والده ويعمل في المحكمة العليا بوزارة العدل، يقسم زيارته بين أهله وأهل زوجته جمعة بجمعة. الخميس عشية استشهاده طلبت منه أمه أن لا يذهب إلى الاعتصام تلك الليلة، لكنه بمراوغة المشفق المحب استطاع أن يختلس منها قبلة عبر الأثير مودعا إياها عن بعد، “باي باي أم الشهيد”. الكثير من المعتصمين كان يردد هذه العبارة بأسى وحزن، لقد عرفوا كثيرا من قصص الأبطال، وعطروا بها خيامهم، ومابين قصة وأخرى، يسطًّر الكثير من المجد لأسر الشهداء الذين لم يؤخذوا على حين غرة لحظة وصلهم النبأ الفاجعة، بل كانوا أبرز صناعها.

قال والد علوي –أحد أبناء رداع- أنه ترك لأولاده الخمسة –علوي أوسطهم- الحرية الكاملة في اختيار الطريق الذي يرغبون في سلوكه، واصفا هذه الطريقة بأنها الأروع وقد انعكست عليهم جميعا، سيما علوي الذي كان يلقب نفسه بالشهيد في كل أعماله حتى في صفحته على الفيسبوك، حسب قول والده.

حلم بين جيلين .. ماهر يستشهد من أجل أن تحيا طفلتة

ساهم تأسيس مجموعة من الشباب وعدد من رجال الأعمال للمؤسسة الوطنية لرعاية أسر الشهداء وجرحى ثورة التغيير، كأول مؤسسة من مؤسسات الدولة اليمنية الحديثة نشوءا، ساهم في الاقتراب من عائلات قدمت أغلى ماعندها، بل وأسهم هذا التحرك العاجل في إعطاء الصورة الحقيقية لساعات ما بعد فراغ الفجيعة.

أظهرت الصورة مشاهد نضالية عجيبة، ففي خيمته التي نصبها في الأيام الأولى للثورة، كان أبناء الشهيد ماهر رزق ماهر /31 عاما/ الأربعة، وإخوانه العشرة يفترشون لحظات مابعد أخيهم الأكبر، الباحث عن الشهادة كما يحب أن يطلق عليه، مخلفا وراءه بالإضافة إلى بنيه وإخوانه الذكور، سبع من الكرائم، كن صويحبات فضل في تزويد اعتصامهم بما يلزم لإنجاحه, وكانت أم عظيمة تدفع الجميع في ذات الاتجاه. يقول طلال / الأخ الأكبر الآن بعد طلال: كنا أسرة واحدة لم نفترق بعد، وكان ماهر هو أكبرنا وأرشدنا، وحين انضم وحده في البداية إلى ركب الثورة، كنا نخاف عليه ونحوطه بالرعاية ونقلق عليه، وما إن أقدم من يسمون بالبلاطجة على مضايقة المعتصمين بادئ الأمر، قررت الدخول إلى الساحة للإطمئنان على ماهر. خطفتني ترتيبات الساحة وانضباط أفرادها، فنويت الانضمام إلى ماهر ورفاقه. كانت إحدى بنات ماهر تقف إلى جانب صورة والدها على باب الخيمة مبتسمة في وجه المعزين.

لدى زوجة الشهيد ماهر الكثير مما يمكن أن يروى من روائع في حياة الشهيد وسط أسرته الكبيرة، كشباب يتقدمهم ماهر ذو الثلاثة والثلاثين عاما، وكزوج وكمواطن يحب النضال ويحلم بالدولة المدنية ويحرض الناشئة على الانخراط في صفوف الثوار، كما تروي فصلا رائعا من فصول عمره أثناء الاعتصام. زاد استشهاد ماهر من عزم إخوانه وأخواته وتصميمهم على التصدي لآلة الفساد ماعاشوا. ذلك ما لخصته شقيقته الصغرى سارة في الكلمة التي ألقتها عبر الهاتف إلى معتصمي شبوة ذات الليلة التي سميت باسم الشهيد، فيما كانت أمه تدعو على الظلمة والمتجبرين الذين أردوا ولدها وزملاءه قتلى مضرجين بالدماء والأشلاء.

ليلة استشهاده، جاء الزميل الصحفي الشهيد جمال الشرعبي، إلى ساحة الاعتصام حيث يجتمع زملاء المهنة، متطيبا مدهنا قد قصر شعر رأسه ولحيته، كأوسم ما يكون فتى ليلة فراق الأحبة والزملاء والأبناء، كأنها لحظات وداع..

كان أقربنا إلى الشهادة حين أوصانا بأبنائه كأي شهيد يجب الاهتمام بأهله ورعايتهم لقاء ماضحوا به وناضلوا من أجله، نطقها بيننا دونما خشية من وصمه بالخوف أو الرهبة، ذلك ما لا يفكر به الأبطال حين يشعرون بدنو ساعتهم ولحظات فراقهم, بجرأة العارف بمصير من اتخذ من مقارعة رأس النظام هدفا لعدسته وقلمه ولسانه، درس تعلمناه بعد وفاته، وسيتعلمه الأجيال من بعده، ستعلمه زوجته الجامعية المثقفة الجرئية، التي أعلنت افتخارها بفقيدها كأول شهيد للكلمة في ساحة التغيير، وأنها ستعلم أبناءها الأربعة هذا الدرس النضالي مع كل وقفة معهم.

والدالشهيد علوي الشاهري وولده

 

أينما ثمة شهيد، ثمة بيئة تصنعه وترعاه، ولا تنتهي العبارة عند عدد من الشهداء، بل تشمل كافة من اختارهم القدر لمثل هذه الساحات، إذ أن مجرد انضمامهم للفعل الإيجابي يمثل بحد ذاته أمرا هاما لا يقل أهمية عن الشهادة إلا بمقدار ما أخذ السفاح من دم وحياة وعمر الشهيد، بالإضافة إلى ما لا يسع المجال لذكره من كرامات الله للشهيد ولمن طلب الشهادة بصدق وإن مات على فراشه..

محمد العريفي 18 عاما/وصاب، أظهر تسجيل مصور له، قبل عشر دقائق من استشهاده، قدرته على تثبيت الشباب وحثهم على الصمود، كان ذلك في وقت يصب فيه القناصة رصاصاتهم على الشباب المندفعين، ليس نحو الموت المنتظر، بل نحو النجاح المؤكد بإزالة الجدار وإزالة نظام ما وراء الجدار.

في بيته يوم جمعة الكرامة قال له أخوه الأكبر منه: نلتقي في الساحة، فقال: نلتقي في الجنة. كانا قد ذهبا إلى البيت ليتوضآ، وليغرفا من معينه الأسري التربوي، ما يعين شابين على أعتاب الثانوية العامة، قررا الانضمام إلى ساحة التغيير، على اتمام المهمة.

وجوم وذهول ساد الموقف لحظة وصول النبأ، الذي لم يصل بعد إلى مسامع والدهم المهاجر في سويسرا منذ سنوات عدة.. كان رده بردا وسلاما حين احتسبه شهيدا عند الله في سبيل هذا الوطن وفي مواجهة سلطان جائر قام إليه ولده وزملاؤه فأمروه ونهوه فقتلهم. إنهم سادة الشهداء بعد حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. لا يزال أحمد العريفي حتى اللحظة معتصما ثائرا متخذا من خيمة الشهيد الوسيم محمدا مركزا لانطلاقة ثورته هو الآخر”..

كان الأستاذ جميل القادري/ الشعر – إب/ يطيل التفكير في إيجاد طريقة مناسبة لإبلاغ والده في إب بخبر استشهاد ولده إبراهيم، في جمعة الكرامة. كان الوالد قد رأى المشهد بأم عينيه عبر شاشة الجزيرة التي كانت تنفرد بنقل الخبر المتلفز، رأى ولده رافعا سبابته محاولا تغطية وجهه عن شاشة الكاميرا حتى لا يراه أحد في تلك الحالة. ظل الوالد المكلوم يتصل بولده الحافظ جميل ويعيد ويكرر الاتصال، غير أن جميل وعددا من معارفه رفضوا استقبال المكالمة. أمر خطير حدث لإبراهيم الشهيد عجزوا عن تبليغه لوالده.

الشهيد علوي الشاهري

يقول والد إبراهيم حين زرناه في البيت الذي استأجره لأولاده بمذبح / إبراهيم كان يدرس الصيدلة بجامعة العلوم ، وجميل حاصل على الماجستير/ وكان الأب المجاهد صائما حينها: “لم يراودني شيء أنا والأهل لحظة علمنا باستشهاد إبراهيم إلا كيف نحاسب القاتل الذي لم يرحم الصدور العارية والمكشوفة دون أي ذرة إنسانية”، مضيفا: “أنا مع ماكان يطالب به ولدي إبراهيم وأخوه جميل الذي لا يزال مرابطا حتى الآن وليس لي من مطالب سوى محاكمة السفاح”..

بعد ثلاثة أيام من جمعة الكرامة كان موعد ساحة التغيير مع أروع مقامات التأريخ اليمني، التي سطرتها أمهات وزوجات وأخوات وبنات الشهداء، ومن على منصة ساحة التغيير أحدثت الطفلة دعاء محمد طه المنيعي/ 6 أعوام / شرخا واسعا في الذاكرة اليمنية، حين شق صوتها الممزوج بالدموع، جدار الصمت المذهول بفصاحة لسانها الداعي بزوال رمز الظلم والفساد، ودموعها التي انهمرت من عينيها الجميلتين، حين رمت سهمها في وجه القاتل “إرحل إرحل .. قتلت بابا”. لا تعليق غير الدموع وإيثار الموت دون بقاء صالح وأعوانه. وهتفت أم الشهيد عرفات القباطي /31 عاما/ من ذات المنصة رافعة يديها إلى السماء: “الله ينصركم، على الظالم، الله يكون معاكم، يا الله زعزع الظلم وهد أركانه، يا الله أهلك من قتل عرفات وكل شهداء الثورة” فيما كانت أصوات التأمين تشق عنان السماء.

وليس بعيدا عنها زوجة احد الشهداء حين اعتلت المنصة بكل رباطة جأش وثقة لتحاور المعتصمين عن مبادرة الرئيس التي تتضمن عدم ملاحقة صالح وأبنائه وأقاربه، مقابل تنحيه عن الحكم!!! يا لروعة السؤال في وهدة غيبوبة الحاكم وذهوله.. لايتسع المجال لذكر الباقي ولعل حلقات أخرى تسعف في ذكر الباقي. إنهم أكثر من 50 شهيدا..

إنها أسر الشهداء وليس أمرا آخر، بيئة الضمان والأمان لدولة الأحلام والزمن الجميل.

* الصورة لزميل الجماعي مع اطفال الشهيد جمال الشرعبي