محمد المنيعي .. الشهيد الذي نعته طفلته حتى رثاه العالم
بقلم/ محمد الجماعي
نشر منذ: 13 سنة و 6 أشهر و 6 أيام
الثلاثاء 14 يونيو-حزيران 2011 07:49 م
 
 

قبل سبعة أشهر كان لقاؤه الأخير بزوجته، ورغبة منه بإضافة شهر ثامن تواصل معها من صنعاء ليبشرها باندلاع ثورة الشباب. كان أمله في أن يعانق ابنتيه الوحيدتين (عتاب، دعاء) بعيدا عن منغصات نظام صالح. حميمية أرادها لنفسه وأهله وشعبه، سلمية اقتطع لها من ملذاته شهرا ليس بالهين ولا باليسير.

الشهيد الشاب محمد طه المنيعي، 28 عاما، أحد شهداء موقعة الجدار الأليمة، جمعة الكرامة. “الشهيد القادم” كما أطلق على نفسه، حين ربط عصابته الموشاة بالعبارة. ككل الشهداء المصطفين كان يقدم لموعده ولا يسعى إليه. جرح يوم الثلاثاء 8 مارس، وكسرت يده يوم السبت 12 مارس، ولقي ربه الجمعة 18 مارس، مع كتيبة من الشهداء، 50 شابا كلهم بين 16 – 35 عاما.

 

لعل مرحه وخفة ظله وحسن أخلاقه، نضاله وتضحيته بوقته وعمله وراحته، نشاطه وتنقله بين لجان التنظيم والخدمة في النهار، والحراسة في الليل، تفانيه في خدمة إخوانه وسعادته بذلك، أضحت سهاما في نحور قاتليه، وجع أرق مضاجعهم، أثقل عليهم الوطأة، زادهم خبالا وخيبة. لا تزال “قناة سهيل” تعرض صورة المنيعي في أحد فلاشاتها، رابطا عصابته الشهيرة بـ”الشهيد القادم”، كاشفا صدره العاري، باسطا جناحيه، إيذانا بميلاد اليمن الجديد الذي بشر به زوجته مسترضيا إياها، مستغلا عاطفتها تجاه اليمن المغيب 33 عاما. يقول زملاؤه: “كنا عند تعرضنا لأي هجوم نجد محمد طه دائماً بين الجرحى والمصابين، وكان آخر عهدنا به يوم استشهاده عندما أصر على أن يذهب لإحضار الماء لهم أثناء الغداء”!! لم يسقهم ماء للشرب، بل سقاهم ماء الحياة بعزة، وسقوه دمعاً وحزنا.

حين صعدت منصة ساحة التغيير، كشرف استحقته بعد والدها، زأرت “عتاب” كالأسود، زلزت كيان الطاغية، قالت له: ارحل، ارحل. لم يسمع مثلها من قبل، لم تذهب بلبابه كلمة مثلها. أخذت دموعها من كل السامعين كل مأخذ، أفرغت كل القلوب من شحنات القسوة والقنوط، وبدأت الدموع تنهمر دونما ترتيب. لا يحتاج المشهد إلى مخيلة تعيد إنتاج الفيلم كي تتأثر.. “ارحل قتلت بابا”.

وجعي عليك عتاب، وأنت من وجع وحسره

تبكين زهرة في قبضة الألم الرهيب

وإلى جوارك مأتم دامي النحيب

وفؤاد أم فارغ وأب حبيب

يرنو إليك مودعا فيك أحلامه وعمره.

لم يشعر الثوار قبل سماعهم عتاب “عتاب”، بقساوة الفراق وألم اليتم والترمل، إلا من خلال الطفلة القادمة من عزلة حرد بمديرية ريف إب، إلى صنعاء حيث سطر أبوها ملحمته، أحرقت قلوب الملايين، عدا الحاكم الشكاك والمشكك في كل ما حوله. لم تجد الفضائية ماتطعن في صحته سوى هذا المشهد، وكفى تلك القناة خزيا حين نفخ فوها وأوكت يداها. فضحها الله على رؤوس الملأ.

من يعرف إب الخضراء، سفر الجمال، أبجدية الراحة والسكن ومنتهاهما، يكبر في عينيه ما استوطن الشاب المنيعي وخامر روحه، بتجسيده نموذج الإنسان اليمني الباحث عن ذاته وماضيه وشخصيته الحقة. مهاجرا إلى صنعاء وعاملا في مجال الكهرباء متنقلا بين مسقط رأسه ومكان لقمة عيشه. لم يغفل محمد أن له وطنا، هما يعتمل في ضميره، يجرى في دمائه، يسكن أعماقه. لم ينتظر عودته الظافرة من إب، حين دقت أجراس الثورة، وهتف بداخله صوت الوطن، بل فضل أن تكتحل عيون اليمنيين بحلمهم الكبير، قبل أن يكحل عينيه برؤية عتاب ودعاء وشريكة العمر.

كان شوقه إلى الحرية، أكبر من شوقه إلى دفء منتقص وهناء مؤقت، يستحضر وحشة القادم وألم الواقع كغيره من اليمنيين كلما لاحت له هنيهة سعادة، يخشى فواتها.

لأبيه الذي يعتصم معه في ساحة الحرية بصنعاء وأخيه أكرم الذي يشبهه في كثير من الخصال عزاؤ الجميع، وقد أدى الأبوان ماعليهما. كذلك هي بيئة كل شهيد سقط في ساحات التغيير. محاضن حقيقية، معاهد تدريب لإنتاج أبطال الحرية، عمدت إلى هذه النماذج فأرضعتها لبان الحرية، وسلسبيل العزة والكرامة.

اكتفى محمد المنيعي بما لديه من تعليم لم يتجاوز الثانوية، وبما لديه من حب غامر لتحرير هذا الوطن، فصنع من هذا المزيج زادا يمده بالقوة، ومعينا ينهل منه أشواقه. اخترقت رأسه رصاصة غادرة من أحد القناصة، ليزفّ إلى بارئه، ويسقط شهيداً وهو يردد: لا إله إلا الله.. ما أحلى الموت.. ما أحلى الموت. وقفت زوجة المنيعي ومعها طفلتهيا، أمام عشرات الآلاف من المعتصمين بساحة التغيير، لتؤكد أنها لن ترحل من الساحة حتى يحاكم قتلة زوجها، في حين هتفت ابنة الشهيد أمام الجماهير، وهم يرددون خلفها: الشعب يريد إسقاط النظام. وفي ساحة الحرية وجدت زوجة الشهيد علاجها بعد انهيار عصبي عانت منه، لم تعالج كثيرا في المستشفيات، ساعات في ساحة الحرية كانت عزاءها في زوجها وفي بقية الشهداء.