شمال غزة يباد.. والصحة العالمية تكشف عن وضع مروع في مستشفى كمال عدوان انفجار يقتل أرفع مسؤول نووي في الجيش الروسي تحرك تركي عسكري سريع ومكثف في الساحل يباغت الدول المجاورة شاهد ما يشبه انفجار قنبلة ذرية في جزيرة بمساحة قطاع غزة مقتل قائد قوات الدفاع الإشعاعي والكيمياوي بالجيش الروسي ومساعده بانفجار في موسكو ضربة جوية أميركية تستهدف منشأة قيادة وسيطرة للحوثيين في صنعاء الكشف عن مقبرة جماعية جديدة في سوريا تحوي 100 ألف جثة على الأقل عاجل :إسرائيل تستعد لتوجيه ضربات وصفتها بالقاضية للمليشيات الحوثية في اليمن المليشيات الحوثية تقتحم مجمع أبو بكر الصديق التربوي بحملة مسلحة وتعتقل أحد التربويين اللواء سلطان العرادة يطالب الشركاء الإقليميين والدوليين إلى تصحيح مسار العملية السياسية في اليمن والتحرك العاجل لردع المليشيات الحوثية
أقسى ما يمكن أن نسمعه عن مهنة الصحافة هي أنها «في معظمها فن شلل الحقيقة»، إنّها مقولة عالقة في ذهني منذ أمد طويل، وللأسف لا أتذكر من قالها وفي أي إطار.
كل ما أتذكره هو أن مهنة الصحافة وصفت بمهنة المتاعب، وأنها مع الزمن أصبحت مهنة ممقوتة حتى من أهلها، لا لأنها مهنة متاعب فعلا، ولكنها مهنة تذلُّ صاحبها في لقمة عيشه، وتحوّله في النهاية إلى بوق، حتى إن البعض وصف مراحل مهنة الصحافي بثلاث مراحل: مرحلة اللعق، ثم مرحلة الاستسلام، ثم مرحلة الهروب، مع أنني خلال تجربتي الإعلامية لم أصادف أي مرحلة منها، ولم أسمع بصحافي اعتزل المهنة كما فعل فنانون علنا سواء في العالم العربي أو الغربي. إذ لا تزال هذه المهنة تملك من البريق ما يجعل كثيرين خارج ميدانها يمارسونها أو يتطفلون عليها.
واليوم في زمن الهواتف الذكية، وانتشار الخبر في لمح البصر عبر شبكات التواصل الإجتماعي، أصبح أغلب النّاس صحافيين أو ما شابه ذلك، فالمهنة البرّاقة، جعلت من هب ودب يمارسها بطريقته، حتى بات الصحافي بدون عمل. القائل إن الصحافة غير مقروءة والأدب لا يُقرأ، ربما كان مخطئا، وأعتقد أنه أوسكار وايلد، رحل عن عالمنا منذ أكثر من قرن، ولا أعرف الظروف التي جعلته يقول ذلك، هل لأن الصحافة فعلا غير مقروءة؟ أم لأنّ أهدافها دائما كانت بعيدة عن نشر الثقافة والدفاع عن الأهداف الإنسانية النبيلة التي نعرفها اليوم في قلّة قليلة من العناوين عبر العالم. فتاريخ الصحافة إن أعتبرناه يقارب الخمسمئة سنة لم يكن بريئا، منذ البداية، كون نشر الخبر بين النّاس كان سياسيا أو اقتصاديا، وكان العامل على نشر الخبر يعمل أجيرا لدى تاجر أو مجموعة تجّار أو لدى الدولة لإيصال مناشير الملك. لماذا يُطلب من الصحافي اليوم أن يكون عكس ذلك؟ ولماذا يُهان كما أهانه بيرنارد تابي مثلا حين قال «ما حاجتنا لشراء صحيفة، ما دام بإمكاننا شراء الصحافي؟»هو الذي رغم شهرته كرجل أعمال، هزمه بريق الصحافة فمارسها من خلال برامج تلفزيونية قدمها، بل تسلّق السلم السياسي وجمع بين أقطاب مقولته من حيث لا يدري وجسّدها في مسيرته.
هل يمكن تحقير المهنة لأن الصحافي يُشترى في حالات معينة؟ أم أن ما يستطيع القيام به في الحقيقة عمل يتقنه ويقدّمه حسب المواصفات المطلوبة لصاحب العمل؟ لماذا نقف أمام المنتوج المادي كيفما كان نوعه بطريقة تقييم موضوعية، تصنف المنتوج حسب نوعيته، ونقف أمام النتاج الإعلامي بمواقف متضاربة، مهينة وغير مهنية، وطاعنة قلب الشخص؟ كثيرا ما فكّرت في الخيارات التي يمكن أن يقف أمامها إعلامي متخرّج من الجامعة، وأمام عينيه «نجم» من نجوم شاشتنا مثل جورج قرداحي، أو خديجة بن قنة، على سبيل الذكر لا الحصر، هل يمكنه الإفلات من سحر الكاريزما العالية لكليهما؟ نبرة الصوت المتميزة، طريقة الإلقاء، والشهرة الواسعة التي لاحقت كليهما؟ من الصّعب الهروب من إغراء هذه النماذج العربية، فما بالك بالنّماذج الغربية التي تتربع على عرشها أوبرا وينفري، بقاعدة شعبية عالمية لا مثيل لها في العالم. حتى البريطانية ماري كولفن بجنونها وعشقها لنقل الخبر من قلب الحدث، والتي ماتت تحت القصف في حمص، يظل لها سحرها الخاص، وهي بعين واحدة، مثل قراصنة الزمن الغابر، وهي شبه مدمّرة من كمّ الموت الذي تجرّعته في الحروب التي غطتها. وإن نسيها من ماتت من أجلهم، وإن أصبحت مجرّد رقم في قائمة الصحافيين الذين اغتيلوا في بلدان العالم الثالث من أجل نقل الحقيقة، فقد وجدت فيها هوليوود مادة لفيلم يجمّد الدماء في العروق عند متابعته.
الصحافية التي لم يكن تاريخ برّاق مثل 22/ 02/2012 غير تاريخ مقتلها، نسيها المعارضون والموالون سريعا، حتى أعادها ماتيو هينمن إلى الأذهان عبر فيلمه «حرب خاصّة» الذي جسّدت فيه الممثلة روزاموند بيك شخصية كولفن بشكل مرعب. الفيلم ذبح منتقدي مهنة الصحافة من الوريد إلى الوريد، حين أبرز إعلاميين يغامرون بحياتهم بدون أي ضمانات. لقد تكررت كلمة «فري لانسر»عدة مرات على ألسنة إعلاميين جذبتهم الحقيقة حتى الموت، وأرادوا إيصالها بأي ثمن. الرقم المخيف الذي بلغه عدد الصحافيين المقتولين عبر العالم في البؤر الساخنة خلال 2018 صعق من اعتقد أن التصفيات الجسدية للإعلاميين قد تصبح حدثا عارضا لن يتكرر بالسعار نفسه الذي حدث في تسعينيات القرن الماضي في الجزائر مثلا.
بين الصحافي الذي يجلس خلف مكتبه ويصوغ ما يطلب منه في هدوء، وذاك الذي تمصُّه المهنة، فتنفلت حياته من بين أصابعه، وبين من يصبح نجما، وآخر يموت من أجل نقل الحقيقة للعالم، تنكشف حقيقة مشتركة وهي أن هناك دائما من يحتاج إلى هذا الشخص الذي «لا يُقرأ» ويتهم بألف تهمة. وهناك دائما في قلب مختلف المؤسسات، عناصر جيدة، وأخرى سيئة، مثل كل المهن في العالم. لا يمكن الحكم على مهنة أنّها تضلل العدالة، أو تشوه الحقيقة، أو تتستر على الظّالم، فقد انقسم الناس منذ الأزل بين فيلقي الشر والخير، وهذه المهنة لا تختلف عن غيرها. فقد تكمن غرابتها في عشاقها المجانين حين يندفع إليها من لا يرى وجهها الآخر، غير مُبصرٍ الطريق الصعبة التي سلكها النّجم ليبلغ ركح الأضواء، وهي طريق شائكة، تتطلب الكثير من الكدّ، والإصرار، والخسارات، فليس كل نجم في عالم الإعلام شخصا سعيدا، ومدلّلا، كما يعتقد البعض وليس كما يعتقد البعض الآخر قابلا للبيع والشراء.
وضْعٌ قد لا يفهمه عالمنا الذي ما أن دخل عالم الصحافة، حتى جثت عليه التقنيات الرقمية، فخَرّ منهارا، هناك عالم بأكمله اليوم يشيّد صرح المؤسسات الإعلامية، مبني حسب المعطيات اللوغارتمية الرياضية، عالم ينقل لنا الخبر من كوكب المريخ مباشرة، فيما إعلامنا يبحث في صناعة «رجل دين» بديل للذي أحرقته العولمة، ليقود شعوبنا نحو معتقدات أقل حدّة عن تلك التي تشبعت بها أجيال سابقة! هناك عالم مختلف عنّا تماما، يستثمر في الخبر بكل تفاصيله، باحثا عن السبق الصحافي الحقيقي، فيستثمر في القصة التي لم نسمع لها مثيلا، أو في تلك التي تقلب مشاعرنا رأسا على عقب لأنّها تلامس إنسانيتنا، غير آبهة لأي بلد أو طائفة أو لغة ننتمي.
ماذا لو رفع أوسكار وايلد رأسه من قبره اليوم وألقى نظرة على مبيعات كتبه؟ ماذا لو عرف أن مبيعات الكتب الأدبية تحقق ما يقارب الخمسة مليارات جنيه استرليني سنويا منذ 2016 في بلاده، تراه سيلقي بمقولته الغبية تلك في وجوهنا؟ ماذا لو عرف أيضا أن الإدمان على الإنترنت، هو إدمان نابع من الفضول لمعرفة الخبر، وهو إدمان فاق الإدمان على المخدرات؟ تراه سيصدّق؟
٭ شاعرة وكاتبة من البحرين