أصبحت الفتاوى وبشكل ملفت المحرك الرئيس للمجتمع في الوطن العربي، وجود الفتوى الشرعية ليس مشكلة في حد ذاتها، وإنما الإشكالية في المستهدف من الفتوى أو المستهدف بها، فلا يزال الجميع الناقد لتواجد الفتوى والمؤيد لوجودها على قدر مخيف من عدم معرفة وظيفة الفتوى والسلطة التي يتمتع بها المفتي، في الوقت الذي لا يزال المفتي نفسه لا يمتلك الجرأة الكافية على تبيين حدود سلطة فتواه في المستوى التنفيذي.
ما يجب على المجتمع فهمه هو أن الفتوى ليست قانونًا يُجرّم من لم يقم بتطبيقها أو تنفيذها في الواقع، وسلطة المفتي لا تتجاوز سلطة الناصح الذي يجب أن يكون أميناً في تصوير المسألة للمستفتي، بمعنى آخر وظيفة المفتي الحد من الجريمة قبل وقوعها بالتوعية العامة بمدى خطورة نتائج الوقوع فيها الدنيوية والأخروية، والتنبيه على أن الوقوع فيها يُعرّض الإنسان للمساءلة أمام السلطات المكلفة بذلك، وليس من حق أي إنسان القيام بذلك حتى المفتي نفسه.
أسباب تحول الفتوى من مجرد النصح إلى القانون المتبع واجب التنفيذ من المستفتي.
هذه الحالة لها مسبباتها، فتخلي الحكومات التي تلت الاستعمار عن تحكيم الشريعة واستيراد دساتير لدول غربية أو شرقية، وانطواؤها تحت وصايتها المعادية للتشريعات السماوية كانت السبب الرئيس في بروز الفتوى كبديل للتشريع التي تستند إليه تلك الدول، وأوجدت مبررًا لدى المجتمعات العربية في تجاوز كل ما يصدر عنها، باعتبارهم أدوات فرض ثقافي عليها، يتم صياغته في الشرق الشيوعي أو الغرب الرأس مالي.
هذا التصور ألجأ المجتمعات العربية إلى رجال الدين كمحطة حفاظ على الهوية واستلهام لما يمكّنهم من الحصول على المصلحة المادية الدنيوية والنقاء الروحي المنظور من الحقيقة الدينية السماوية المختصة بالخلق والتدبير في ذات الوقت.
ولأن المجتمع المسلم لا يقتصر تفكيره على تشييد الحياة المعاشة لديه، وإنما يتجاوز تصوره لإدراك الحياة الأبدية التي هو على يقين من أبدية النعيم فيها للمحسن في حياة الفناء، وعلى يقين تام بأبدية الألم للمسيء في العاجلة، فهو على استعداد تام للصبر على ألم منقطع في سبيل الحصول على نعيم دائم يؤمن بحتمية وقوعه، ومن منظوره يعتبر رجل الدين هو الجهة الوحيدة المحددة لسبل الفوز والخسران في ذلك.
ساعد على ذلك بروز الكثير من النخب التي تم إظهارها على أنها تمثل ثقافة الشعب، وهي في وجهة معادية للتدين بصورة حادة أو تمارس مع الشعوب العربية الكثير من المراوغة، ولّدت حالة من الشعور بالمؤامرة على المتدين ليدفعه أكثر للتمترس وراء التمرد على القانون المسوغ على ضوء دساتير مستوردة خارجيًّا، أو تم كتابتها تحت وصاية قوى عظمى، لها مصالحها في سن بعض التشريعات.
لا يُنكر أنه في المقابل وبصورة فردية تم التعامل مع الفتوى كمصدر استرزاق من بعض المتدينين، مما جعلهم عرضة لمراعاة رضا الأطراف المرجو من قبلها العطاء، ولو على حساب ليّ النصوص أو توظيفها في غير ما صيغت له، وقد حاول أئمة السلف أن يجعلوا لذلك سدًّا، فجعلوا من يدخل على السلطان للأخذ منه مردود الفتوى والرواية معًا.
معالجات ما يمكن تسميته بالإسهال في الفتوى لا بد على الحكومات أن تكون صادقة مع شعوبها، وتجعل ميولات الشعوب وجعل مقدساتها منطلق التشريع التي تستند إليه في إدارة المجتمع الذي أوكل إليها مهمة القيادة له، وهذا من أهم مستلزمات الديمقراطية، حتى تستعيد السلطة ثقة الشعوب بها، فلا يلجأ إلى البحث عن تشريعات أخرى من مصادر ليست في الأساس للتشريع، ويجعل من نفسه قوة تنفيذية مستقلة لتلك التشريعات.
في ذات الوقت لابد من إقامة مجامع فقهية تحول دون التسيّب الفردي الذي قد يُحدث ضجة كبيرة واضطرابا غير مبرر في الطرح والتصوير للمتابع البسيط، كما هو الملاحَظ الآن، مع التنبيه على أن مما يمكن أخذه على المجمعات الفقهية على أنها ستصبح - في نفس الوقت - سلطة تشريعية مقابلة للسلطة التشريعية التي أتت من نبض الشارع ، أو أن يتم السيطرة عليها من قبل السلطات التي أقامتها، وتعنى بتمويل أنشطتها.
التوعية التامة بوظائف الفتوى وسلطات المفتي، وإلزام المفتي بالتزام القانون المعمول به في البلد في فتواه حتى لا يحدث ذلك تعارضًا في التطبيق عند المستفتي المطالب - في نفس الوقت - بتنفيذ القانون والاستجابة لما يعتقده شرعًا لا تجوز مخالفته.
والمشكلة الحقيقية أن يجعل المفتي من نفسه سلطة تشريعية مقدسة لا يجوز اعتراضها، في نفس الوقت الذي يجعل المستفتي من نفسه السلطة التنفيذية التي تقوم بتنفيذ ذلك.