توكل الحائزة
بقلم/ عبد الباري طاهر
نشر منذ: 13 سنة و شهر و يوم واحد
الإثنين 17 أكتوبر-تشرين الأول 2011 08:00 م

لم تأت توكل من فراغ، و لا جاءت بغتة؛ فهي ابنة نجيبة لنضال تختزنه الذاكرة الشعبية لمئات وآلاف السنين . فالشعب المتعطش لبلقيس و أروى يحرص على تخليد اسميهما كثيرون تعاقبوا على حكم اليمن: أذواء و سلاطين و أمراء و أئمة و رؤساء ومحتلون ومستعمرون أيضاً.

نسي التاريخ الكثير منهم ونساء أخريات تحدثت عنهن النقوش التي لم يعثر حتى اليوم على نقش باسم " بلقيس " و المرأة التي أثنى القرآن الكريم على عظمة عرشها " خزنتها " الذاكرة الشعبية والتفاسير باسم بلقيس . أما أروى فقد سطع اسمها في قلب التاريخ الوسيط .

يصر أستاذ من أساتذة جيلنا " صالح عبد الدحان " أن اليمنيين مشغوفون بالحديث عن الازدهار والعدل في حكم بلقيس " المرأة " حسب القرآن و التوراة والذاكرة الشعبية وأروى حسب تاريخ موثق .

شكى عظماء اليمانيين من التجاهل و الغبن عمرو معد يكرب الزبيدي، ولسان اليمن أبو محمد الحسن بن أحمد الهمداني والإمام الشوكاني، ولا تزال مرارة الشكوى في حلوق شباب اليمن اليوم.

توكل خرجت من " قلب المُدَمَّاة "- كتسمية المتعدد المواهب محمود الصغيري أو من " مراعي سهيل" كإبداعه أيضا - خرجت وعلى رأسها يمامة بيكاسو، وغصن زيتون أبو عمار في مواجهة صواريخ و قنابل ورصاص علي عبد الله صالح . مجد توكل كرمان ابنة المناضل عبد السلام خالد كرمان أنها وجدت نفسها في مواجهة نظام شديد الهمجية والتخلف و الاستبداد .

في اليمن وتحديداً في زبيد رقصة السيف والدف، الراقص والمحارب؛ ففي حين يهوي المقاتل بسيفه يقابله الفنان بالرقص والطبل و الزمر، و يدور صراع مرير بين القوة و الفن، وفي النهاية يتغلب الفنان على حامل السيف " المقاتل ".

لم تأت المناضلة من فراغ؛ فقد سبقتها قوافل من الثائرات اللائي خرجن منذ فجر الحركة الوطنية في عدن في أربعينات وخمسينيات وستينيات القرن الماضي .

رضية إحسان الله صافيناز خليفة، وعاتكة الشامي، وحورية المؤيد، وفوزية نعمان، وثريا منقوش، وفوزية محمد جعفر، وأنيسة الصايغ، وشفيقة مرشد، ومن جيل الثورة: نجوى مكاوي، وعزيزة عبد الله، وعايدة علي سعيد، وزهراء طالب.

غياب الديمقراطية والحرية والعدالة والمواطنة أودت بالثورة إلى المهالك، و تسيد الأمر الأطراف أو القوى الأكثر رجعية وتخلفاً وجهلاً وفساداً واستبداداً.

لم يأت نظام صالح امتداداً أو تطوراً للحركة الوطنية الداعية للتحرر والخلاص من الاستبداد؛ وإنما جاء من مضارب داحس والغبراء، ومن تاريخ الفيد، والثأر، والتغلب. فهذا المتغلب لا يحتكم لغير القوة، ولا يؤمن بغير السيف .

كان تابعاً للشيخ الذي جاء به؛ فوضع الدولة تحت رحمة القبيلة، وحول اليمن كلها إلى رهينة؛ ليقايض و يبتز بها دول الجوار والعالم .

جاءت توكل " الشوفة"، وقبل توكل: الدكتورة رؤوفة حسن، وأمة العليم السوسوة، وجميلة علي رجاء، ورضية شمشير، وفوزية جعفر، وأمينة الرشيد، وأمل الباشا، وطيبة بركات، وحورية مشهور، و ذكرى عباس، ورمزية الإرياني، وهدى العطاس، واروى عبده عثمان , وبلقيس اللهبي، ووميض شاكر، وأبلان، وبشرى المقطري، وسهى باشرين، ومها عوض الخيبة، وعفراء الحريري، وسامية الحداد، والدكتورة نادية الكوكباني، وهبية صبره، ووهبية فارع، والقيلي، ومسك الجنيد، والعلس، و فاطمة محمد، وفاطمة مطهر، وفطوم زيدان، وسامية الأغبري، و سارة جمال، وهناء السياغي ، وسعادة عبدالله .إنه زمن المرأة في اليمن .

كانت توكل بنت كرمان أول من نزل إلى المحافظات الجنوبية؛ لإعلان الدعم والتأييد والمساندة للمطالب الجنوبية، وألقت كلمة رائعة تؤكد فيها على حق الجنوبيين في استعادة حقوقهم المغتصبة عام 2007م.

كانت توكل حينها تختط طريقاً بعيداً عن خط حزبها الذي كان لا يزال ينوس بين الانشقاق النهائي عن نهج الحكم و بين دعوات الإصلاح و التحاور . قبلها شاركت توكل في ندوة أقامها الأستاذ علي سيف حسن وبذكاء مدهش كرست الندوة عن حقوق المرأة : الدية، والإرث، والولاية . الملمح الأهم أن الرجال من سلفيي الإصلاح وبناتهن شاركوا بأوراق في هذه الندوة ؛ ففي حين طالب " السلف الرجال " بتحريم المطالبة بالمساواة في الدية أو القصاص أو الإرث أو الولاية؛ فقد كان رأي بناتهن جد مختلف فقد دعت الفتيات إلى المساواة والحق في الولاية . و لم تكن توكل بعيدة عن هذه المعركة التي بدأت في شورى الإصلاح من حول مشاركتها في الشأن العام و تصديها للقيادة وقفت غالبية الإصلاح إلى جانب مشاركة المرأة و كان ذلك مؤشر تطور مهم داخل تيار تقليدي ومحافظ .

ثم بدأت كرمان تتصدى للنزول إلى الميادين العامة، وكان لها الفضل في تأسيس (ميدان الحرية)، وفي تأسيس (صحفيات بلا حدود) الذي تحول إلى صحفيات بلا قيود، و أسست (صحفيون ضد الفساد)، وكانت عنواناً بارزاً من أهم عناوين الثورة الشبابية الشعبية السلمية التي ساهمت في قيادتها، وصمدت وثابرت على مدى التسعة الأشهر من العام 2011 ، قادت المظاهرات وتحدت الرصاص الحي وآليات و مجنزرات صالح، ودافعت عن الجعاشن، هجرت بيتها لتقيم في الخيمة، وشنت عليها حملات غاية في القسوة و اللاخلاق .

اختطفت بعد منتصف الليل لتودع السجن المركزي، وهددت بالقتل أكثر من مرة، و اعتدي عليها أكثر من مرة، و صبرت بعناد وعزيمة قل نظيرها .

توكل لم تأت من تيار حداثة أو تجديد أو تقدم، وإنما شقت طريقها الصعب والوعر من تيار تقليدي شديد المحافظة، وبدأ صراعها مع أخوانها داخله ؛ فانتصرت للتجديد والاختلاف داخل حزبها الذي يحسب له الانتصار لها و للمرأة في حدود معينة . فانطلقت إلى المجتمع وشجاعتها هنا أنها قد واجهت ذئاب القبيلة، وسباع الجهل، والتخلف الذين لا يتورعون عن قتل النفس، والطعن في الأعراض والاعتداء على الكرامة . ربما أدرك العالم مؤخراً أنه لا توجد دولة في اليمن، وإنما مجموعة تمتلك سلاحاً، ولا تتورع عن استخدامه متى تشاء، وكيفما تريد، وضد أي كان حتى لو كانوا مدنيين مسالمين !! وخاضت معركة ضد التيار السلفي في حزبها حول زواج القاصرات.

فالمواجهة ضد نظام قروسطى متخلف وغشوم عكس المواجهة مع نظام متحضر ومتمدن، وهنا في الحقيقية أهمية الثورة اليمنية السلمية التي تنادى إليها العديد من ألوان الطيف السياسي والثقافي والمجتمعي، وكانت توكل واحدة من أهم العناوين .

منح جائزة نوبل لتوكل كرمان شاهد سلمية الثورة اليمنية، ومؤشر مهم للانتصار- انتصار اليمن وانتصار الربيع العربي وانتصار حق المرأة بالدرجة الأولى- وهي رسالة لكل اليمنيين، والربيع العربي للتمسك بسلمية الثورة، والنأي بها عن العسكرة، و" المبندقين"، و تجار الفتن و الحروب .

طبيعة الثورة الشبابية والشعبية، ودور المناضلة توكل كرمان فيها، ودور المرأة العربية في هذا الربيع الرائع- هي أحد أهم أسباب منح الجائزة لتوكل، وهي في نفس الوقت رسالة عالمية للطغاة والمستبدين وللتيارات التقليدية والمحافظة التي تخلط الدين بقيم الجاهلية وبالأعراف والتقاليد القبلية والبدوية العتيقة؛ أو بالأحرى تغلب الأعراف " البدائية " على القيم الإسلامية، وتطوع الإسلام لأعرافها وتقاليدها . والرسالة الرائعة التي أهدتها إلينا جميعا جائزة توكل أن رياح العصر قد هبت على اليمن، وإنه ليستحيل عزل اليمن عن دائرة الضوء العالمية التي اتسعت بفضل الثورة الثالثة لتعم الكون بأسره؛ فهنيئا لتوكل كرمان نيل أكبر جائزة عالمية .

و المهمة الرائسة الملقاة على مكون توكل كرمان في الثورة الشبابية الابتعاد كلية عن تيار التحزيب المغلق والضيق، والنزول الميداني إلى كل الساحات والعمل على توحيد شباب الساحات؛ فالخلاص من صالح بات وشيكاً، و لكن صالح حريص ألا يترك اليمن إلا جثة هامدة .

المخاطر التي زرعها علي صالح ليست بالهينة، وستواجه الثورة تحديات كبيرة؛ لعل أخطرها تركة صالح نفسه. ومسؤولية قيادات الشباب في الساحات أن يتنادوا لتوحيد صفوفهم، وخلق قيادة تضم ألوان الطيف السياسي والفكري والاجتماعي ومن مختلف المناطق والاتجاهات؛ لإعادة البناء المدني العصري والحديث بعيداً عن تفرد وهيمنة القيادات التقليدية والمحافظة، والتي تصر على حكم المستقبل بصيغ الماضي.

نتفق ونختلف مع توكل وهو حق لنا كما هو حق لها، ولكننا نرى اليوم أن وجود قيادة أو قيادات متوافقة منسقة ومتآلفة حول أهم قضايا إعادة بناء الوطن، وطبيعة الدولة المدنية القادمة، ودستورها وقوانينها الأساس: قانون الأسرة، والانتخابات، والسلطة القضائية، والجرائم والعقوبات، وعدم إيجاد تشريع للصحافة والأحزاب والنقابات والجمعيات، والاكتفاء بالإبلاغ عن التأسيس، والالتزام بالدستور والقانون العام، وإيجاد قانون لحق الحصول على المعلومات، وإلغاء الدستور المفترى عليه وكل القوانين العقابية والجائرة .

قبل أعوام قرأت رواية المناضلة الإيرانية " شيرين عبادي ". وشيرين المناضلة الإيرانية في الرواية تحكي قصتها - قصة المرأة والحقوق والحريات في نظام الآيات الشيطانية -، وأحسست حينها الفارق الكبير بين معاناة المرأة الإيرانية والمرأة العربية في اليمن. فمعاناة المناضلة الإيرانية تقف عند تخوم الحريات والحقوق؛ أما توكل و أخواتها فيناضلن من أجل الحياة بالدرجة الأولى، ثم في سبيل الحقوق الأخرى .