جدلية العلاقة بين السياسة والصحافة
بقلم/ عارف علي العمري
نشر منذ: 14 سنة و 4 أشهر
السبت 17 يوليو-تموز 2010 06:07 م

صوت الصحفي يضيء الواقع يكشف عن جغرافية المكان لمن لايتلمسون أبعاد اللعبة القائمة أصلاً على معرفة المزيد من الحقائق, لن يتوجس من الصحفي إلا الذي يغش في اللعب ولا يريد لخديعته أن تكون معلقة على حبل الغسيل, أما الذين يلعبون على المكشوف بلا رغبة مسبقة في خديعة الآخرين فإنهم لن يجعلوا من الصحفي كبش فداء لنزواتهم إنما شريكهم في النتائج النهائية.

الصحفي يكتب ولا يمتلك ولكنه يحدد بكتابته هذه نوعاً من الامتلاك النفسي يرغب المجتمع دائماً أن يكون على مقربة من إرهاصاتها.

الصحفي هو شكل من أشكال الضمير الاجتماعي ينمو داخل نسيج متباين الولاءات مختلف الرغبات’ ويستمد مشروعيته من حاجة الناس لصوت أخر للحوار, وعيون أخرى لإبصار النهايات’ الصحفي ليس كائنا عجائبياً انه ينمو داخل أحشاء حاجتنا إليه, ضمن سياق التطور التاريخي للمجتمع نفسه وحاجته إلى التعبير عن نفسه.

الصحفي هو صوت من لا صوت له, وحنجرة مضافة لحناجرنا المبحوحة والمغطاة بتراب الإهمال, الصحفي هو رغبة البوح التي يمتلكها الإنسان في علاقته بالوجود والأشياء, لم يكتشف باستور الجراثيم, ولا انيشتاين النسبية, ولافرويد اللاوعي, ولا غاليلو الغى صدارة الأرض ودكتاتورية المكان الذي تشغله, هولاء لم يقدموا هذه الكشوفات لمجتمع بعينه كانت هذه المنجزات تحمل طابعها الإنساني الخاص بها, وهذا شأن الاكتشافات الكبرى في التاريخ إنها لم تخضع لمحدودية الزمان, ثمة منجزات تتسم بشموليتها, إنها ليست تراثاً خاصاً بأمة دون أخرى ولهذا فالديمقراطية هي الأخرى شكل من أشكال الاكتشاف الكبير لتعدد الصوت الواحد .

الديمقراطية نتاج إنساني,وهي محاولة في إلغاء هيمنة الصوت الوحيد الذي يصر على الغناء على أوجاعنا بنشيد خرابه الدائم, الصوت الماكر الذي يريد من الصحفي أن يختصر الديمقراطية, وهو لا يعرف بأنه نتاجها العياني وهو التعبيرالمباشر عن خصائصها وروحها, ولهذا فالمجتمع الذي يغلق فم الصحفي أو يمسح الحروف التي يكتبها فوق حائط الاحتجاج ويضيق المساحة الممكنة لحركته, سيكون غير قادر على التعبير عن إنسانيته, وسيضيع على نفسه الفرصة في الخروج من غرفة العناية المركزة, لان إلغاء الأخر هي الخطوة الأولى التي تقودنا بكل تأكيد إلى فخ الدكتاتوريات والتابوات تلك التي ستكون سعيدة جداً لو أننا اختبئنا في معطفها المتهرئ.

إن الديمقراطية ليست ترفاً بل حاجة قصوى لإنسان يجد حقيقته الكبرى في أن يصرخ بوجه العالم, وان لايخبئ أسراره في (أنا) تقوده إلى المرض العقلي, لماذا أعطاني الله فم؟! هكذا يتساءل كازا نتنزاكي أليس لأننا بحاجة إلى أن نبوح نحكي قصة غربتنا في هذا المنفى الكوني؟ إن الصحفي هو شكلنا الإنساني في أن نقول ما لايمكن قوله, وهو الفم لقول ما لانستطيع قوله, الصحفي هو صوتنا الذي لانستطيع إيصاله إلا من خلال نافذة مفتوحة بكل مجسات الرغبة لقول الحقيقة بلارتوش .

الديمقراطية ليست نتاجاً اوروبياً انها جزء من تراث الإنسان في صراعه المحتدم والدموي مع من يرغب فقط بسماع صوته الواحد في نرجسية البقاء, وكأنه الصوت الوحيد الصالح للتداول في تاريخنا, ثمة ماينبئ عن نوع من الديمقراطية نعتقد انه يصلح لان يكون شكلاً من أشكال التأسيس لنمط قادم نبحث عن تحققه, فالرسول محمد (ص) لم يدع انه جاء لإكمال منجز معرفي ولا كان يمتلك رغبة في أن يقلب العلاقة بين السماء والأرض, بين المطلق والجزئي , مثل ما فعل ماركس عندما قلب هيجل وجعله معلقا في فضاء التاريخ, كان همه الكبير أن يقدم درساً في الأخلاق, لصيرورة تاريخ يتشكل بعنف, فعندما سحب البدوي رداءه بنوع من التصرف الفظ لم يعط الفرصة لمن يحيطون به أن يبطشوا بصاحب هذا السلوك, مع أنهم كانوا مستعدين بحكم البيئة التي يمثلونها لان يتصرفوا بقسوة مفرطة مع هذا البدوي, لكن الرسول العظيم – عليه الصلاة والسلام - رفض فكرة إيذائه, واختار الحوار مع هذه الخشونة, التي ربما ستستجيب لشفافية الأداء الراقي, في نوع من الأخلاقية ستشكل حجر الزاوية في بناء التجربة النبوية الجديدة, أليس هذا درساً للسياسي في أن يتعامل بحضارية مع الصحفي حتى لو سحب بدلته الأنيقة وعكر مزاجه.

في قصة لتشيخوف تتحدث عن روائي مشهور يطلب منه احد الأثرياء أن يعلمه كتابة القصة فيستجيب له وبعد محاولات متواصلة في تعليمه يخبره بان أصبح قادرا على الكتابة, فيقوم الثري بإهدائه صندوقاً يحمل في ظاهره هدايا عرفانا منه بالجميل, وفي طريق عودته مع الحوذي – أي السائق - الذي يوصله الى البيت يكتشف الروائي بان الصندوق مملوء بالماء وانه تعرض لعملية استغفال فيقوم بكتابة رسالة يطلب من الحوذي إرسالها إلى الثري يقول فيها ( انك لن تكون كاتبا كبيرا, وذلك لأنني لم أعلمك الدرس الأول في الكتابة ألا وهو الأخلاق( وأنا أقول لن يكون المجتمع كبيرا إذا لم ينتج ثقافة الاختلاف والقبول بالرأي الأخر الذي يزلزل منظوماتنا التاريخية وقناعاتنا الراسخة, أما أن يتحول الكثير والكثير إلى أبواق جاهزة للسب والشتم, أبواق تشم منها رائحة حامل الكير, وترى في أفعالها رواغان الثعلب, بسبب إبدائك رأي في شخص ما , لم تتزلف في الكتابة عنه, ولم تصفق لعثراته , ولم تصدر من حنجرة قلمك أصوات الصفير لانجازاته, فهذا هو الخطأ الأكبر, والعيب الأعظم, وختاماً نقول لأعداء الرأي والرأي الأخر فجدوا كما جدوا ..... أو سدوا الباب الذي سدوا.