عندما يفسد القضاء
بقلم/ د.احمد عبدالله القاضي
نشر منذ: 11 سنة و 4 أشهر و 15 يوماً
السبت 22 يونيو-حزيران 2013 05:43 م

يصبح الفساد هو سيد الموقف يتربع عرش الدولة ويستبدل مبدأ سيادة القانون بمبدأ سيادة الفساد .

-عندما يفسد القضاء ، يصبح الفساد مهلكة لنظام الحكم ومهلكة للاقتصاد وللسياسة معاً وللتنمية البشرية كذلك، بل و مهلكة لكافة القيم الدينية والدنيوية .

-عندما يفسد القضاء يتلوث المناخ الاستثماري في البلد، فالقضاء وليس حزمه الحوافز والإغراءات التي تمنحها قوانين الاستثمار ، هو الجهة الوحيدة القادرة على تحويل أوعاد الدولة في مجال الاستثمار إلى واقع ملموس .

فالمستثمر الجاد الأجنبي والمحلي على السواء لا تحفزه الإعفاءات أو الامتيازات بقدر ما تحفزه استقلالية وحياديه ونزاهة القضاء ولا يكترث بالمحاكم التجارية التي تنشؤها الدولة من باب الطمأنة الشكلية للمستثمر إذا كان النظام القضائي فاسداً فهذه المحاكم تتحول إلى محاكم بوتيك Courts Boutique أي محلات تجارية في هيئة محاكم داخل سوق لشراء المأجورين ... من ضمن بضائع أخرى معروضة للبيع.

-عندما يفسد القضاء ، يتشطر المجتمع وتتخلخل وحدته الوطنية من الداخل ويتجزءا إلى شرائح متصارعة ومتناحرة تعيش في خصومات مستمرة تغيب عنها السكينة ، بل وتفقد الإحساس بالمواطنة وبالانتماء إلى وطن .

-عندما يفسد القضاء تُنتهك جميع حقوق الإنسان وتنتعش فئه صغيرة من الناس تتميز بالجشع الطافح تسعى فقط وراء إشباع متعتها القصوى في الاستحواذ على المال وعلى الجاه وعلى السلطة هدفها الأسمى في الحياة هو الاكتناز والاقتناء ؛ وبذلك يحل المال والنفوذ محل العدالة والمساواة أمام القانون وتنحسر النزاهة والعدالة أمام الرشوة والتزوير والغش والكذب.

-عندما يفسد القضاء ، يتحول العنف والإرهاب من جريمة إلى مجرد رغبه غريزية لابد من إشباعها والترزق منها من دون خوف من الملاحقة والعقاب .

-وعندما يفسد القضاء يتغول الفساد على كل شي وتُصاب بالشلل كل تلك الترسانه من السياسات والاستراتيجيات والقوانين والإجراءات التي أعدتها الدولة لمكافحة الفساد وتشمل فيما تشمل تلك المعاهدات والمواثيق الدولية والإقليمية التي أبرمتها الدولة المكرسة لمكافحة الفساد . وتتحول مؤسسات الدولة وهيئاتها وبرلماناتها وأجهزتها الرقابية والمحاسبية بل والمنظمات المدنية المجتمعية بمختلف مسمياتها إلى جثث هامدة.

والشلل الذي يصيب هذه الترسانة الضخمة الموجهة لمكافحة الفساد يعود إلى أن هذه الترسانة تعتمد في نشاطها على شيء واحد فقط وهو القضاء؛ فبدون قضاء محايد ومستقل ونزيه تنعدم كل الفرص لمكافحة الفساد والوقاية منه مهما اختارت الدولة من رجال أشداء ونزيهين لمقارعته .

واصطلاح القضاء الذي استخدمه في هذا المقال ، لا يقتصر مفهومة على ذلك القاضي الجالس Sitting Judge فوق الكرسي على المنصة الأمامية من قاعة المحكمة فحسب ، بل هو حلقة واسعة المساحة تضم في دائرتها أولئك القضاة الواقفين Standing Judges من محاميين وممثلين النيابة العامة ، وكذلك رجال التحري والتحقيق ورجال الأمن والمنفذين للأحكام القضائية بل وجميع كتبة المحكمة من أمناء الأرشيف القضائي والمسجلين وحتى أولئك الشهود الماثلين أمام القاضي في القضايا المعروضة عليه . لكل واحد من هؤلاء دور ما في مسيرة أية قضية من القضايا المعروضة على القاضي التي يسهل حرفها بواسطة الفاسدين منهم لصالح الطرف صاحب الجيب العميق Deep Pocket أو صاحب النفوذ .

يقول مثل كيني : إذا كان بالمستطاع أن تشتري القاضي ، فلماذا تلجأ إلى المحامي ؟ ولكن هذا القاضي الواقف – المحامي(( معول الشيطان الأول )) يكون في العادة هو الحلقة الأولى في شراء القاضي ويمهد له السبيل في إصدار حكمه ضد صاحب الحق براحة واطمئنان.. حتى ممثل النيابة الفاسد والشهود وكتبة المحكمة الذين يسهل شراؤهم يشتركون جميعهم في وضع الشماعة للقاضي ليلقي عليها رداء القضاء ويحكم مجرداً من الفضيلة والعدالة بما يمليه عليه الشيطان !

ليس هناك ظاهرة أكثر قسوة وأكثر اشمئزازاً من ظاهرة فساد القضاء في المجتمع حتى وان فسد رئيس النظام الجمهوري وفسدت معه حكومته فأن أعمدة النظام الجمهوري تضعف ولكنها لا تنهار . فالقضاء النزيه القوي يبقى سنداً لهذا النظام الجمهوري وأنصع مثل أمامنا هو جمهورية مصر التي عاشت فساداً رئاسياً خرافياً ومع ذلك ظلت صامدة بفضل نزاهة وعراقه قضائها المصري .

فساد القضاء يصيب الأمة بأكملها.. فالسياسي يشكو فساد الأحزاب السياسية، والوزير يشكو قصور كفاءة وخبرة موظفيه ورجل الدين يشكو ضياع التقوى والفضيلة والأخلاق الحميدة ، والموظف يشكو المحسوبية ومحاباة الأقارب في الوظيفة العامة ، والتاجر يشكو تعسف الحكومة وضياع النظام والقانون .

والأنكى من ذلك.... حتى القاضي الفاسد الذي يلبس مسوح الفضيلة ، هو الأخر يشكو !!

الكل يشكو الكل.... والجميع يقف ضد الجميع !!

وختاماً : هذه طرفة من طرائف الفساد في المحاكم

يُحكى أن قاضياً في شيكاجو جمع أطراف النزاع في قاعة المحكمة وخاطبهم:

لقد استلمت من مقدم الدعوى مبلغ ألف وخمسمئه دولار لكي أحكم لصالحه، واستلمت من المدعى عليه مبلغ ألف دولار للحكم لصالحه وحتى أكون منصفاً ، فأنني سأعيد خمسمئه دولار لمقدم الدعوى ... والآن، سوف أنظر في الأسباب الجوهرية للقضية وسأحكم بالعدل !