المزيد من الفوضى
بقلم/ فضل الكهالي
نشر منذ: سنتين و 3 أشهر و 13 يوماً
الخميس 04 أغسطس-آب 2022 03:00 م

لا شكّ في أن المرحلة التي تمرّ بها اليمن الآن من المراحل العصيبة. فهي تعيش حالة من السّوء في جميع جوانبها السّياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إذ لا توجد أجندات سياسية مدروسة ولا خطوات محسوبة ولا علاقات داخلية وخارجية بنّاءة.

فالسلطة الحاكمة أصبحت منفردة ومعزولة عن باقي التيارات والأحزاب السّياسية، بل وفي صراع معها، يسيطر عليها الخوف والهلع في جميع القرارات التي تصدرها؛ وأصبحت العشوائية عنوانا لكل التصرّفات، التي لا تخدم الدولة، من قرارات غير مدروسة وإجراءات غير ملموسة، ما يُنذر بكوارثَ لا حصر لها ولا عدد. ان الحكومة اليمنية، رغم ما قد تكون عليه من ضعف وانعدام كفاءة، هي حكومة غير منسجمة مع المجتمع الدولي؛ وأصبح توجّهها متناقضاً للغاية، فهي غارقة إعلامياً في مقارعة جماعة الحوثي الدينية. بينما لا تقوم بأي عمل يخدم المصلحة القومية للبلاد بوصفها حلقة الوصل مع العالم، إضافة إلى أنها لم تستعمل نفوذها بصورة جيدة.

وبغضّ النظر عمّا إذا كان هذا مُسبباً أو نتيجة ضغوط دولية، فإن التنصّل من أبسط مهامّها أصبح هو السّائد والرّائج. اما بالنسبة إلى اليمنيين الآن، كما بالنسبة إلى الدول الغوغائية، فإنّ الحكومة اليوم هي، في المجمل، قوة حاكمة أكثر اعتباطية وإثارة للخوف، الذي ظلّ ملازماً للمواطنين العاديين في ما مضى، والذي سيتنامى في أوساط المجتمع أكثر فأكثر، لا سيما في ظلّ وجود من هم مزروعون في أوساطهم من العسس الذين أصبحوا أكثر نفوذا وبإمكانهم أن يشوا بخصومهم إلى أية قوة أمنية متسلطة، وهذه الصورة تتكرر شمالاً وجنوباً بعد أن طغى العمل البوليسي على كل شيء.

فالمعارض لسياسة جماعة الحوثي يتم اتهامه بأنه متعاون مع عدوها؛ وكذلك الحال بالنسبة إلى بعض القوى، مع وجود اختلاف حول هذا "العدو".

وبينما تنعدم الطمأنينة ويسود الخوف في الجنوب، الذي يُدار بطريقة هي الأغرب، إذ يشعر المواطن هُناك بالمرارة حتى في ظلّ وجود الائتلاف الحالي، لأنه يرى فيه ائتلافاً غير متجانس، يتعاظم الخوف شمالاً بسبب الضّغوط الأمنية على المجتمع. فإساءة استعمال بعض المحاربين الأعلى قيمة في الجيش على الأرض قد شوّه الصورة المنطبعة في أذهان الناس عن القوات المسلحة والأمن وخلق مليشيات ترتدي البزّة العسكرية ولها نطاق تحرّك غير محدود، وضع الجميع في مأزق يجب عليهم تخطيه وتجاوز آثاره وإفساح المجال أمام إجراء الكثير من المراجعات للسّياسات الصائبة، وعلى رأسها الأمنية. هناك مؤشّرات جمّة لم يعد من الصّعب قراءتها لكنها مُعبّرة.

وقد بدأت الخبايا تنكشف للعيان، على الأقلّ في بعض الأوساط المُهتمّة بالملفّ اليمني أو المرتبطة، ارتباطاً وثيقاً أو غير وثيقٍ، به. فالتسريبات الأخيرة عن انتشار القوات الأمريكية في اليمن لمحاربة "القاعدة" و"داعش" معناها مقايضة الإرهاب المحلي لجماعة الحوثي بملفّ الإرهاب المصنف بأنه دولي وتفضيل المجتمع الدولي لإرهاب جماعة الحوثي على ما يطلقون عليه إرهاب "القاعدة"، الذي يظهر في الأوقات التي تريد بعض مراكز القوى أن يظهر، واستغلال شعارات الحركات الدينية لتدعيم التوجّهات الأممية، أي أنهم يستثمرون إرهاب جماعة الحوثي ويُرشّحونه للقضاء على ما يطلقون عليه إرهاب "القاعدة" و"داعش"، اللذين سيتم تفعيلهما على الأرض اليمنية لتشهد جولة صراع ديني -ديني من نوع مختلف.

عندما يتحقق مثل هذا الأمر مستقبلاً، فإن نتائج وجود القوات الأمريكية سيكون عبئاً سياسيا مُدمّرا في أفضل الأحوال.

وستصبح الجزيرة العربية والخليج المكانَ الوحيد الذي تحقق فيه الإدارة الأمريكية نجاحات من منظورها، على الأقلّ في الفترة التي تم اختراقه فيها بهذه البساطة، وسيظلّ يعاني من المتاعب، بعد أن تعمّ الفوضى في شمال اليمن وجنوبه، ويصير تعهّد الرئيس بايدن بالسّلام في اليمن تعهّدا غيرَ معقول، ليس فقط بالنسبة إلى السّياسة الأمريكية، بل أيضا بالنسبة إلى العرب ومعظم دول الشّرق الأوسط، الذي سيتم إعادة زرع تنظيم "القاعدة" في بعض دوله.

ما من شك في ان الفهم الديني المُسيس يضفي هالة دينية على أي صراع يكون الطرف الآخر فيه دولة أو كيانا أو تكتلا عدوانيا، ما يلقي بويلات التخلف والتقهقر والقتل والدّمار على الآخر، إلى درجة طغت معها السّياسة على الدين.

فصدّام حسين حينما غزا الكويت، أشرك العامل الفلسطيني -الإسرائيلي في القضية، مُدّعيا أن طريق "تحرير القدس" يمرّ عبر الكويت، مستهدفا بصواريخه تلّ أبيب؛ في حين تتبنى إيران وأذرعها الشعار الشّكلي ذاته. والفارق الوحيد أن صدّام كان أكثر جرأة بقصف تل أبيب بعدما اقتنع بأنه لم يعُد من الموت بُدّ؛ بينما كان سبب تضامن المتضامنين معه حينئذ دافعُ العروبة والقومية العربية.

وهُنا اختلط الفكر الديني بالسّياسي أكثر، وفق معادلة غير متجانسة شكلاً ومضمونا ورؤية قائمة على ضرورة وجود عدو ديني وعلى ضرورة وجود وصاية على الفكر، وهُنا مكمن الخلل. لقد حوّلت هذه الحرب اليمن إلى واحدة من أتعس دول العالم وأكثرها تمزّقا خلال بضع سنوات فقط. وحوّلت المشكلة اليمنية من مشكلة صعبة إلى مشكلة معقدة جدّا. وبدل تسجيل تقدم بطيء ومحدود، أصبحت عملية التحرّر شبهَ معقدة. ومن سُخريات القدَر أن يتحول الهدف الأساسي إلى منع استعمال اليمن كقاعدة للإرهابيين والمُتطرّفين لمهاجمة أصدقاء الولايات المتحدة وحلفائها، لا سيما بعد تسليم أفغانستان إلى "طالبان"، لتتحول الأنظار إلى محاربة "طالبان" في اليمن وبعض الأقطار العربية. كما ان المجريات الحالية فتحت بوابة التشاؤم في اليمن.

وبفقدانها مكانها الفريد ضمن معايير الخيال الليبرالي، واجهت اليمن واقعا سياسيا أكثر قسوة، مشحونا بعنصرية ومناطقية لا مثيل لهما. فبعد سنوات من الحرب، تم وصف اليمن في معظم وسائل الإعلام بأنها تمرّ بأسوأ كارثة إنسانية وبأنها ما زالت محفوفة بالمخاطر. وتتجاهل الأطراف الدولية كون أكبر المخاطر هو تسليمها إلى جماعات مذهبية مشحونة بالحقد العنصري، في عملية مقايضة ساذجة ومفضوحة. وهذا دليل على أن إعادة عملية بناء الأمّة في اليمن قد تتحول إلى قضية عقيمة في ظلّ فترات السّلام القليلة والمتباعدة التي كان العنف فيها هو السّائد.

فالوجاهات القبَلية تتمتع بنفوذ أكبر ممّا يتمتع به من هم في الحكم أنفسُهم! ومسألة القضية القومية قد تتحول إلى أيقونة أو شعارات تقليدية سياسية، لا سيما بعد الفجوة التي تم خلقها في أوساط المجتمع اليمني. فجميع المتغيرات الحالية تُظهر أن أغلبية العرب يظنّون أن واشنطن، "الحليفة القديمة"، تسعى الآن إلى تقويض العرب، من خلال السّماح بإنشاء أمّة فارسية عربية مستقلة على الأراضي العربية. وقد قلّصت هذه المشاعر العدائية نفوذ واشنطن على القيادات العربية. كما أن تقهقر التحالف العربي الأخير لا يشير فقط إلى أنه السبّاق إلى تقديم تنازلات لتخفيف حدّة التوترات الإقليمية، وإنما إلى التلاعب الدولي في الملف اليمني.

فالهدنة لا تخدم أحدا سوى جماعة الحوثي؛ وأي جلوس إلى طاولة المفاوضات يعدّ نصراً لحكومة صنعاء ومجلسها السّياسي. ففي الحرب ليس هناك ما يطلق عليه تغليب المصلحة بين الطرفين المتحاربين، لا سيما إذا كان شريكَ أحدهما تحالفٌ دولي.

إنّ ‏طموحات مراكز القوى العالمية في الشّرق الأوسط لن تتراجع أو تزول، لأنّ النتيجة المنطقية لسقوط بعض أنظمته يعني فتح المجال لسُنّته وشيعته لتمزيق بعضهم البعض، وهذا ما يحدث. فالتوازن الذي تدّعي بعض القوى العالمية أنها تسعى إلى خلقه في المنطقة هو توازن هشّ ودليل على أن الأمور مُرشّحة للانفجار في أية لحظة طالما أن الاحتقان موجود، لذلك فإن الأمم المتحدة تسعى إلى اتّباع السّياسة التي كانت بريطانيا تتّبعها في العديد من مستعمراتها، حيث كان البريطانيون يحابون جماعة مُحدّدة على غيرها، كوسيلة لتعزيز الاستقرار الذي تريده بريطانيا ويخدم مصالحها. غير أنّ النتائج كانت تأتي مُدمّرة في أغلب الحالات، إذ تشعّبت مسارات الحروب الأهلية، التي أفضت إلى معاهدات استقلال أو بالأحرى "اتفاقيات استقلال" لا يزال معظمها غامضا حتى اليوم.