صلاة التراويح نفحات واسترواح
بقلم/ إبراهيم القيسي
نشر منذ: 11 سنة و 3 أشهر و 11 يوماً
الخميس 18 يوليو-تموز 2013 09:53 م
صلاة التراويح روح قدسية ونفحة رمضانية وروض خصيب وجدول منساب وحقل للعطاء ومزنة هتانة تفيض بالعطاء وتتدفق بالسكينة وتغشى القلوب بالرحمة ويظل غيمها فوق القلوب وعطرها فوق المشاعر وعبيرها فوق الأنفاس نستروح في ظلها الأنفاس ونرشف من نهرها السلسبيل ونلبس من كسائها التقوى، تتجلى لنا فيها الآيات القدسية والآفاق الخضراء والأجواء الممطرة، ونتطلع فيها إلى العتق من النار، نعيش زمنها الغالي ونرقى صرحها العالي ونتطلع إلى حظيرة القدس ونستنشق زهور العطاء كل لحظة همسة من عطاء، وكل ركعة ولوج إلى الرحمن، وكل سجدة خضوع بين يدي الخالق تعيش المساجد فيها أعراس الحياة وتغرد المآذن لحن الآيات فتضفي على الزمن سحب الوجد الممطرة وتسكب على المكان سيول الإيمان المتدفقة فتستحيل الأرواح طيورا مغردة في رحاب رمضان بأناشيد الهدى وبأنغام السلام.
لم تكن صلاة التراويح مجرد فكرة طارئة خطرت على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فمضى يجمع الناس فيها على إمام واحد، ولكنها ذات أصول تشريعية استفاضت السنة النبوية إلى الدعوة إليها تارة باسم قيام رمضان والترغيب في إحياء لياليه "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه"، وتارة باستناده إلى قيامه ـ صلى الله عليه وسلم - بعض الليالي في شهر رمضان في المسجد وصلى بصلاته أناس من أصحابه ثم امتنع عن الخروج إليهم في الليلة الرابعة خشية أن تفرض عليهم، واستنادا إلى التطوع المطلق والتعبد لله في ليل رمضان بما يستطيع من الركعات بدون حدود وظل الصحابة في رمضان يتطوعون في مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم - أفرادا وجماعات، فكان من المستحسن إجماع الصحابة في خلافة عمر بن الخطاب على جمع شتات الناس على إمام واحد، وهو عمل استحسنه صحابة رسول ـ صلى الله عليه وسلم - وأجمعوا عليه مستندين إلى أصول شرعية دلت على استحباب هذا العمل، ولم يمنع من مواصلة النبي ـ صلى الله عليه وسلم - له إلا خشية افتراضه على أمته فيعجزون عن القيام به، وهذه رحمة وشفقة على هذه الأمة من افتراضه عليهم في زمان نزول الوحي، وهذا علة تحقق المنع بالعمل بهذه السنة في هذه الفترة الزمنية من نزول الوحي.
فقيام رمضان هو الاسم الشرعي والظاهرة التعبدية التي استمدت شرعيتها من فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم - وترغيبه فيه ثم جاء الاسم المرادف لهذا المعنى من الترويح وهو الجلوس بين التسليمتين للاستراحة، وتعتبر صلاة التراويح خصوصية من خصوصيات شهر رمضان، وتختلف عن التطوع المطلق وعن قيام الليل الذي كان يحرص عليه ـ صلى الله عليه وسلم - لأنه يعتبر في حقه واجبا وسنة في حق أمته، والآثار الصحيحة تثبت تجميد العمل بصلاة التراويح على مستوى الجماعة واستمرارها على مستوى الأفراد، وظل العمل بها ظاهر من فعل الصحابة، وقد أقرهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم - عندما تابعوا الصلاة معه في الليالي الثلاث، ثم تأخر عن الخروج إليهم في الليلة الرابعة خشية افتراضها عليهم، ولما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - حصل الأمن وترجح لدى عمر سنتها، فأعاد الناس على ما كان فعله صلى الله عليه وسلم في الليالي الثلاث لما في الاختلاف من افتراق الكلمة وكون الاجتماع على إمام واحد أنشط في العبادة لكثير من المصلين، وذلك ما رجحه ابن التين وابن بطال وكثير من العلماء، وأقره الجمهور من أئمة المذاهب الإسلامية كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الأفراد من العلماء ومن لا يعتد بخلافهم ... إلخ.
وتبقى صلاة التراويح هي الشعيرة التعبدية لقيام رمضان، وقد نص الإمام النووي على تجسيد قيام رمضان بحصولها، ويرى الإمام الطحاوي وجوبها على الكفاية، ويرى ابن بطال أنها سنة فقد أخذها عمر من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما تأخر عنها خشية افتراضها، ويدل على سنتها استمرار الصحابة العمل بها أفرادًا في مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم - فلو كانت من التطوع العام لكان أداؤها في البيت أفضل كما نصت على ذلك أحاديث الترغيب في التطوع المطلق في قيام الليل في غير رمضان، وكون الخصوصية التي يمتاز بها شهر رمضان عن بقية الشهور ذات استقلالية كان قيام لياليه يختلف عن قيام ليالي سائر الأشهر، لذا ظل العمل بقيام رمضان على صور متعددة تقترب حينا من الجماعة وحينا من الفردية، وظلت هذه الحالة المتوارثة تؤدى في مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم - حتى كان ما فعله عمر من تجميع تلك المظاهر المختلفة على إمام واحد ليحقق المناط من أداء هذه الشعيرة، وكان مظهرا جليلا يعكس روحانية رمضان في صورة قدسية تُجسد تلك الشعيرة في جو يشع بأنوار العبادة ويسكب النفحات الشذية مما جعل عمر يقول: "نعم البدعة هذه"، وهذه حقيقة واقعية جعلت لشهر رمضان مذاقا خاصا يعكس زجل المآذن، وهي تردد آيات القرآن تتلى في محاريب المساجد تجسيدا لهذه الشعيرة القدسية التي اختص بها شهر رمضان، وقد ساوى الترغيب النبوي في الفضيلة في الأجر والثواب بينها وبين الصيام، ويأتي ذلك التناغم بين أيام رمضان ولياليه في ثنائية متتالية مملوءة بأنوار قدسية مرفودة بأعمال صالحة بصيام في النهار وقيام في الليل "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"، ويأتي التناغم مع قيامه "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ماتقدم من ذنبه"..