الحاج إسماعيل  
بقلم/ عبدالعزيز العرشاني
نشر منذ: 5 سنوات و 4 أشهر و 6 أيام
الأربعاء 26 يونيو-حزيران 2019 06:35 م
 

في أيام استقدام المعلمين المعارين من الأشقاء العرب وبخاصة المصريين والسودانيين لغرض التدريس في اليمن، كان يُلحق بمدارس الريف مبنى خصص كمسكن للمدرسين من خارج اليمن أو المحليين الآتين من مناطق بعيدة، وكان السكن يحتوي على غرفة وحيدة تستخدم لأغراض عدة فهي إدارة وغرفة معيشة وغرفة للنوم؛ وإلى جوارها مطبخ وحمام، وكان في قريتنا ثلاثة مدرسين مصريين، وفي العادة أن توزع تغذية المدرسين القادمين من خارج القرية على جميع طلاب المدرسة على مدار أيام الأسبوع والشهر والعام الدراسي من خلال جدول يتناوبونه فيما بينهم، فكل يوم على احد البيوت الذي قد يكون فيه طالب أو اثنين أو حتى ثلاثة- إن كانوا أشقاء أو أبناء عم-، فيه يتكفل البيت المناوب بالوجبات الثلاث، ولزوما على البيت المناوب الاعتناء بحسن الضيافة والاستقبال والخدمة، ومايهم هو نوعية الطعام وبخاصة وجبة الغداء- حيث ينتقل المعلمون في وجبة الغداء بمعية الطلاب إلى البيت المعني بالضيافة، بينما وجبتي الإفطار والعشاء يجلبها الطلاب إلى المدرسة-، وتتكون وجبة الغداء في العادة من الأرز واللحم والمرق والعصيدة (والأخيرة هي الوجبة الرئيسية وتطبخ من طحين الذرة أو القمح أو غيره من الحبوب الغذائية، وتقدم في وعاء من الفخار أو المعدن بعد تكويمها بشكل هرمي، ويُصب المرق حولها أو في وسط الهرم بعد أن توسع من أعلاه بفتحة، وقد يصاحب المرق السمن البلدي الذي لا يكاد يخلو منه بيت والغالب أن يكون من الأبقار أو الماشية أو الماعز) والفتة (خبز يُفت على شكل قطع صغيرة ويخلط بالمرق والسمن، ويقدم ساخنا) والسلته (خليط من الحلبة- المطحونة والمنقوعة لساعات في الماء والمخفوقة حتى الإنتفاش- والمرق والأرز والخضار المطبوخة وتقدم ساخنة بعد خلطها مع ما ذُكر وتؤكل مع الخبز كإدام) ويقدم ما سبق من أطعمة في وعاء من الفخار أو المعدن، والتحلية إن وجدت فـ بنت الصحن (هي من الدقيق إذ بعد عجنه يُشكل ويوضع كطبقات رفيعة من العجين على صحن- ويكون حجم العجينة الرقيقة مناسبا لحجم الصحن- ثم تنضج وتقدم بعد أن يُصب على سطحها العسل وأحيانا الى جوار العسل السمن، وقد يكون مرشوشا في أعلاها الحبة السوداء)، وإن صادف الدور يومي الأحد أو الخميس فيجلب المعني من البيوت المضيفة الذي يكون الدور عليه لحم الغنم من السوق الأسبوعي المقام في هذين اليومين السابقين (وهو سوق أسبوعي مؤقت يقام ليوم واحد من الصباح حتى الظهر؛ ويسمى نسبة لأيام الأسبوع كسوق الجمعة أو السبت أو الأحد إلى أخر أيام الأسبوع، ويختلف موعد اليوم والتسمية من منطقة إلى أخرى، ويقام السوق على أرض واسعة متوسطا عدة قرى؛ بعيد عن المساكن؛ وفيه يتجمع الباعة والمتسوقين القرويين للبيع والشراء- وقد يبيع القرويين منتجاتهم من الماشية أو الفواكه والخضروات وغير ذلك-، وتباع في السوق أغلب المستلزمات الأساسية؛ ويعرض الباعة بضائعهم في صناديق السيارات المكشوفة؛ أو في الدكاكين المؤقتة من الأحواش الصغيرة- تسمى مجازا دكاكين- وهي مرصوفة بالحجارة من ثلاث جهات بإرتفاع يقدر بنصف متر إلى متر بينما تمثل الجهة الرابعة المفتوحة الباب) وإلا فليتدبر صاحب الدور المعني أمره بالدجاج (الذي يباع في دكان القرية) أو غيره.

وفي حوش المدرسة خزان أرضي يُملأ أسبوعيا بالماء النقي يستخدمه المعلمون والتلاميذ للشرب والغسل وغيره؛ ويجمع ثمنه من الطلاب بعد فرض مبلغ معين على كل تلميذ.

وفي يوم العزومة بعد نهاية اليوم الدراسي ينتقل المعلمون من المدرسة إلى بيت الطلاب أصحاب الوليمة وحولهم جمع من الطلاب يحفونهم بالترحيب وبلطيف الكلام وكأنهم في موكب عرس مخترقين أعلى القرية بين البيوت والشوارع مرورا بين الممرات الصخرية فهبوطا للوادي الذي يقسم القرية إلى قسمين قبل أن يصعدوا مرة أخرى بين الممرات الصخرية فأزقة وشوارع القرية حتى يصلوا للبيت المقصود- إن كانت العزومة في الجهة الأخرى من القرية- ويكون على طليعة الجمع السابق فئة الذكور ومن خلفهم متأخرات قليلا عن الجمع الإناث، وفي الطريق يبدء جمع الطلاب بالتناقص نظرا لانسلاخ من كانت بيوتهم على طريق سير الموكب، أو من كان طريق منازلهم يخالف طريق الموكب رغم محاولات تضييفهم بجوار المعلمين من قبل الطلاب أصحاب الضيافة وبخاصة الأكبر سنا؛ إلا أنهم يرفضون رفضا قاطعا، ويصل الموكب للبيت المنشود إلا ةقد صار عددهم على رؤوس الأصابع.

في يوم من الأيام زار الحاج إسماعيل المدرسة التي كانت خارج القرية فاجتمع عليه المدرسين المصريين نظرا لكبر سنه ووجاهته بإعتباره مؤذن جامع القرية الوحيد عارضين عليه مشاكلهم قائلين بلهجة مصرية صرفة:

دول يحج سماعيل لابيجيبو شاي ولا سكر!!! والمية الي بيجمعوا قيمتها من الطلاب بتتوخر أوي أوي!!! والغداء ياحج سماعيل بيكون ساقع أوي!!! وكمان الفطار والعشاء بيتأخر أوي أوي!!! هل يصح هذا يحج سماعيل؟!؟!؟!

لم يفهم الحاج إسماعيل ولا كلمة من شكوى المصريين سوى عبارة (هل يصح هذا؟) وحتى لا يظهر جهله بفحوى

كلامهم وعدم فهمه لكلمات وعبارات حديثهم المتضمنة شكوى بالطلاب والأهالي والظروف المحيطة في القرية، ولكي يظهر احترامه للمعلمين الأشقاء وترحيبه بهم كضيوف قال:

نعم يصح.

اتسعت عيون المصريين عن أخرها وأعادوا الشرح من جديد:

بص يحج سماعيل، الاكل اللي بناكله ساقع أوي أوي!!! والمية اللي بيجمعوا تمنها من الطلاب بتتوخر!!! وكمان الفطار والعشاء بيتوخر أوي أوي!!! ولا بيجيبوا شاي ولا سكر!!! بذمتك هل يصح هذا يحج سمعيل؟!؟!؟

أيضا لم يفهم الحاج إسماعيل فحوى كلامهم واعتقد انهم يثنون على الأهالي والطلاب أو انهم يستشيرونه في المدرسة وسير العملية التعليمية ولم يفهم من فحوى شكواهم سوى عبارة (هل يصح هذا؟) فرد بالقول للمرة الثانية:

نعم يصح.

ارتفعت أصوات المصريين لإفهام الحاج إسماعيل مما لفت نظر احد المدرسين من أبناء المنطقة فاقترب منهم وبدأ يستمع ويترجم للحاج إسماعيل فحوى شكواهم حتى انتهوا من حديثهم بعبارة (هل يصح هذا؟) التي استوعبها الحاج إسماعيل بعد الترجمة الفورية؛ فكان لابد أن يغير رأيه وأن يظهر ذلك جليا للضيوف الأشقاء ويكون أشبه ما يكون بالاعتذار وعدم موافقته لما يحدث، فامتشق هامته متطاولا عبر رفع عقبيه موزعا كامل ثقله على أصابع قدميه وعصاه التي يتكئ عليها بيمناه مادا رأسه ورقبته قائلا بصوت عالي وغاضب وبشكل سريع وحاسم أراح المصريين:

لا يصح.. هذا لا يصح بتاتا.. هذا لا يصح جملة وتفصيلا.