يوم وليلة في المدينة الفاضلة
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: 17 سنة و 5 أشهر و 20 يوماً
السبت 12 مايو 2007 02:14 م

مأرب برس - خاص

عدت مسرعا في الظهيرة ، وإذا بسيارتي ترتطم بسيارة أخرى ، كانت قد دخلت فجأة من اتجاه جانبي مسرعة ، مما أدى إلى تعانق السيارتين تعانقاً لطيفاً ، حينها حوقلت وسبحلت واسترجعت .

 لم ألتفت إلى النازلة التي حلّت بي ، بل بالسيارة الأخرى التي لحقتها بعض الأضرار البالغة نوعا ما ، والأدهى والأمر أنها كانت سيارة المرور!!! ..

بادرت بالنزول والسلام على الضابط ، الذي قرأت في وجهه الرضى بقضاء الله وقدره ، وثنائه الجميل على الله ومنّه وفضله الذي حفظ الأرواح ، التي لا تعوض .

حدثتني نفسي أنّ خسائر كبيرة سوف أتحملها ، وربما نالني التأديب اللازم ، وربما يطلب مني هذا الضابط بعض الرشوات مقابل إلغاء الحادث وتبعاته ، ولعل هذا يستلزم مني دفع مبالغ كبيرة لسلسلة أو لسلاسل كبيرة من الضباط الذين يحمدون الله كثيراً في مثل هذه الحالات التي تسر كثيرا منهم ، داعين الله الإكثار من حوادث السيارات ، لينالوا حظهم وقسمتهم الظيزى ، كما هو معلوم عن بعضهم في العادة ... ذهبت بي الظنون كل مذهب .

بيد أن الضابط قام بإجراء اتصالاته اللازمة بالمرور للحضور ، لتقييم الخسائر ، وإذا بالرجل يهاتف زملاءه قائلاً لهم: بأنه وقع في الخطـأ الأكثر والأكبر ، بسبب أنه كان مكلفا بمهمة ، طالباً منهم سرعة الحضور .

 هنا تنفست الصعداء ، وشعرت أن الدنيا لا تزال بخير ، ظللت أتبادل معه أطراف الحديث عن الإجراءات اللازمة ، فقال: فقط يأتي المرور ويسجل الحادث ويمنحك مذكرة إلى ورشة السيارات لإصلاح سيارتك!! ولمعرفتي بأن ثمة خطأ وقعت أنا فيه ، كنت أقول له يبدوا أن الخطأ مشترك بيننا ، وهو يقول بأن الخطأ كان من جهته هو ، قائلا لي القول قولك والأمر أمرك .

 عرف زملاؤه بالحادث فجاءوا إلينا للاطمئنان ، بمختلف رتبهم العسكرية ، وكلهم يلقاك بوجه طلق مسرور قائلين: الحمد لله على السلامة ، استغربت من عدم وجود سماسرة منهم ، أو مصلحون لأجل ما ييسر الله به لهم من مال ، أو نحوه ، ثم عجبت أن لا أحد منهم يساومك على المبلغ المالي مقابل ما سيقوم به من عمليات عظيمة وجبارة وخيالية لإنهاء المشكلة مع الأمن والمرور ، غير أن لا شيء من هذا وقع مما هو معروف في مثل هذه الحالات .

سمعنا صلاة الظهر تقام في المساجد المجاورة ، استجزت تأخير الصلاة عن وقتها قليلاً ، ريثما نفرغ من تسجيل الحادث وعمل ما يلزم ، بيد أن الضابط قال لي هيا نصلي ، فقلت : أين؟ قال هنا على قارعة الطريق ، وفعلاً أدينا الصلاة على قارعة الطريق ، دون الالتفات إلى وساوس الشيطان التي تملّكتني ، في القول بالرخصة في تأخير الصلاة عن وقتها .

جاء الضابط المختص وبكل سهولة أخذ مني أوراق السيارة ووثائقها وقام بتسجيلها ، وقال هل اصطلحتم بخصوص تكاليف إصلاح سياراتكم ؟ بادر صاحبي قائلاً من جهتي لا أطلب منه شيئا ، رغم أن الأضرار الكبرى لحقت بسيارتي ، وليقل أخي ما يريد ، قلت: وأنا بدوري أشكر الجميع هذا الخلق الفاضل ، وأُصلح سيارتي ، ويغفر الله للجميع .

وانصرفنا جميعا راشدين ، وبكل هدوء ورضى .

لم تنته القصة ذات الدلالات العميقة والأثر الكبير في نفسي ، توجهت إلى الورشة لإصلاح السيارة ، فلقيت معاملة واعية فاضلة من السمكري حيث تنازل تقريبا عن نصف المبلغ الذي كان يريده ، ووعدني أن آتي ظهيرة اليوم التالي لآخذ السيارة سليمة معافى .

عدت راجلا ، أحببت المشي ، فلطالما نعمت بنعمة المواصلات ، ولا بد من الشعور بمعاناة الآخرين ، وحمد الله على نعمائه ، لم أشعر بطول الطريق ، فالمدينة الفاضلة تأسرك بروعة جمالها وحدائقها ونظافتها وألوانها الطبيعية الزاهية ، وأكثر ما يأسرك وأنت تجوب هذه المدينة الفاضلة أنك لن تجد امرأة تمشي على الأرض ، إلا اللهم في النادر القليل ، الذي لا يكاد يذكر ، وتذكرت كم جنى العلمانيون على نسائنا وأمهاتنا؟ ، لكم يعاني نساؤنا من الزحام في المواصلات وبهذلة الطرقات وعذابات المشي ، وتقطع الأحذية والمعاكسات والعذابات الأليمة .

 ما يلفت نظرك في هذه المدينة الفاضلة أيضا ، أن السيارات الخاصة بالنساء في هذه المدينة الفاضلة غالباً ما تكون ذات زجاج عاكس ، وحيثما وجدت سيارة ذات زجاج عاكس فاعلم أن فيها حورا مقصورات لا يراهن أحد .

 غُرِّ الوُجوه محجَّباتٍ ... قاصراتِ الطّرف حُور

مُتَنَعِّماتٍ في النَّعيمِ ... مُضَمَّخاتٍ بالعَبير

يَرفُلْنَ في حُلَلِ المَحاسِنِ ... والمَماجدِ والحرير

إن الحياء والحشمة والعفاف لم يمنعهن من مزاولة أعمالهن وأنشطتهن التجارية والاقتصادية والعلمية والتعليمية ، بل تؤكد الإحصائيات الرسمية أن نحوا من 60% من النشاط المالي والعلمي والتعليمي والاقتصادي يقدنه أولات النسوة .

لقد رأيت بأم عيني في يمن الإيمان والحكمة إحدى الأخوات تعمل مقاولة معمارية ، وتقود سيارتها بنفسها وتشرف بنفسها على كل أعمالها التجارية والمعمارية ، متحجبة متعففة ، بل إن في الجزيرة والخليج كثيرا من البيوتات المالية والتجارية يدرنها نساء بحجابهن الإسلامي الأصيل ، بلا إشكال .

إن الحجاب والعفاف ليس عائقاً أمام التنمية ، وليس عقبة أبداً دون التقدم والمدنية والحضارة ، بل هو في حقيقة الأمر يعد شرطاً لأي حضارة أصيلة وتقدم وتطور ونماء .

وأحسب أنه لا إشكال في هذا البتة .

إنما الإشكال فيما يبدوا فقط في رؤوس إخواننا الليبراليين والعلمانيين الذين ينظرون للمرأة على أنها بهيمة يجب أن تكون محطة للنزوة وتفريغ الشهوة ، ويُلبسون هذه الثقافة الهابطة ضد المرأة المسلمة حينا لباس التقدم والمدنية ، وحينا آخر باسم الحرية الشخصية ، فيما هم يريدون النيل من عفافها وحشمتها وكرامتها .

شعرت بقيمة المرأة التي كرمها الله وشرفها وحرسها وصانها وحفظها ، وجعلها درة مكنونة ، وجوهرة غالية نفيسة ، ومدى فداحة جرم ذوي الأهواء الذين يريدون منا أن نميل ميلاً عظيما إلى شهواتهم وأمزجتهم الفاسدة.

وليعذرني السادة الليبراليون الذين تسوؤهم هذه الصورة الرائعة والمشرقة في أمتنا ، فمن حقي ديمقراطيا أن أعبر عن شعوري كمسلم .

المهم ثقلت قدماي عن المشي دخلت مسجداً لصلاة العشاء ، وعقب الصلاة قام أحد الوعاظ فحدثنا حديثا جميلا أصغى له الجميع ، تساءلت لم جلس الجميع؟! ، أدركت أن من الأسباب ربما تخوّل الموعظة حينا دون آخر، مما جعل لها لذة ورونقا لا يوصف ، الأمر الذي جعل الجميع يصغي لها ، بخلاف بعض مساجدنا اليمانية التي ليل نهار مواعظ ، فما أن يقف الواعظ حتى ينفضّ عنه الناس ، فارّين هاربين ، رغم قوله لهم لا نطيل عليكم إن شاء الله ، والسبب أن طبلة الأذن محدودة أيضا محدودية العلم والفهم .

ولا يعني هذا أيضا بدوره تكميم الأفواه بل لا بد من ترشيد علمي للموعظة المسجدية .

المهم خرجت لأستقلّ سيارة إلى منزلي انتظرت أكثر من نصف ساعة فلم أجد ، ثم وجدت شخصا ليس على سيارته ملامح سيارات الأجرة ، استوقفته فوقف ، وأوصلني إلى منزلي ، أخرجت ما في جيبي من نقود ، بيد أن الرجل رفضها ، رغم إلحاحي عليه .

وفي اليوم التالي كان لزاما علي الذهاب إلى مكتبي ، ولأنه ليس لدي إلا سيارة واحدة يتيمة ، وهي في الصيانة كما ذكرت ، ترجلت قليلا ريثما أصل إلى سيارات الأجرة ، والتي في الغالب نادرة ، اقتربت من إحدى المدارس ، فوقف لي سائق يظهر عليه أنه من طلاب هذه المدرسة ، فأخذني إلى موقف السيارات ، وجاهداً حاولت إعطاءه بعض النقود ، غير أنّ الفتى رفضها ، وانصرف راشداً ، كما فعل الأول ، فقلت عجباً ماذا جرى للعالم؟!! .

وفي الموعد المحدد ذهبت فاستلمت سيارتي دون إشكال ، وودّعني السمكري بمثل ما استقبلني به ، من الإكرام والحفاوة والحديث العذب الزلال ، رغم أن المبلغ الذي دفعته مقابل هذه العملية ، نحوا من خمسين دولارا ، غير أن فوائد كثيرة وجمّة قطفتها في هذه المدة ، أوجزها فيما يلي:

1) ضرورة التربية الإيمانية لكل أبناء الأمة القائمة على غرس معاني الحب والإخاء والصفاء والتعاون والصدق والأمانة والسلام ، وحرمة الغطرسة والكبر ، والرشوة والعنتريات الزائفة .

2) صورة رائعة تتحدث عن نفسها في المدينة الفاضلة من الجمال والروعة يتعاون الجميع في رسمها وإبرازها والحفاظ عليها .

3) ضرورة قيام المدينة الفاضلة الراقية والحضارية على النظافة المادية والمعنوية وعلى الحشمة والخلق الفاضل الرفيع .

4) ثمة مدناً كثيرة فاضلة وثمة صورا مشرقة رائعة بديعة في أمتنا لا تراها أعين الصحافة والفضائيات، وتعمى عنها أعين وأقلام كثير من الكتّاب ، مع كثرتها ، فيما الكثير لا يلحظ إلا مواطن العفن والفساد ، وللأسف .

 فما أحوجنا لإبراز حضارتنا وأخلاقنا وقيمنا للآخرين ، ونشرها على أوسع نطاق ممكن .

والله تعالى من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.

Moafa12@hotmail.com