عندما يغدو التطاول على الدين تنويرًا
بقلم/ إحسان الفقيه
نشر منذ: 3 سنوات و 10 أشهر و 3 أيام
الثلاثاء 29 ديسمبر-كانون الأول 2020 06:53 م
  

كل شيء في أمتنا هو ابن الماضي والسنين، لا ينقطع عن الجذور، حتى وجوه الفلاحين المُتعبين تنطق بحديث الأجداد، كل ما فيه يُعبّر عن التسلسل الزمني متصل الحلقات، ليس في حقوله نبتة شيطانية، فكل ما فيه مألوف سوى لوثة فكرٍ دخيل.

مظلوم هو النور، حين ينتسب إليه من غرق وأغرق في ظلام الفكر الدامس، مظلوم هو النور عندما تُسرق دلالاته وتُهدى إلى عتمة المنطق.

الأثر يدل على المسير، والبعْرة تدل على البعير، لكن الألقاب لا تُعبر بالضرورة عن صاحبها، وهذا شأن التنويريين في بلدي، يخطفون الأبصار ببارقة الألفاظ، ويخطفون معها مباني العقول والأفهام، ويجعلون من الإظلام تنويرا.

فلْتُبحر كيفما تشاء ووقتما تشاء بين سطور دعاة الفكر المُستنير، ستدرك من دون عناء أنها تتمحور حول العبث بثوابت الدين، فأنت تنويري إذا لم يكن لديك مُقدّس تُعليه فوق نظرة البشر الناقدة، أنت تنويري عندما تنزع عن الإسلام تَفرَّده وتَميُّزَه، وتُجرِّده من شموليته وتُذيبه في المناهج الأخرى. أنت تنويري إذا أخضعت الشريعة لميزان عقلك وذوْقك، وأنت تنويري إذا فصلت حاضر الأمة عن تُراثها، وأنت تنويري إذا رأيت أن أحكام الدين مكانها خيام الصحراء في الأزمان الغابرة، لا عصر ارتياد الفضاء. بخلاف ذلك فأنت ظلامي، إقصائي، رجعي، متخلف، متقوقع، لا تُحسن سوى خطاب الكراهية.

   تُرك الحبل على الغارب لكل ذي قلم رشيق، يناجز كل من يحمل فكرة إسلامية أصيلة، يخلط الحابل بالنابل، لا يفرق بين الاعتدال والتشدد

في أمتنا تُرك الحبل على الغارب لكل ذي قلم رشيق، يناجز كل من يحمل فكرة إسلامية أصيلة، يخلط بين الحابل بالنابل، ولا يفرق بين الاعتدال والتشدد، ولا بين الثوابت والمتغيرات، خطابه ممزوج بالكراهية، بينما هو يستخدمها فزاعة في وجه حَمَلة الشريعة. لم نرهم يزاحمون الأطباء وعلماء الفلك والجيولوجيا والكيمياء وغيرهم من المتخصصين، الذين لا يمُتون إليهم بصلة، لأنهم ببساطة ليسوا من أهل التخصص، بينما يسوغون لأنفسهم الخوض في ما دق من مسائل الشريعة، وهم ليسوا من أهل العلم بها؟ يناطحون نصوص القرآن وينكرون حجاب المرأة؟ فقط المرأة المسلمة، بينما لا تمتد ألسنتهم للراهبات لابسات الحجاب، ولم ينتقدوا الغرب المتحضر، وفي كل بقعة من أرضه صورة مرسومة لمريم أم المسيح عليه السلام وهي ترتدي حجابها كما تخيله الرسامون. يعتبرون كل سلوك يصدر عنهم حرية شخصية، لكن الحرية تقف عندهم، فما يمارسه الآخرون من شعائر دينية يؤمنون بها، إنما هو ضرب من التخلف والرجعية، وإغراق للبلاد في ظلمات الجهل وأسْر الماضي. يبحثون عن مصانع الإرهاب والتطرف في حلقات تحفيظ القرآن، مع أنها لم تنتج هذه النظرة الشوفينية التي يتجهون بها إلى الشعوب، ولم تنتج الفكر الإقصائي الذي يمارسونه أو ينتقدونه بانتقائية تامة، علمًا بأن تلك المحاضن تربي على أرقى القيم الإنسانية، وأسمى صور التعامل مع البشر، نُعلّم فيها أبناءنا «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة» ونُربيهم في ربوعها على «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا» ونصف لهم سمات النبي بما وصفه ربه «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» ونعلمهم فيها الإحسان إلى أصحاب الملل الأخرى «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم».

التنويريون في بلادنا لا يسلّون أقلامهم على المستشرقين الذين تناولوا القرآن بغرض التشكيك في قدسيته والطعن فيه، ومحاولة ربطه بالتوراة المحرفة، واعتبارها أحد مصادره، وامتدحوا الشخصيات القائلة بفرية «تاريخية القرآن» والزعم بأنه مرحلة تاريخية جاءت مناسبة لحقبة النبي محمد «صلى الله عليه وسلم» فقط، والترويج لنقصان القرآن. هم يعتبرون الحديث عن الغيبيات – مثل الحور العين وأوصاف الجنة وعذاب القبر ونعيمه وأشراط الساعة – يُكرّس لتغييب العقل والمنطق، وأنه من قبيل غسل الأدمغة، للتوجيه في أي اتجاه، ونحو أي هدف حتى لو كان تفجير النفس، لكنهم لم يشيروا من بعيد أو قريب إلى حديث الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان وغيره من الساسة الأمريكان عن معركة هرمجدو في آخر الزمان، ولم يتهكموا على جورج بوش عندما تكلم مع الرئيس الفرنسي عن يأجوج ومأجوج، ولم يسخروا من نتنياهو عندما تحدث أن التطبيع تحقيق لنبوءة توراتية. ولا أدري هل غاب عنهم أن تلك النصوص التي تتناول الغيبيات هي النصوص نفسها التي يتناقلها ويدين بها ويتفاعل معها المسلمون عبر أكثر من 14 قرنا من الزمان؟ فلمَ لمْ يظهر الإرهاب سوى في عصرنا هذا؟ ولماذا لا يتناولون تلك النصوص التي امتلأت بها الكتب الأخرى، والتي أمرت بقتل الأطفال والنساء والشيوخ وبقر بطون الحوامل ونهب البيوت؟ علما بأننا لا نقطع بصحة هذه النصوص في نسبتها إلى الكتب الأصلية.

فإلى متى يستمر هذا التطاول على الدين وثوابته بذريعة التنوير؟ إنه لابد من وقفة جادة وصيحة جماهيرية قوية تطالب بالتصدي لهذا الاستفزاز الذي ينتج ردود الفعل الهمجية الفوضوية للمتسرّعين الجاهلين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.