الموت بصيغة استهلاكية
بقلم/ إلهام محمد الحدابي
نشر منذ: 11 سنة و 3 أشهر و 21 يوماً
الخميس 05 سبتمبر-أيلول 2013 06:53 م

تمهيد: لم أبك عندما رأيت ابتسامتها لأول مرة؛ شعرت لوهلة ان تلك الابتسامة انتصرت على الرصاص...

لكني في قرارة نفسي كنت أبكيها، أبكي أسماء التي تشبهني..وتشبه أختي...وبنات عائلتي..ونسوة الحي..

أوقن أن الحياة امرأة؛ وعندما تموت امرأة في سبيل الحياة...تموت الحياة.

 كم حزنت عندما رأيت ابتسامتها المتفائلة، بهذه البساطة يمكن للموت أن يسرق الحياة من شفاه أحدهم...!!

كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة في أحد المستشفيات الميدانية في مصر...

الطبيب يصلح من وضع المغذية وبعض الأنابيب التي قد تمدها بالحياة، وأنا وآلاف المشاهدين نقف خلف شاشة صماء، ترسم الأحمر...والأبيض بفتور، نشرة الأخبار تقول أن ذلك الدم سقط بالقرب من سيناء، بينما تأتي نشرة العاشرة وتؤكد على أنه سقط في دمشق...

بالنسبة لي؛ دمشق أو مصر...او اليمن، جميعها مكان واحد وإن لم يتفق ساسة الأخبار.

الساعة العاشرة مساءاً، جدي يريد أن يعرف آخر ما استجد في شأن سورية، زوجة جارنا تدعو الله أن ينصر بشار، وابنها يخبر أخي بأن الحرب العالمية الثالثة قادمة لا محالة..من أسوار دمشق.

كان يتحدث بنوع من التفاؤل وكأن بطولة ما ستحدث عما قريب، لولا أني أدرك أن سنه يفوقني بخمسة أعوام على الأقل لجزمت بأنه لم يشهد حرب العراق!

أي بطولة تلك التي تنجبها الحروب؟!

وأي كرامة يمكن أن تتأتى بالدم!

الكذب هو أبشع اختراع نظمته البشرية، حتى أولئك الذين ينافسون بعضهم في الصعود إلى القمر..يكذبون، نعم يكذبون، هل بالإمكان لبشر أن يرى كل ذلك الألم ولا يتألم، وإن تألم...هل يبقى القمر جزءاً من روتينه..

لا شأن لي بهم، سأعود إلى قمري الحزين، إلى الأرض العربية،التي نصفها لم يعد يتحدث لغته، ونصفها بات يكره كل شيء له علاقة بجلدته وعروبته، ولم لا..أليس الدم العربي هو العنوان الأبرز لصحف العالم! لن أبرر لأولئك الموتى في حياتهم، لكن يمكنني أن أغفر للأحياء في قبورهم.

صورة اسماء تعود من جديد إلى مخيلتي، كانت ترتدي قميصاً زهرياً، وكنت كالعادة أرتدي السواد، لم أغبط نفسي قط على اتشاحي بالسواد إلا في ذلك اليوم، يوم قتل أحدهم بدم بارد ، تهمته أنه ردد أحد شعارات الثورة، سقط في الأرض، تسمرت للحظات...تذكرت دورات الإسعافات الأولية التي قد أخذتها أكثر من مرة تحسباً لأي طارئ..

لم أتخيل قط أن يكون هذا الطارئ جثة أحدهم حملته بيدي إلى أقرب رصيف، كنت أصرخ بشكل هستيري علمت ذلك بعد أن بح صوتي لثلاثة أيام متتالية، كان جرحه يشبه قنينة عصير التوت، الغريب أن ذلك العصير لم تكن له رائحة..

ربما هي مجرد دقائق تلك التي استغرقتها روحه في رحلة الذهاب، لكني مستمرة حتى اللحظة في رحلة الذهول، اتشاحي بالسواد ساعدني على ألا أرى كمية الدماء المصبوبة فوق وشاحي في الأخير. أيقنت بأنه كان دم...دم ولم يكن عصير توت بري.

اسماء بملابسها الزهرية تختفي خلف السحب، قيل أنها ماتت بعد أن جف توتها البري، وقيل أنها عانت قليلاً قبل أن تغادر للأبد،متأكدة من أنها كانت عطشة في تلك اللحظة الفاصلة، عطشة لوطن ربما تخلى عنها تلك اللحظة تحت نير الدبابة، وربما أنه دخل السجن مع بقية الجرحى الذين لم يموتوا بالرصاص..

وربما أنه انضم للمقهى الذي يقبع فيه وطني، يرقبوننا بصمت يشبه الموت، ويبتسمون بلغة لا نفهمها ولا أظن أنهم يفهمونها، لا أدري ما الذي تبقى لكاتب السيناريو حتى يشعر بالامتنان لكتابه..

ربما أكون أنا الحلقة القادمة، لا أدري إن كنت سأموت عطشاً للوطن مثلك يا أسماء، أم سأكتفي بإغماض عيوني للأبد.