الموسيقى والفيروس
بقلم/ د.مروان الغفوري
نشر منذ: 4 سنوات و 8 أشهر و 3 أيام
الخميس 23 إبريل-نيسان 2020 06:49 م
 
  1. سيغير الوباء شكل حياتنا، أشياء كثيرة في سلوكنا وخيالنا، وسنعيش لزمن وقد فقدنا إحساسنا القديم بالأمن والزهو. سنصبح أقل غروراً وربما أكثر بخلاً. البخل ناتج طبيعي عن المخاوف. مدن جنوب الجزيرة العربية الصغيرة الواقعة بين المحيطات والصحاري الشاسعة هي مدن عاش أهلها خائفون، وعرفوا تاريخيا بخوفهم الشديد على المال، فثمة غائلة وشيكة قد تأتي من البحر أو الصحراء. لا ينفق المال سوى أولئك الذين تأكدوا أن المستقبل سيضمن لهم استمرار المصالح والأرزاق، وأن المال سيعود مرة أخرى.

 تتوقع منظمة التجارة العالمية انهياراً في سوق البضائع بنسبة قد تصل إلى 32%! أي: ثلث سوق العالم. ندور داخل شكل هش للاقتصاد العالمي، عرضة للتصدع في أي لحظة، وأكثر ما يهدده هو "الخطر المعنوي"، إذا استعرنا من كروغمان. سيمضي الاقتصاد، يدور ويدور طالما كان الأمن حاضراً، والثقة متوفرة. إذا ذهب كل المودعين إلى البنك في الوقت نفسه فلن يجدوا أموالهم. الأموال موجودة، ولكنها أيضاً غير موجودة. هناك خمس كراسي لعشرة أشخاص. لنبق واقفين، كل شيء على ما يُرام، ولنرقص ونحتفل، وإذا أحس أحدنا بالتعب فليرتح قليلاً على واحدة من الكراسي الخمس. إذا شعرنا جميعنا بالإنهاك الشديد وقررنا الجلوس في الوقت نفسه فإن خمسة منّا سيكون عليهم أن يجلسوا على الأرض. علينا أن لا نتعب جميعنا في وقت واحد، وأن لا نحس بالخوف الشديد. إذا خفنا فسوف نذهب إلى المتجر كفوج واحد، ولن نجد ما يكفي من الخبز. تاريخياً ثمة أطوار من الصعود البطيئ والهبوط المتدرج لكل "اقتصاد". اقتصادنا الحديث استثناء، فهو عرضة للانهيار المفاجئ By crisis

في "لعبة الكراسي الموسيقية"هناك مجموعة من الأشخاص يدورون حول كراسي أقل عدداً، وموسيقى تتحكم باللعبة. عليهم أن يواصلوا الدوران مادامت الموسيقى تصدح. وإذا توقفت فليجلسوا كلهم. واحد منهم على الأقل لن يجد كرسياً، وعليه أن يغادر اللعبة. كي نشترك فيها جميعاً، لا بد أن تواصل الموسيقى عملها، وأن لا تتوقف ولا للحظة واحدة.

ما يحدث لأسواق النمط أمر مريع، يهدد كل أشكال الاقتصاد في العالم، سوق النفط هي التي تحمل الناي، وحولها يدور العالم. إن أبعد نمط للانتاج المستقل عن النفط هو مرتبط بتلك السوق بشكل أو آخر. على العالم أن يغادر تلك السوق من أجل حياة بيئية أكثر أمنا، وليحدث الخروج خلال عقود من الزمن لا بين عشية وضحاها.

  1. الآن تحدثنا منظمة الصحة العالمية محبطة. بحسب رئيس المنظمة "تيدروس" فإن قرابة 3% من "سكان العالم" من المحتمل أنهم قد أصيبوا بفيروس كوف سارس 2 [كورونا]. بالنسبة للمنظمة فهذا أمر محبط بعض الشيء، فهو يعني أن نسبة صغيرة للغاية باتت محصنة ضد الفيروس. 97% لا يزالوا عرضة للإصابة. أصدر بالأمر تحذيراً جديداً: الخروج من العزلة/ الحظر سيحدث مشكلة كبيرة، ستزيد الحالات بصورة كبيرة. من أين جاءت المنظمة بهذه النسبة؟

من مسوح صغيرة ومبكرة!

في الأيام الماضية ظهرت بيانات عديدة.

مثلاً 1: دراسة أجريت في مقاطعة سانتا كلارا [في ولاية كاليفورنيا]. في الدراسة أخذ الباحثوا عينات دم من حوالي 2300 شخص لم يسبق أن شخصوا كمصابين بالفيروس. لاحظ الباحثون أن قرابة 3% منهم يحملون، بالفعل، أجساما مضادة في دمهم. لقد أصيبوا دون أن يلاحظوا ذلك. خذوا هذه الملاحظة المهم: يعيش في المقاطعة حوالي 2 مليون نسمة، تقول السلطات إن عدد الحالات الموجبة قرابة 1100 حالة. ما وجده الباحثون أمر مختلف: قرابة 80 ألف شخص أصيبوا بالفيروس، وليس ألفاً واحدة. إذا كانت نسبة الوفيات حوالي 2% [من الألف الحالة] فإن هذه النسبة تصبح: 0.03%. وهي نسبة ضئيلة للغاية، ربما أقل من نسبة وفيات الإنفلونزا العادية. السؤال الذي طرحته وول ستريت جورنال بالأمس: من أجل هذه النسبة الضئيلة من الوفيات علينا أن ندمر اقتصاد الكوكب؟

مثلاً 2: أجرى المستشفى المركزي في ووهان دراسة على حوالي 3300 عامل في المسىتشفى وحوالي 5000 ألف من زواره، ممن لم يصابوا بالفيروس. وجد الباحثون إن 2% [داخل عينة دراسة بلغت حوالي 8300 شخص] يحملون أجساماً مضادة ضد الفيروس، أي أصيبوا دون أن يلاحظو ذلك.

قالت السلطات في وهان إن عدد الإصابات وصلت حوالي 50 ألف حالة. الباحثون هنا يرفعون العدد إلى ربع مليون. أما نسبة الوفاة، بأخذ العدد الجديد في الاعتبار، فقد هبطت إلى ما دون الواحد في المائة.

مثلاً:

قالت دراسة هاينسبيرغ، التي قام بها بروف. شتريك، فقد وجدت أن 14% من الناس الذين لم يسبق أن أصيبوا بالفيروس صاروا يحملون أجساماً مضادة، بالفعل! ما يدفع نسبة الوفيات المعلنة في ألمانيا إلى الانخفاض إلى كسور صغير في المائة.

دراسة أخرى من فرنسا هبطت بنسبة الوفيات إلى ما تحت الواحد بالمائة.

حسناً، لنعد إلى تيدروس، رئيس منظمة الصحة العالمية [ملحوظة: قامت الصين بتسميته للمنصب في 2017 وأصرت على اختياره خلفاً لرئيسها الصيني المغادر]:

إن 2% من البشرية، النسبة التي طرحتها المنظمة، يعني 230 مليون نسمة. وإذا وضعنا عدد الوفيات المعلن [قرابة 100 ألف] في الحسبان فإن نسبة وفيات الفيروس، عالمياً، تتراوح بين 0.03 و 0.04% .. بمعنى آخر: يحتاج الفيروس لإصابة ما بين 2000 و3000 شخص كي يتمكن من قتل شخص واحد!

لكنه يقتل مائة ألف خلال أسابيع قليلة! هذه معضلة معقدة. يقتل لكنه لا يقتل. نسبة صغيرة للغاية هي وفياته، لكنها تراكمية وفي لمح البصر. يطرح تحديا رياضيا غير مسبوق.

يطرح الآن سؤال جوهري: هذه نسبة وفيات ضئيلة للغاية، مقارنة بوفيات أي وباء آخر.هل نحن أمام فيروس غير قاتل؟ وهل جازف العالم بالتضحية باقتصاده وأمنه أمام وباء غير قاتل؟

هذه المعضلة هي السؤال المطروح الآن على أكثر من رصيف دولي. ما الذي يجري بحق الإله؟ وكيف نتدارك الأمر؟ أوروبا تعود مرّة أخرى إلى الحياة، ثمة دول مثل السويد لم تخرج من الحياة في الأساس. تفاخر كاتب سويدي مرموق بالأمس على وول ستريت جورنال، قال: "نحن نستمع للعلم ولا نخضع للتهاويل. مدارسنا مفتوحة، وبالأمس كنت في المطعم مع أصدقائي". معدل وفيات السويد مرتفع مقارنة بجاراتها :9% مقابل أقل من 2% لدى جارتها النرويج". مرة أخرى، هذه النسبة مضللة، فالسويديون مثل باقي العالم لا يعرفون العدد الحقيقي للحالات. تجري السويد الآن مسحاً على مواطنيها لتعرف نسبة من أصبحوا يحملون أجساماً مضادة في دمهم، أي أصيبوا ولم يشعروا. من المتوقع، كما جرى في بلدان كثيرة، أن تهبط نسبة الوفاة [رقمياً] إلى ما دون الواحد في المائة.

خذوا هذا المثال: قام مستشفى بريسبايتيريان، نيويورك، بفحص حوالي 212 امرأة حامل جاءت للوضع. لاحظ الباحثون أن 14% منهن يحملن أجساماً مضادة ضد الفيروس، ولم يسبق أن شخصنَ كمريضات في السابق. 

هذه البيانات تحفر عميقاً في "قصة الفيروس" وتضعنا أمام حقائق جديدة، ومن جديد يُطرح السؤال:

لماذا أوقفنا الموسيقى؟

  1. لا إجابة حتى الآن. البيانات تتصاعد. تقول دراسة نشرت بالأمر أن آلية انتشار الفيروس في المناطق الملوثة تشبه آلية انتشاره في المناطق المكتظة. التلوث، الاكتظاظ، الصحة العامة الفردية والجماعية، شروط عديدة تسهل على الفيروس حركته، وتجعله مميتاً أحيانا.ً

بالأمس توفيت سيدة جديدة في مدينتنا، بعد إصابتها بالفيروس. كانت تبلغ من العمر 88 عاماً. لا يزال عمر الوفيات فوق 85 عاما في المدينة هُنا، حيث نعيش، وفوق الثمانين في ألمانيا. يصيب الشبان ويقتل الشيوخ. هذا لا يعني أنه مرض خاص بكبار السن، فهو مرض لكل الأعمار، ولكن مجموعات بشريى معينة هي الأكثر عرضة، وأقل مقاومة. علينا أن نتمهل الآن، ونتردد في القفز إلى الاستنتاجات، وأن لا نقترح على الفيروس ما الذي يبنغي عليه فعله. نحن أمام وباء مراوغ، قد يسحق النظام الطبي دون أن يكون قاتلا شرساً. هذه المعادلة الحرجة لا بد وأن تتحصل على إجابة شاملة واستراتيجية في طريق بحثنا عن باب الخروج.

الدراسات التي أحلت اليها بالأعلى مبكرة ومحدودة، ومن الصعب الاستناد اليها في صناعة استراتيجية خروج أو في إعادة تقييم ضراوة الفيروس. نحن بحاجة لمسوح كبيرة، عشوائية، متعددة المراكز، وباستخدام تقنيات ذات حساسية أعلى. استناد منظمة الصحة إلى هذه الدراسات "الوخزية"  هي قفزة مستعجلة بعض الشيء، سمحت بمناقشتها. نهاية أبريل سنحصل على بيانات أولية لمسح ألماني واسع شمل حوالي مائة ألف شخص، وستكون نتيجة هكذا مسح بالتأكيد ذات دلالة.