إلى علي ناصر محمد .. دعنا نتذكر بيافرا!
بقلم/ د.مروان الغفوري
نشر منذ: 11 سنة و 7 أشهر و 5 أيام
الأربعاء 27 مارس - آذار 2013 05:53 م

عزيزي علي ناصر محمد،الأمر لا يتعلق بحرب 94. حتى هذه الحرب خضتها أنت إلى جانب نظام صالح. أما البطل الحقيقي لها فهو القائد العسكري المرموق: عبد ربه منصور هادي. كان أيضاً قد حارب إلى جوار كتفي صالح. يصعد خيال أحد أبرز رجالات النظام الجنوبي "شعفل عمر" فيدوّن: حتى الجفري كان جاسوساً أثناء الحرب، يقيم في فندق عدن بينما يرسل تقاريره إلى صنعاء. لم تكن العصيمات هي من حسمت المعركة بل قبائل أبين وشبوة. ثم تعرّض الجنوب للنهب، كما لو كان غنيمة حرب، اتفق معك. لقد نهبه المنتصرون الذين كسبوا الحرب. تذكر جيداً من هم أعضاء فريق المنتصرين. أخطر تقرير عن حالة النهب التي جرت منذ الحرب يقول إن حوالي ثلث اللصوص جنوبيون. التقرير كتبه أكاديمي حضرمي لا شيخ من مأرب. ثلث اللصوص يعني أن نسبة "انتشار" اللصوص الكبار في الجنوب تساوي نسبة انتشارهم في الشمال إذا أخذنا في الحسبان "اللصوص إلى عدد السكان". هنا يصبح لادعاءات التحضر والمدنية معنى هش. أدعوك للاسترخاء قليلاً أمام فيلم "يا عزيزي كلنا لصوص" بطولة محمود عبد العزيز. النص الأصلي للفيلم من إبداع إحسان عبد القدوس.
عزيزي الرئيس علي ناصر محمد،
اخترت الكتابة إليك بعيداً عن أعضاء سيرك اللامعقول لأنك مثقف. فمن بين كل تلك الحشود التي تقول كل التناقضات في جملة واحدة أحترمك أنت الأكثر. دعنِ إذن أكمل خطابي.
تحمّس الصحفي الجنوبي المعروف "لطفي شطارة" قبل عامين للقضية الجنوبية على طريقة باعوم. غير أن شطارة أيضاً رجل مثقف، وهذا يصنع فرقاً دقيقاً. نشر موقعه "عدن برس" عرضاً موجزاً لكتاب صدر باللغة الإنجليزية عن القضية الجنوبية. لكن الكتاب قال أموراً مفاجئة، لا تتحمس لما يقوله المتحمّسون له. فالمؤلف الانجليزي يذهب إلى أن دخول نظام الحكم الجنوبي في الوحدة لم يكن عملاً بطولياً، ولا فدائياً. كان هروباً من ضغوط وحروب المستقبل الوشيكة، مع انهيار الحزام السوفيتي. يقول المؤلف أيضاً إن فكرة الانفصال، بعد ذلك، تعززت في خيال البيض وفريقه مع تدشين إنتاج النفط بكميات تجارية منذ العام 1993.
مرة أخرى، الوحدة والانفصال بالنسبة للنظام السياسي الجنوبي هما موضوعان يعتمدان في الدرجة الأولى على ترتيبات ومشاكل نظام الحكم وقدرته على السيطرة عليها. عندما اكتشف نظام الحكم في الجنوب أن الدولة قد عثرت أخيراً على مصدر سهل وغني للدخل القومي سقطت الفكرة التكتيكية "الوحدة". لاحظ أني استخدم تعبير "الوحدة التكتيكية" مدعوماً بيقين عميق، ومشاهدات واسعة، تدفعني لتصديق ما أقوله. دعنا نلعب مع الأرقام قليلاً: ففي كل خطابات الحراك الجنوبي وعلي سالم البيض ترد كلمة "الحرية، الديمقراطية" أقل حوالي عشر مرات من كلمة "الثروة". يريدون استقلال الدولة الجنوبية ليتحدثوا عن الثروة لا عن الديمقراطية. الديمقراطية دالة تمنع الحديث عن الثروة حتى نشوء الدولة وتمايزها واستقرار مؤسساتها. أما الذين يسرفون في الحديث عن الثروة ففي الغالب ـ في كل التجارب العالمية ـ يواجهون أوقاتاً صعبة مع الديموقراطية. فالأخيرة تتحدث عن التمثيل العادل، عن المؤسساتية، عن تبادل السلطات. الذين يتحدثون كثيراً عن الثروة يقدمون أنفسهم في زمن ما بعد الاستقلال باعتبارهم أبطالاً أسطوريين، آباء مؤسسين للدولة الوليدة، أي جداراً عازلاً جديداً ضد الديمقراطية. تذكّر الرئيس موجابي. هكذا انتقلت غالبية ثورات التحرير بكل خطاباتها وثقالتها إلى الطور الستاليني، طور ما بعد التحرير، كما يعتقد المؤرخ المغربي المرموق عبدالله العروي. أنت تعرف جيداً، كمثقف لا كسياسي فالسياسي في بلدنا لا يعرف شيئاً، إن حروب الأرض جرت كلها، أو أغلبها، حول الثروة. ستبدو هنا فكرة "استقلال الجنوب" التي ترسو على موجات هائلة من أحاديث الثروة كما لو أنها مقدمة لحروب جديدة في الجنوب. كأن التاريخ سيدون في المائة سنة القادمة: الجنوب، أرض الدم، حروب الثروة والتحرير.
 سأذكرك بواحدة من تلك الحروب بعد قليل، وهي أمر شديد الدلالة بالنسبة للموضوع الذي نحن بصدده. دعنا أيضاً ننسَ موضوع الحوار الوطني مؤقتاً فغالبية من اشترك فيه يفهم القضية الجنوبية كموضوع رومانسي. هناك مثقف كبير استطاع أن يفكك موضوع القضية الجنوبية بصورة غير مسبوقة، هو طاهر شمسان. لقد رأى مكتب الرئيس هادي أنه لا يستحسن أن يكون هذا الشخص ضمن أعضاء الحوار الوطني لأنه لا يتعاطى القات في حضرة موظفي المكتب. في مشهد الحوار في صنعاء تبدو القضية الجنوبية أغنية واحدة يشدو بها ألف مغني. وبالطبع: كل مغني له موال. هل تذكرك هذه الظاهرة الفريدة بشيء؟ حسناً سأذكرك بعد قليل.
سقط نظام صالح وتصدرت القضية الجنوبية كل المشهد. الجميع اشترك في كورال عظيم يغني للقضية الجنوبية. قدمت اقتراحات شديدة الذكاء، تعزز فكرة الدولة المدنية اللامركزية وتعمد في الأساس إلى تقليص تغول المركز في الأطراف، أي إلى الحسم من صلاحيات العاصمة، وسلطاتها. حتى هذه اللحظة لا تبدو هذه الخطاطات مقنعة. غير أن هذا اللااقتناع يؤكد مرّة أخرى فكرة الوحدة التكتيكية التي سيطرت على نظام الحكم في الجنوب في لحظة تاريخية شديدة الحرج. لقد أصبح الجنوب، فجأة، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي أعزلَ في محيط إقليمي معادِ، تتزعمه السعودية نفسها. فكّر قادة الجنوب، آنئذٍ: استقرار النظام السياسي أصبح في مهب الريح. في تلك الأثناء بدا البيض ونظامه على استعداد ليس فقط للوحدة مع صنعاء بل حتى مع عُمان، والسودان. كان لا بد لذلك الجدار العازل الذي بنته موسكو أن يسقط، بعد أن سقطت جدران موسكو في كل المعمورة، وفي المقدمة منها: برلين.
في العام 1967 بدا القادة في جنوب شرق نيجيريا يتململون من فكرة الوحدة. ارتفع سقف مطالبهم الفيدرالية. فنيجيريا بلد موزاييك، متعدد الإثنيات، يحتوي على أكثر من 300 إثنيةـ عرقية. رغم ذلك يبدو حتى الساعة متماسكاً. الثروات النفطية موزعة بشكل غير متساوي على الجغرافيا. قادة جنوب شرق نيجيريا، في بيافرا، قرروا التصعيد مع الحكومة الاتحادية. خاضوا مناوشات إعلامية، جماهيرية وسياسية. تدخلت إسرائيل والبرتغال لدعم مشروع الانفصال في جنوب نيجيريا. لقد كان الجنوب ثرياً، يطل على المحيط. وكانت البرتغال متحسسة من دعم الحكومة الاتحادية لمشاريع التحرر عن الاستعمار البرتغالي في القارة السمراء. أما إسرائيل فقد صنعت حليفاً جديداً وهبته ترسانة الأسلحة الروسية التي حصلتها للتو من حربها مع العرب في 1967. في غانا قدمت عروض سياسية مذهلة للجنوبيين في مؤتمرات الحوار والصلح. كانت الحكومة الاتحادية تبدو مرنة مع خصومها وحريصة على وحدة التراب النيجيري في آن واحد. سمع القادة الجنوبيون، وكانوا في الغالب جنرالات عسكريين يتحدثون عن الثروة لا عن دولة المؤسسات، عروضاً سياسية على شاكلة الفيدرالية، الاتحادية، وتفاصيل اقتربت من فكرة الحكم الذاتي. في سوء تقدير تاريخي عاد القادة من مؤتمرات التفاوض إلى جنوب نيجيريا. غرقوا في الخطابات الرومانسية حول التحرر، الاستقلال، مواجهة الهيمنة، عن الدولة العظيمة التي ستنشأ قريباً واسمها دولة بيافرا. وهكذا غرقوا في حرب عسكرية واسعة النطاق مع الدولة الاتحادية استمرت ثلاث سنوات انتهت بهزيمة كل التشكيلات العسكرية التي شكلها القادة الجنوبيون وعودة إقليم بيافرا إلى السيادة النيجيرية، لكن هذه المرة بلا عروض سياسية سخيّة، وبتكلفة بشرية بلغت "مليون قتيل". الآن، في هذه اللحظة، بعد ما يقرب من نصف قرن عن حروب بيافرا يبدو جنوب نيجيريا مستقرّا في علاقته مع الحكومة المركزية. أما المواطنون فهم يأبهون للوظائف والمدارس والتأمين الصحي، ولا يتذكرون حروب بيافرا، ولا حتى يأبهون لها. حركة "ماسوبا" الجنوبية تحدّث السكان في إقليم بيافرا عن مشروعها ذي الـ 25 خطوة لتحرير الإقليم وإعلانه دولة مستقلة. لا يعلم أحد في بيافرا عدد الخطوات التي قطعتها ماسوبا، وما إذا كانت بالفعل قد قطعت خطوات في اتجاه الاستقلال. لكن مليون قتيلاً، في الحرب والمجاعة الناشئة عن الحرب، يدفعون السكان للتفكير على نحو مختلف، عن دولة أكثر مؤسساتية، أكثر ديمقراطية، أكثر عدالة، في عالم متداخل، متسارع، لم يعد يكترث للعلم الوطني والنشيد القومي. يدخل العالم في طور ما بعد الدولة الوطنية بينما يتحدث حراك ماسوبا عن مفاهيم تنتمي إلى ما قبل الحداثة وما قبل الصناعة. الطور التاريخي الراهن الذي هيمنت فيه الشركاتية مخلقة المواطن العالمي العابر للثقافات والانحيازات، هو أيضاً طور ما بعد الاستقلال. فالدول التي أفلتت عن الكولونياليات الغربية، في عقود الاستقلال الثلاثة التي تلت الحرب العالمية الثانية، يطمح مواطنوها إلى العودة مرّة أخرى إلى الرعاية والوصاية الكولونيالية بعد اكتشافهم لكارثية الدولة الوطنية الاستبدادية. إذ لا يستبعد، عزيزي علي ناصر محمد، أن مواطني عدن قد تمنوا عودة المستعمر البريطاني في أقرب وقت ممكن عندما كنتَ أنت تصدر قرارات الإعدام في حق الفرقاء السياسيين عبر الراديو. وكانت قواتك تنهزم أو تنتصر داخل التراب الوطني، ضد الشركاء في الوطن الذين ليست عيونهم ملوّنة، ولا يتحدثون الإيطالية أو البرتغالية!
عزيزي الرئيس علي ناصر محمد،
عندما يتحدث رفاقك عن السودان أتذكر بيافرا. وعندما يسرفون في الحديث عن الهوية الثقافية أتذكر كوكب الأرض الجميل. فغالبية دول العالم هي دول موزاييك، فسيفساء ثقافية وإثنية. في الصين، وهي عضو في مجلس الأمن لديها حساسية استثنائية من موضوع تقرير المصير، يتحدث فقط 700 مليون نسمة لغة المندرين، اللغة الرسمية. أما الأمم المتحدة ففي النصف قرن الأخير كانت بياناتها وخطاباتها ومشاريعها تتحدث عن ما تسميه "التنوّع الخلاق". فعندما يؤكد العطّاس على أن هوية المكلا الثقافية تختلف جذرياً عن هوية الحديدة فإن الأمم المتحدة تصفق عالياً لهذا الاختلاف الذي يعزز فكرة المنتدياتية العالمية، أو التنوّع الخلاق. ولأن العطاس، فيما يبدو، قد توقف عن قراءة الكتب منذ زمن بعيد، فهو يفهم الظواهر الثقافية بطريقة رجل ما قبل مائة ألف عام، رجل الصيد القديم.
شخصياً، عزيزي الرئيس علي ناصر محمد، أحمل أغنية صلاح جاهين في جيبي "لا بإيدي سيف، ولا تحت منّي فرس". لن أكتب للشعب اليمني في الشمال: دافعوا عن التراب الوطني كما فعل النيجيريون ضد جنرالات بيافرا. هذه ليس معاركي، فأنا كشخص اعتيادي، ينظر للعالم بوصفه مكتبة، أكتفي بمديح كيلو متر مربع واحد تتوافر فيه الشروط الحديثة لدولة جديدة. فقط كنتُ أتذكر منذ قليل كيف انتهى التاريخ السياسي، والوطني، لجنرالات بيافرا الذين لم يعد منهم أحدٌ على قيد الحياة. لم يروا الدولة التي حلموا بها، ولم يكترثوا لنيجيريا الأم التي كان من الممكن أن يسندوها بأكتافهم لإنجاز إمبراطورية أفريقية على الأطلسي، تعود بالخير العام على الجميع. بدلاً عن ذلك تحول موضوعا الدولة والمستقبل إلى عملية قمار بدائية، أبطالها كهنة غير متحضّرين. وكما تجري الأمور دائماً، فقد انتهت تلك اللعبة الخشنة بخسارة كل الأطراف على بعد كيلومترات من المحيط الأطلسي. أردت أن أخطئ العبارة فأدونها هكذا: بخسارة كل الأطراف على بعد كيلومترات من المحيط الهندي.
أكتب لك هذه الرسالة ليس بلا مناسبة. فقد توفي قبل أيام الروائي النيجيري الأشهر تشينوا أتشيبي، ابن إقليم بيافرا. كان أتشيبي قد أيد إعلان جمهورية بيافرا 1967م. أدى الإعلان إلى مليون قتيل، وانهيار كلي ليس للنظام السياسي بل للنظام الاجتماعي. حزن أتشيبي كثيراً. بعد 14 عاماً على نهاية الحرب الأهلية كتب روايته "مشكلة مع نيجيريا". ربما اكتشف بعد تأمل عميق أن الدولة "التي ليست على ما يرام" طبقاً لتعبيره يمكن إصلاحها، وخلقها من جديد، عبر معالجة الأسباب العميقة عديدة الأبعاد التي جعلتها على الدوام "ليست على ما يرام". فالإعلانات الأخرى، التي اختبرها أتشيبي، كانت أيضاً كارثية.
فائق التقدير والاحترام.