حضور الحضارمة في الثقافة المصرية
بقلم/ أحمد هادي باحارثة
نشر منذ: 14 سنة و 4 أشهر و 16 يوماً
الثلاثاء 15 يونيو-حزيران 2010 09:47 م

لا يكاد يعرف عامة المصريين عن حضرموت سوي اسمها الذي ينتشر بارزًا علي لافتات مطاعمها الخاصة بوجبات المندي والكبسة ونحوهما ، لكن قليلاً منهم من يعرفون في أي موطن تقع ، وأن كثيرًا من أعلامها قد مروا بمصر ونهلوا من ثقافتها الثرية دينًا وعلمًا وأدبًا وفنًا وفكرًا ، وأن من هؤلاء من استقر بمصر وسامق بعض قاماتها ولاسيما الأديب الكبير علي أحمد باكثير الذي يعد أجني ثمرات العطاء الفكري بين حضرموت ومصر ، فكيف بدأت روابط الاتصال للحضارمة بضفاف النيل .

حينما وضعت خيل الفتح الإسلامي حوافرها علي ضفاف أرض الكنانة بقيادة القائد المسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه كانت العناصر اليمنية تشكل عمدة جيشه الفاتح جنداً وقادة ، وسجل الحضارمة حضوراً كثيفاً في تلك التشكيلة ما لبثت أن تبوأت لها في مصر مواضع استقرت بها واتخذتها موطناً وما إن بسط الإسلام لواءه في تلك الأرض الخصيبة التي أنعم الله عليها بذلك الشريان المائي الغزير والمتدفق حتي مد عدد كبير من قاطني حضرموت عيونهم إليها وتطلعوا إلي الهجرة إلي مصر ليجدوا في خصبها عوضاً عن القحط والجدب اللذين تشكو منهما بلادهم .

الحضارمة والاتصال بمصر

كانت أول هجرة في الإسلام للحضارمة إلي مصر في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وانضموا إلي سابقيهم من الحضارمة الفاتحين وانتشروا في مساقط مختلفة من الأرض المصرية ، ولم تمض فترة كبيرة من الزمان حتي كان أولئك الحضارمة في طليعة المؤسسين لمفاصل الدولة في مصر بوصفها ولاية تابعة لدولة الخلافة الإسلامية واحتل عدد من وجهائهم مواقع متقدمة وقيادية في السلم الوظيفي لهذه الولاية فاقوا بها غيرهم من مهاجري العرب وفاتحيهم بمصر لما تمتعوا به من خصال خلقية وصفات علمية تؤهلهم لذلك وتكسبهم ثقة أولي الأمر بالدولة الإسلامية وفي ذلك يقول المؤرخ الحضرمي محمد عبد القادر بامطرف :

 " إن طبيعة حضرموت الفقيرة ترغم أبناءها علي الهجرة سعياً وراء الرزق ويضطرهم هذا إلي اكتساب مزايا معينة كالمهارة والأمانة تكفل لهم النجاح في كفاحهم في البلاد الغريبة عليهم ، وقد ظهر هذا بوضوح في حياة الحضارمة الذين أقاموا بمصر حيث كان لهم اعتبار خاص لدي أداة الحكم بها ".

القضاء الحضرمي في مصر

يظهر لنا هذا الوضوح في مجال القضاء بمصر حيث " ضرب الحضارمة الرقم القياسي في عدد من ولي القضاء منهم ، ففي المدة ما بين عامي 84 و 244 هجرية أي حوالي قرن ونصف القرن ولي القضاء بمصر تسعة من رجال حضرموت أي بمعدل قاض واحد كل ثمانية عشر عاماً أولهم يونس بن عطية وآخرهم لهيعة بن عيسي " منهم من تولي القضاء بأمر من والي مصر ومنهم من تولاه بأمر من الخليفة نفسه حتي قال قائلهم في تلك المكانة العالية :

لقد ولي القضاء بكل أرض

من الغر الحضارمة الكرام

رجال ليس مثلهم رجال

من الصيد الجحاجحة الضخام

ولم يقتصر هذا الحضور الحضرمي في مصر علي مجال القضاء وحسب بل شمل قطاعات متعددة ومتنوعة إدارية وعلمية وأدبية وفنية وذلك علي مدي عصور طويلة باهت مصر خلالها بوفرة من الأعلام والمشاهير ممن ترجع أصولهم إلي تلك القبائل الحضرمية المهاجرة .

وفي أزمنة متأخرة حتي عصرنا الحديث دخلت مصر وجوه من أبناء حضرموت ممن ضاقت حضرموت عن أن تسع طموحاتهم وتشبع تطلعاتهم في التألق العلمي أو الأدبي من مريد للدراسة أو راغب في الإقامة في الأرض التي تشرق منها شمس العلوم والآداب علي سائر العرب علي تباعد بقاعهم ، وهكذا توثقت عري علاقة الإنسان الحضرمي بمصر التي بادلته بالوفاء وفاء وبالإقبال إقبالاً .

لقد فتحت مصر صدرها برحابة للحضارمة فاستقبلت بالإحسان زائريها منهم ووسعت لهم في معاهدها ولاسيما الأزهر ودار العلوم والجامعة المصرية ، ولم تكتف بذلك بل مدت إلي القاطنين في حضرموت كفاً ملؤها كتب وصحف بأقلام أبنائها تسلمها الحضارمة بابتهاج وشغف وطفقوا يقرءونها وعكفوا علي درسها فكانت سبباً متيناً اعتصموا به في تكوين نهضتهم الحديثة واتخذوها سلماً ارتقوا به إلي مراقي النهوض العلمي والأدبي التي أطلوا منها علي عصرهم الحديث ، وقد أدرك ذلك سعيد عوض باوزير حين أخبر أن الحضارمة في مطلع هذا العصر أخذوا " يقبلون علي الصحافة المصرية وبرامج الإذاعات العربية وقراءة الكتب الاجتماعية والأدبية الحديثة التي تصدرها البلاد العربية الناهضة وخاصة القطر المصري " .  لقد تبنت مصر تبنياً حقيقياً نهضة حضرموت الحديثة ففتحت صحفها ومجلاتها بجميع مشاربها وصفحاتها للأقلام الحضرمية سواء منها الطيور المهاجرة علي عشها الفسيح أو الماكثون في الوطن، فكانت تنشر كتابات بعضهم في صفحات بارزة كغيرهم من كبار كتاب مصر . كما اهتمت تلك الصحف ببعض ما كان يجري في حضرموت من نشاطات أدبية فتنشر أخبارها نشراً لا يخلو أحياناً من التفصيل لمجريات النشاط كما حدث مثلاً مع حفلة أقامها النادي العلمي بسيئون لتقليد أحد شعراء حضرموت لقب أمير الشعراء فتنشر صحيفة (الدفاع) الإسكندرانية خبر ذلك الحفل وما قيل فيه من أشعار، وفي ذلك يقول الشاعر عمر بن محمد باكثير متأسفاً علي إضاعة ذلك الشاعر المكرم لديوانه :

سقط الديوان في الأرض فضاع

إنه لم يك من سقط المتاع

إنه قد طار في الأرض صداه

إن تسل مصر فسل عنه (الدفاع)

كما يظهر هذا الاهتمام بنتاج الأقلام الحضرمية من أرض الكنانة بتبنيها لطبع كثير من المؤلفات التي خطها الحضارمة في بلادهم ثم أرسلوها إلي مصر لغرض طباعتها من كتب دينية أو أدبية أو تاريخية بل لقيت بعض تلك المطبوعات عناية خاصة من قبل بعض كبار رجال مصر مثل عناية الشاعر المصري المعروف أحمد رامي بدواوين بعض شباب الشعراء الحضارمة كصالح بن علي الحامد في ديوانه الأول ( نسمات الربيع ) وأحمد عبدالله بن يحيي في ديوانه ( المجاج أو المرسلات ) حيث قدم كلا الديوانين بمقدمة لطيفة ، وقد شكر الحامد لهذا الشاعر تلك اللفتة وقال عنه معترفاً بفضله "أسدي إلي ثنائه تكرماً وتنشيطاً من غير سابق معرفة شخصية بيني وبينه ، ولاغرو فليست أول منة مصرية تطوق بها الأعناق" ومن قبله كان الشاعر المصري المعروف حسن كامل الصيرفي قد اعتني بكتابة مقدمة جميلة لأول عمل شعري يصدره الأديب علي أحمد باكثير ويطبع في مصر وهو مسرحية باكثير الشعرية الأولي الموسومة بـ( همام أو في عاصمة الأحقاف ) ، ويمتد هذا الاهتمام للكتاب الحضرمي عند نشره في مصر حيث تتناوله أقلام الكتاب المصريين تعريفاً وتقريضاً ونقداً ، وقد أشار الحامد إلي العناية التي حظيت بها محاولته الأولي بعد إصدار ديوانه الأول إذ انهالت المقالات المرحبة والناقدة له " في مصر علي صحفها أدبية التي لو نشرت علي حدتها لكانت مائدة دسمة من الأدب العربي العصري " . وإذا كان الحامد قد اكتفي بالإشارة فإن عبد الله محمد بن حامد السقاف قد تكفل بتصدير بعض أجزاء كتابه (تاريخ الشعراء الحضرميين ) الذي طبع بمصر بوفرة من المقالات في الصحف والمجلات المصرية تناولت كتابه هذا مرحبة به وبمؤلفه .

وقد امتن الحضارمة لهذا الحدب المصري عليهم وعلي آثارهم وصارت مصر بالنسبة لهم وهجاً يرنون إليها ويسيرون علي هديه ولا سيما الأدباء منهم شعراء وكتاباً ، يقول طه بن أبي بكر السقاف في ذلك : " في طليعة البلدان التي تنظر إلي مصر كما ينظر الفلكي إلي أسطرلابه حضرموت ... إنها تنظر إلي مصر بعين الإجلال والإكبار وتدين لها بكل ما تنعم به نهضتها الأدبية الحالية " ثم قال " إن لمصر في نهضتنا الأدبية المباركة أثراً بارزاً ويداً بيضاء فإن ما تقدمه مصر إلي حضرموت من ثمرات أفكار شعرائها العباقرة جعل الحضرمي يقبل علي تذوق الأدب المصري ومحاكاته". ويؤكد هذا التأثير د. أحمد عبدالله السومحي حيث يقول : " كان لبروز مجموعة الشعراء الشبان من مثل عبدالله بلخير وعلي أحمد باكثير وصالح الحامد وغيرهم فضل كبير بالنهوض بالشعر الحضرمي حيث تأثروا بالتيار المصري الجديد " . ومن الأمور التي تدل علي مبلغ ذلك التأثير أن صارت أساليب شعراء مصر مما يحتج به أدباء حضرموت عند الخصام أو الاختلاف ومن ذلك قول أحدهم في إحدي المناقشات حول بعض أنماط الشعر: " وأي شاعر كبير أو صغير لا يكون أكثر شعره مناسبات حتي كبار شعراء مصر وغيرهم " كما حرص بعض أولئك الأدباء علي مراسلة بعض كبار أدباء مصر للاستفادة من آرائهم ونقدهم. وعرف أدباء الكنانة للحضارمة اعترافهم بفضل تأثير الأدب المصري عليهم فشكروا لهم هذا التنويه به وبرواده ( انظر العدد السادس من مجلة أبوللو فبراير1933م ، المجلد الأول ، ص 698، وفيها قول الشاعر المعروف أحمد زكي أبو شادي " عرف الحضارمة بتأثرهم بالأدب المصري العصري بصفة خاصة ".

وينبغي ألا يفهم مما ذكر عن التأثير لمصر وأدبائها في الأدب الحضرمي تلاشي شخصية الأدباء الحضارمة بل سجل هؤلاء حضورهم وعبروا عن خالص شعورهم بعد هضم تلك التأثيرات حتي إن منهم من نافس أدباء مصر وانتقد بعض أشعارهم وكتاباتهم ، مثلما ما فعله الأديب الناقد عبد الرحمن بن عبيدالله السقاف مع بعض أشعار الشاعر أحمد شوقي وبعض كتابات الأديب زكي مبارك وله في ذلك كتابان معروفان فضلاً عن مقالات أخري يرد فيها علي المذكورين و آخرين في مجالات أدبية وغير أدبية .

وفي هذا الصدد رأينا ناقداً حضرمياً آخر ينبه أدباء حضرموت إلي ضرورة صدور أدبهم من نفوسهم وبيئتهم الحضرمية وألا يتلاشوا في التأثير المصري وقال : " قليل من شعرائنا من يصدرون في أشعارهم عن المعاني التي تخلقها الحياة الحضرمية في أدمغة أبنائها والأمر الذي ننقمه علي هؤلاء الشعراء أنهم لم يلجوا باب الشعر إلا تأثراً بالشعر المصري ولا خير في شاعر يجمع لنا قصائد من أنقاض الآداب المصرية فنحن حضارمة ويجب أن يكون لنا شعر حضرمي ".

* باحث دكتوراه بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة .