إن منكم منفرين.. حول حكم تهنئة المسيحيين
بقلم/ الحبيب علي زين العابدين الجفري
نشر منذ: 11 سنة و 5 أشهر و 24 يوماً
الخميس 09 مايو 2013 04:04 م

الحمد لله..

 قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّ منكم منفِّرين، فإذا صليتم فأوجزوا، فإن خلفكم الضعيف والكبير والمريض وذا الحاجة».

 وهنا علّمنا النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، أن من يتصدر لخدمة دين الله ينبغي أن يلاحظ حالة المتلقي وألا يكون مُنفراً للناس عن الإقبال على الله تعالى، ولو كان ذلك عبر تلاوة كلام الله أثناء الصلاة.

 وفى هذه الأيام كثر اللغط حول مسألة تهنئة أهل الكتاب في أعيادهم وانحرف مسار الحديث عنها فى البلاد التي تتنوع عقائد مواطنيها عن بيان حكم شرعي إلى حالة من التنفير عن الدين، بل أصبح مهدداً للأمن الاجتماعي ومنافياً لأوليات الأخلاق والقيم الإنسانية التي جاء النبي الكريم مُتمماً لمكارمها، وأصبح الحديث عن هذا الموضوع جزءاً من منظومة الإمعان فى تمزيق منطقتنا المضطربة الممزقة عبر المفهوم الـمُحرَّف للولاء والبراء.

 والعلماء الحقيقيون يفرقون بين الحكم والفتوى التي هي تنزيل الحكم على الواقع؛ فالفتوى قد تخالف الحكم.

 أكل لحم الخنزير، على سبيل المثال، حكمه التحريم، لكن الفتوى تخالف الحكم في حالة من لم يجد طعاما سوى الخنزير فخشي الموت جوعا فتكون الفتوى بأن يأكل من لحم الخنزير فى هذه الحالة.

 أما مسألة الحكم الشرعي لتهنئة أهل الكتاب مجرداً عن تنزيله على الواقع فهى اجتهاد لم يُبنَ على نصّ صريح من كتاب أو سنة فى الجواز أو المنع، بل كان من المسائل الاجتهادية لدى الفقهاء، فكان محل تفصيل وخلاف. أما التفصيل فمنهم من أباح التهنئة في المناسبات الدنيوية دون الدينية، وأما الخلاف فهو ثابت فى عموم التهنئة؛ وقد نصَّ الإمام أحمد بن حنبل على جواز التهنئة فى أحد أقواله المروية عنه، كما نقل ذلك «المرداوى» في «الإنصاف»، دون تقييد بالمناسبات الدنيوية وإن اعتمد الحنابلة رواية التحريم، مما يردُّ زعم الإمام الحافظ ابن القيم أن التحريم محل اتفاق.

 والعلماء الذين نهَوا عن التهنئة بنَوا النهى على علّة (سبب) نصّ عليها عدد منهم فى فتواهم، وهى التباس التهنئة بإقرار أهل الكتاب على العقائد المخالفة لعقيدة الإسلام، وهذا التعليل كان صحيحاً فى إطار الثقافة السائدة فى المجتمع الإنساني آنذاك من ارتباط التهنئة بتبني إقرار الأمر الذي تكون التهنئة بصدده، وهذه العلة قد انعدمت بالكلية فى الثقافة الإنسانية المعاصرة؛ فقد تجاوز النضج الإنسانى هذه النظرة وأصبح مفهوم التهنئة مرتبطاً بالبرّ وحسن الصلة وجميل التعايش بالمعروف، لهذا أصبح المسيحيون يهنِّئون المسلمين فى أعيادهم الدينية ولم يكونوا يفعلون ذلك فى العصور السابقة، والقاعدة الفقهية تقول: «الحكم يدور مع علّته وجوداً وعدماً»، أى أن الحكم الشرعي الاجتهادي إذا لم يُبنَ على نصٍّ صريح وبُنى على سبب مرتبط بواقع متغير فإنه يتغير بتغير هذا الواقع.

 كما أن الأصل في الصلة بيننا وبين غير المسلمين الذين لا يُقاتلوننا هو العدل والإحسان؛ فقد قال تعالى: «لَّا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ».

 والخلاصة أن المسألة خلافية، وعلة المنع (سببه) لم تعد قائمة فى زماننا بل أصبحت دواعي التهنئة قائمة في مرحلة أصبح السِّلم المجتمعي فيها على المحك.

 وهنا يحضر قول الحافظ ابن القيم: «من لم يُحقق المناط على الزمان والمكان فقد ضلَّ وأضلَّ»، والمناط هو العلّة أو السبب فى الحكم الشرعى، وتحقيقه هو إنزاله على الواقع.

وهنا تظهر أيضاً إشكالية استدعاء فتاوى علماء من بلاد لم تعرف التنوع الديني ولا طبيعة التعايش فيه لإنزالها على بلاد قامت تركيبتها السكانية وتأسَّس استقرارها على هذا التنوع، كما ظهرت إشكالية تطبيق أحكام قامت على علل وأسباب تغيرت بتغير الزمان.

 ومع ذلك فمن لم يُرد أن يبرّ جيرانه بتقديم التهنئة فله حرية عدم تقديمها، لكن أن يحرِّض الناس على ذلك بل ويتطاول على كبار أهل العلم والفضل الذين يجيزونها أمثال الإمام الأكبر شيخ الأزهر وفضيلة مفتى الديار المصرية السابق والحالى والإمام عبدالله بن بية وغيرهم من كبار علماء الأمة فهذا تَعَدٍّ مرفوض.

 وأما ما نشاهده من ورود تحريم التهنئة في سياق منظومة من خطاب التحريض على المواطنين من أهل الكتاب فهذا من الفتنة التي تصل إلى حد الإخلال بأمن البلاد واستقرارها.

 بل إنه نوع من التنفير البغيض لشباب المسلمين عن دينهم، وسبب من أسباب تشكيك الجيل في عظمة هذا الدين وسماحته، فضلاً عن تنفير غير المسلمين؛ فشبابنا الذي يعيش في عصر استقرّ فيه الوعي الإنساني على الفصل التام بين تهنئة الناس فى مناسباتهم الدينية وقضية إقرارهم على صحة معتقداتهم أو تبنيها، لا يتصورون بحال من الأحوال منطقية الربط بين التهنئة والإقرار بصحة المعتقد، وإن كان هذا الربط مُبرراً فى ثقافة العصر الذي أفتى فيه العلماء بتحريم التهنئة.

 لهذا ينبغي علينا أن نتقى الله فى أوطاننا وشبابنا ولا نجعل من المسائل الاجتهادية التي تقبل النظر سبباً في الفتنة بطرحها وكأنها من المسائل قطعية الدلالة فى الكتاب والسنة.

 وصدق الله العظيم إذ يقول:

 «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ».

 وما أعظم حكمة أشياخنا من أهل الحديث حين كانوا يفتتحون تدريس الطالب الجديد بالحديث المسلسل بالأولية الذي يقول فيه النبىُّ، صلى الله عليه وآله وسلّم: «الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من فى السماء».

 اللهم انقلنا من ظلمة الوهم إلى نور الفهم، واجعلنا هادين مهتدين غير ضالين ولا مُضلين، ولا تجعلنا فتنة لعبادك عن سبيلك يا رب العالمين.