الأقصى قضية أمة وعقيدة
بقلم/ عزام التميمي
نشر منذ: 5 سنوات و 5 أشهر و 12 يوماً
الأحد 02 يونيو-حزيران 2019 11:22 م
 

ما يقوم به الصهاينة الآن في المسجد الأقصى، وما لم يتوقفوا عن فعله منذ أن أقاموا كيانهم المسمى "إسرائيل" في فلسطين قبل واحد وسبعين عاماً، ما هو إلا تكرار لما شهده التاريخ البشري مراراً وتكراراً من تبرير للجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية باسم الدين، وهو الفعل الذي يؤدي لا محالة إلى استفزاز المعتدى عليهم دينياً ويحول العدوان إلى حرب دينية ضروس، رغم أن حافزه في الأصل لا يمت إلى الدين بصلة، ومن أمثلة ذلك ما وقع من حروب صليبية، ثم من حملات استعمارية متتابعة واستعباد لشعوب الأرض في أفريقيا وآسيا وكذا في الأمريكيتين. (الكتاب المقدس والاستعمار للكاتب البريطاني الراحل مايكل برايار).

 

لم يكن أصحاب الفكرة الصهيونية اليهود في بداية أمرهم يهوداً متدينين، بل كانوا ملاحدة "علمانيين"، ولكنهم، وتقليداً لمن دعمهم أو حرضهم من صهاينة مسيحيين في أوروبا، وعلى رأسهم كبار الساسة البريطانيين ما قبل وأثناء وبعد الحرب العالمية الأولى، لجأوا إلى الكتاب المقدس (التوراة) ليستخلصوا منها نصوصاً تضفي على مشروعهم صبغة دينية رجاء إقناع عوام اليهود في أوروبا بالانضمام إليهم. (أساطير الصهيونية للكاتب البريطاني جون روز).

خلال ما يزيد عن قرن انقضى منذ التئام المؤتمر الصهيوني الأول بصعوبة بالغة في بازل في عام 1897، حينما كان الصهاينة أقلية منبوذين، تحولت نسبة لا بأس بها من يهود العالم إلى اعتناق الصهيونية، والفضل الأول في ذلك لا يعود إلى جهود الصهاينة المؤسسين بقدر ما يعود إلى تطورات الأحداث ما بين الحربين الأولى والثانية في أوروبا، والتي تمخض عنها تدمير الكيان السياسي الجامع للمسلمين، والمتمثل فيما بقي من دولة الخلافة العثمانية، وتحول المنطقة العربية إلى مستعمرات ثم كيانات "مستقلة" بائسة ودول فاشلة تحكمها أقليات فاسدة موالية للمستعمر، وصعود النازيين وارتكاب جريمة المحرقة التي أقنعت جل يهود أوروبا بأن القارة الأوروبية لم تعد مكاناً آمناً لوجودهم، مما وفر للصهاينة المكون السكاني الذي طالما ناضلوا من أجل توفيره لمشروع دولتهم في فلسطين. إذ ما كان كيان الصهاينة في فلسطين ليقوم لولا هتلر وما ارتكبه بحق الإنسانية جمعاء من جرائم.

حتى وقت قريب قبيل نجاح الصهاينة في احتلال فلسطين وإقامة دولة لليهود على ثلثي أراضي ما يعرف بفلسطين التاريخية، كان معظم اليهود مازالوا يعتقدون بقدسية ما ورد في التلمود من نهي عن الهجرة إلى "أرض الميعاد" والاستقرار فيها، وتحذير شديد من مغبة فعل شيء من ذلك إلى أن يأتي المخلص في آخر الزمان ليقود عودتهم، وهي العقيدة التي شكلت نمط حياة اليهود في الشتات على مدى ما يقرب من ألفي عام منذ أن دمر الرومان هيكلهم وأخرجوهم من فلسطين وشتتوهم في الأرض في منتصف القرن الأولي الميلادي. وماتزال طائفة كبيرة من اليهود – ومنها على سبيل المثال جماعة ناطوري كارتا – تتمسك بهذه التعاليم وتعتبر الصهيونية هرطقة وكفراً وعدواناً على الرب.

إذن، ما نراه يجري الآن في فلسطين، وبشكل خاص في الخليل وفي القدس من اعتداءات وانتهاكات باسم اليهودية، إنما هو نتاج تحول في معتقد هؤلاء القوم إلى الضد تماماً مما كانت عليه معتقداتهم قبل مائة عام من الآن.

وذلك ما بشر به بل ودعا إليه الحاخام كوك الأكبر في عشرينيات القرن الماضي حينما أعاد تفسير نصوص التوراة والتلمود ليعضد مزاعم الصهاينة العلمانيين والملاحدة، ويبيح لليهود العودة إلى أرض الميعاد بحجة أن قيام دولة لهم في فلسطين بات مجازاً هو "المسيح المخلص". (كتاب الأصولية اليهودية في إسرائيل للمؤرخ اليهودي الراحل إسرائيل شاحاك).

غني عن القول إن شيئاً من هذا ما كان ليحدث لو أن المسلمين كانوا في غير ما هم فيه من أحوال انحطاط وضعف وتخلف، وأنه ما كان الصهاينة ليطمعوا بتحقيق شيء من أحلامهم لولا أن من يحكمون العرب اليوم فيما خلفه المستعمر من كيانات بائسة فاشلة يقومون بمهمات السجانين الذين يقيدون الشعوب ويمارسون بحقها أبشع ألوان القهر والاضطهاد للحيلولة دون نهوضها، الذي سيهدد لا محالة وجود الكيان الصهيوني في قلب موطن العرب والمسلمين.

ومن هنا نفهم التحالف الاستراتيجي القائم حالياً بين أنظمة "الثورة المضادة" في العالم العربي والكيان الصهيوني بقيادة نتنياهو، حيث أن الطرفين اعتبر ثورات الربيع العربي بمثابة خطر داهم لابد من إحباطه.

 

لكن هذا الذي يحدث، من تجرؤ الصهاينة باسم الدين على مقدسات المسلمين، وخاصة اعتداءاتهم المتكررة على قبلة المسلمين الأولى ومسرى نبي الله تعالى ومعراجه إلى السموات العلا، من شأنه لا محاولة أن يحول غزواً استعمارياً كانت دوافعه الأصلية مزيجاً من خوف وطمع إلى حرب دينية بامتياز.

وذلك أن الصهاينة الأوائل كان همهم إخراج اليهود من أوروبا لإنقاذهم من الاضطهاد الذي يمارس ضدهم، وما كان بعضهم – ومنهم تيودور هيرتزل نفسه – يرى بأساً من إقامة وطن لليهود في أي مكان آمن بعيداً عن أوروبا حتى ولو كان ذلك المكان هو الأرجنتين أو أوغندا أو قبرص أو حتى ليبيا.

لا يمكن فصل ما يجري في القدس اليوم عما يجري في دول الجوار حيث تشن أنظمة بعض الدول العربية، وبشكل خاص في مصر والسعودية والإمارات، حرباً شرسة على ما يسمونه "الإسلام السياسي"، وما هو في الحقيقة إلا مشروع نهضة المسلمين.

   من هنا نفهم التحالف الاستراتيجي القائم حالياً بين أنظمة "الثورة المضادة" في العالم العربي والكيان الصهيوني بقيادة نتنياهو، حيث أن الطرفين اعتبر ثورات الربيع العربي بمثابة خطر داهم لابد من إحباطه.

إنهم يحاربون المشروع الذي بدأ قبل ما يقرب من تسعين عاماً لاستعادة وعي الأمة بنفسها وبدورها وبرسالتها، ولإخراج العرب والمسلمين من تخلفهم وتنبيههم من غفلتهم، وتهيئتهم للتصدي للمشروع الصهيوني منذ أن كان في أيامه الأولى. لم يعد ثمة شك في أن ما تقوم به الأنظمة العربية وخاصة في مصر السيسي وسعودية ابن سلمان وإمارات ابن زايد اليوم إنما هو خدمة جليلة للصهاينة الذين يزدادون توجهاً في مزاعمهم نحو التبرير الديني لما يرتكبونه من جرائم بينما يجرم في بلاد العرب كل من تسول له نفسه إقحام الدين في السياسة بأي شكل من الأشكال، حيث بات استغلال الدين في السياسة حكراً على المتصهينين العرب الذين يحرسون كيان الصهاينة ويسهرون على أمنه، وما "قمم مكة" الثلاث الطارئة منا ببعيد.

خلاصة القول أن الصهاينة المتذرعين بتأويلات نصوص توراتية وتلمودية معينة، يستمدون بموجبها الحق في ارتكاب أبشع الجرائم غزواً، واغتصاباً، وسلباً ونهباً، وقتلاً، وتدميراً، إنما يدفعون بالمنطقة، بل وبالعالم، نحو حرب دينية شاملة، يلعب الدين فيها في معسكرهم هم دور المبرر للجرم المحرض عليه بينما يقوم في معسكرنا بدور المحفز على النهوض والدفاع عن حياض الأمة وعن مقدساتها، بل وعن وجودها.

لن ينقذ هذه الأمة، ولن ينقذ أقصاها، ولن يوفر الدرع الواقي لباقي مقدساتها – وعلى رأسها الحرمان الشريفان في مكة والمدينة – إلا جيل يدين بالولاء لله وحده، جيل يتمسك بحبل الله المتين، ويلتزم بشرعه القويم، جيل يؤثر الموت في سبيل الله في عزة على العيش في رغد وذلة.