الهند والهةً ومصر حزينةً:الى روح جميل الصلوي
د.عبدالمنعم الشيباني
د.عبدالمنعم الشيباني

حدثني صديقي الراحل عن صديقِِ له رحل قبله بسنوات قال لامرأته: ((اذا سألوكِ عني قولي لهم سيعود))..، كان جميلاًًَ وشاعراً من شعراء القصيدة الحزينة وكانت تقاسيم وجهه حروف حزنِِ ناطقةِ ..، هو والحزن توأمان، كلاهما كان يكتب الآخر وكانت القصيدةُ تعبر عنه شكلاً وحزناً ورثاءً.. قال لي صديقي الراحل أن صديقه الذي رحل قبله بسنوات كان يقضي كل الوقت في التأمل تحت شجر الصفصاف في كلية الآداب يتفرس في عيون قصيدةِ مرت من هنا يعشقها ولا تعشقه ويعرفها ولا تعرفه وكان يحرق كل يومِ عشرين سيجارةِ من أجلها حين تمر وسط الزحام وهو هو لا يبرح المكان حتى يسكب للحزن قصيدةً جديدةً ولم يدر المسكين أنه كان يرثي عمره الذي رحل وراء سراب ِ خادعِ وحبيبةِ من وهمِ، أشد رثاءً من نزار قباني لنفسه في قصيدته (( قارئة الفنجان)) حين قال:-

مقــدُورُكَ.. أن تمشي أبداً
في الحُبِّ .. على حد الخنجر
وتَظلَّ وحـــيداً كالأصداف
وتظلَّ حزيــناً كالصفصاف
مقدوركَ أن تمضــي أبداً ..
في بحرِ الحُبِّ بغيــرِ قُلوع
وتُحبُّ ملاييـــنَ المَرَّاتِ ...
وترجعُ كالملكِ المخـــلوع

..............
ستفتش عنها يا ولدى فى كل مكـان
وستســـــأل عنها موج البحـــــــــر
وتســـــــــــــأل فيروز الشطـــــئان
وتجـــــــــوب بحارا وبحــــــــــارا
وتفيـــــــض دموعك انهـــــــــــارا
وسيثقل حزنك حتى يصبح اشجارا
وسترجـــــــع يوما يا ولـــــــــــدى
مهزومـــــــا مكسور الوجــــــــدان
وستعـــــــرف بعد رحيل العمـــــر
بأنك كنــــــت تطارد خيط دخــــان
.........

هل علمتم من الشاعر الراحل آنفاً؟؟ انه توفيق الزكري..

وحدثني صديقي الراحل عن شاعرِ آخر... سألني: ( هل تعرفه؟؟) قلت له نعم .. جئتُ الى مقر عمله ذات صباح في مكتب تحرير جريدةِ كان هو المحترم الوحيد بين كل المحررين ولم أكن أعرفه ولم يعرفني هو من قبل .. حملتُ اليه قصيدةً ثوريةً أهديتها ل(حماس) وكان هو محرراً للصفحة الأدبية...، كم كان نبيلاً ابتسم لي وأنزلني منزلاً كريماً وكم كان نبيلاً بابتسامته الحزينه وحزنه النبيل، يكلمني بلطفِ و يسألني عن أخبار الشعر والأدب ويخفي حزنه النبيل حيرة اسئلة شتى عن معنى الحياة والكتابة...كم كان كريماً اذ أنزل قصيدتي البكر المتواضعة الى جوار شاعرِ مخضرمِ كبيرِ كبيرِ.. هكذا يصف الاسم صاحبه احياناً بالتمام .. كان نبيلاً هذا الشاعر الذي قرأ لي قصيدتي من قبل الجمهور.. ثم قال لي الراحل صديقي هل تعلم؟ قلت ماذا؟ قال (( لقد مات الشاعروالقاص نبيل السروري))..

ثم كان جميلاً أسمر اللون وعلى وجهه سحنة الدهر منذ مرابع صباه في القرية، أنيق الروح متسامحاً سموحاً بريئاً كريماً شهماَ .. قال لي الطباخ الهندي( بيلي) الذي قضى 27 عاماً في خدمة الطلاب اليمنيين والعرب في الهند: (( لقد كان جميل أول من تعرفت عليه من طلاب اليمن وكان أول وافدِ على هذا المقر )) ثم أخذ بيلي يشرح لي مآثر جميل الجميلة وكيف كان يكرمه ويعطيه الربيات زيادةً منه وفضلاً اكراماً ووفاءً لطباخِ وفيِ خدم اليمنيين وأحبهم- هكذا قال لي بيلي...ثم سكت بيلي الطباخ وقال:(( ولكن لست أدري لماذا تغير جميل ؟ ولماذا آوى الى عزلةِ حزينةٍ لم يعد يخالط أحداً ولم يعد يرتاد المقر مقر الإتحاد)؟؟؟ ... نعم لقد تغير الفتى الصلوي وآوى الى انطواءِ حزينِ حزينِ يعيش مع نفسه وعند نفسه مكروباً كئيباً منفعلاً بصمتِ تكشف عنه ملامح العزلة والاكتئاب باديةً عليه.... ان للفتى لقصةً وإن وراءه لخبرُ فقد كان أكثر طلاب اليمن نجابةً واجتهاداً في مرحلة الدراسة الجامعية في مصر وكان عنوان نباهةِ وذكاءِ رفع من سمعة ابناء الصلو شأواً بعيداً ومن سمعة اليمن مكاناً سامقاً ولم يكن منحرفاً بيد أن للشيطان جنودُ يجندها لا صطياد الأذكياء واغتيال النجباء..، ولم يكن منزلقاً، بيد أن للشيطان مسوغات ومبررات تأوي بالمرء الى مهاوي الردى من بعد نجابةِ ونباهةِ وذكرِ جميل..ثم آوى الى هزيمةِ نقسيةِ ويأسِ أفقده ما كان عليه من صولةِ وجولةِ ..

فهل يعود الينا وقد رحل عنا ومتى يعود؟ كان جميلاً مسالماً لم يؤذ أحداً من الناس ولم( يحش) على أحدِ من خلق الله ولم يدس أنفه في خصوصيات الآخرين ولم يكن يدعي لنفسه البطولة والمجد( خرطاً) من لدن نفسه و(زنطاً) هندياً مذموماَ.. لم يسط على أرضية أحد وما هدم جدار أحد وما أضر بحقوق أحد من عباد الله...، كان حزيناً وكان حزنه يأوي كل ليلةٍ الى شجر القتاد ومن الحزن ينبت القتاد ، قهرته تكاليف الحياة ومماطلة الزمن لحقه في العيش من غير قلقِ ولا كدر ولم يكن له أعداء سوى اعداء الحياة واعداء الإله أردوه فتجرع الردى ثمناً باهضاً ولم يتركوا له فرصةً لمقاضاتهم ومحاكمتهم...تألق نجمه جميلاً في مصر الكنانة ورحل حزيناً مكروباً في الهند ، ندعوله بالرحمة، جميل الصلوي...، فارق الحياة الدنيا بتأريخ 22 من نوفمبر 2009بالهند ...

مقطع من رثاء خليل مطران لنفسه:

داءٌ ألـــمً فخلتُ فيه شفـــا ئي   من صبـوتي فتضاعفتْ برجــائي

يا للض َّ عيفـــين استبدّا بي ومـا في  الظّـلم مثلُ تحك ُ ّمِ الضّــعـفـــاءِ

قــلبٌ أصابته الصبابةُ والجــوى وغلاـةٌ رثـــتْ مـــــن الأدواءِ

وكــأن آخر دمعةٍ للكـون قد مزجـتْ بآخر أدمعي لرثـــائي

وكأنــي آنستُ يومي زائـلاً  فـنظرتُ في المـــرآة كيف مسـائي

***********

* شاعر وناقد يمني مقيم في الهند

a.monim @gmail.com

 
في الخميس 26 نوفمبر-تشرين الثاني 2009 02:48:30 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.org
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.org/articles.php?id=6112