تجارة الموت
أحمد عبده الشرعبي
أحمد عبده الشرعبي

الكل يسمع ويشاهد التفشي المفجع لظاهرة الأورام السرطانية في اليمن والتي تتجاوز حالاتها عشرون آلف إنسان في العام الواحد، والبحث عن أسباب استشراء هذه الظاهرة ليس بحاجة إلى "جلسة قات" أو الاجتهاد والتخمين لان عدد من الدراسات العلمية قد أظهرت أن من بين أسباب انتشار هذه الأورام الخبيثة هو الاستخدام المفرط للمبيدات الكيماوية التي تملأ أسواقنا المحلية بشكل مخيف، وبعضها محرمة أو منتهية الصلاحية ومهربة على أيدي تجار الموت.

 تجارة الموت بشقيها (التهريب والاتجار بالمبيدات المحظورة، والإفراط في وسوء الاستخدام) لا يتحمل مسؤوليتها أولئك الذين يهربون أو يجلبون المبيدات المحرمة إلى البلد بل تتحملها شبكة متكاملة تبدأ بأولئك الأفاعي الكبار (المهربين)، مروراً بتجار الموت الصغار (الذين يتعاملون بتلك المواد مع علمهم أنها مهربة)، ومن ثم المستخدمين في مزارعهم (الذين يقطفون محاصيلهم بعد أيام قلائل من رش المبيد) وانتهاءً بتجار المحاصيل الزراعية الذين يجلبون تلك المحاصيل الملوثة بالموت إلى أسواقنا- كتجار القات مثلاً- مع علمهم ،بحكم خبرتهم، أنهم يبيعون الموت لمن يحلمون بالحياة.

 الشواهد على صناعة وتجارة الموت كثيرة ولا تتطلب مرة أخرى جلسة "قات يلمعه الموت"، فمخازن الموت (مستودعات المبيدات المهربة) التي تكتشفها السلطات الأمنية من حين لأخر وحوادث غرق القوارب التي تحمل الموت(المبيدات) في مياهنا الإقليمية، وانتشار المبيدات المحرمة لدى بايعي الموت كلها خير شاهد على حجم وخطورة الظاهرة، وما خفي كان ألعن. 

 وبعيداً عن تجار الموت الكبار، دعونا نطّلع على شهادات حية لبعض من صناعه الصغار. السيد فلان، مثلاً، من أكبر تجار القات بل ومن أكبر مالكي مزارعه، يقول وبلا تحفظ أنه أعتاد- كغيره من مزارعي القات- على رش المبيدات على أشجار القات ثلاث إلى خمس مرات خلال فترة نمو أوراقه والتي تتراوح بين أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع وخاصة في موسم البرد والصقيع الذي قد يتطلب منه رش المبيد في اليوم الأول وقطفه للبيع في اليوم التالي حتى تبدو أوراقة أكثر لمعاناً وبريقاً وقادرةً على خطف نقود المشتري قبل عيونه بل وبالتأكيد قبل خطف روحه. وتبرئة لضميره من إمكانية تحمله مسئولية قتل "عباد الله" يقول أن هذه المهنة " صناعة الموت" هي مصدر رزقه، ويدافع أن أي من زبائنه لم يمت وإن كان بعضهم يتعرض لبعض نوبات الإسهال والغثيان "البسيطة"، فقد أصبح لديهم مناعة ضد هذه "الملمعات الخفيفة"، ويدلل على ذلك بتزايد أعداد "زبائن الموت" لديه.

 الشاهد الثاني، صاحب مزرعة ، رجل كبير في السن، يروي حكايته مع صناعة الموت ويقول أنه بحكم عمره الطويل في الزراعة فهناك فرق شاسع بين زراعة الأمس وزراعة اليوم، فزراعة الأمس -والقول له- لم تشهد المبيدات والكيماويات وكانت أمور الزراعة تسير بأمر طبيعي أما اليوم فقد تغير الأمر فلن تنمو محاصيله إلا برضاعة "النمرود" أو"التوباز" أو...وهي أسامي لبعض أنواع المبيدات كما فهمت، ويتابع حديثه أن بعض المبيدات المعتاد استخدامها، في معظم الأحيان وبحسب خبرته، تفقد مفعولها في تحسين المحاصيل الزراعية (أي يتم رشها على المحصول لكنها لا تعطي نتيجة تذكر) مما يضطره لتجريب مبيدات جديدة خاصة تلك التي تظهر في السوق لأول مرة، ويتابع أنه كغيره من بعض المزارعين يلجأ غالباً لرش المبيد عدة مرات حتى يحصل على محصول أكثر جودة وخلال فترة أقصر. ما يلفت الانتباه في هذه الشهادة هو تطبيق الرجل لنظرية العالم الأمريكي ثورنديك الخاصة بالتعلم عن طريق المحاولة والخطأ، لكن الأدهى والأمر أن الرجل وأمثاله يتعلمون كيف يقتلون البشر وعن طريق المحاولة والخطأ أيضاً.

 الشاهد الثالث، صاحب مزرعة أيضاً، تبدو عليه ملامح شبه إنسان حيث تغير جلده وكسته أورام غريبة قال عنها أنها بفعل عيون الحساد التي أصابته، فهو فريد في ابتكاره بل ويستحق براءة اختراع، لأنه وحسب زعمه أحد مبتكري " الخلطة السحرية" والتي رفض الإفصاح عن مكوناتها حفاظاً على سر المهنة، حيث لم يذكر سوى أنه يقوم بخلط عدد من المبيدات ورشها على المحاصيل مما يعطيه ثمار أبهرت كل المزارعين من حوله، ولذلك يصر على عدم الكشف عن عناصر خلطته السحرية حتى يضل فريداً في صناعة موته وموت غيره.

 تلك بعض من شواهد انتشار تجارة الموت والتي لم يأتي بها نسيج الخيال بل جاء بها الواقع والواقع لا يكذب، وما يهمنا هنا هو: هل يكمن الحل في مواجهة أورام الموت من خلال التوسع في مراكز مكافحة السرطان والأورام وترك تجار وصناع الموت يعيثون في الأرض فسادا؟. نعم تلك المراكز ضرورة صحية ومسألة إنسانية واجتماعية ولكن لا بد أن يرافقها خارطة طريق متكاملة تشمل في الأساس اقتلاع جذور الظاهرة ومسبباتها وعلى رأسها تجارة الموت، وهنا يمكن أن نرسم بعض من ملامح خارطة الطريق تلك.

1- ضرورة الحزم والحسم في مسألة تهريب المبيدات القاتلة من خلال تشديد الرقابة على المنافذ البحرية والبرية والمتابعة المستمرة لمحلات بيعها وتشديد العقوبات على المتورطين بجلبها وبيعها، وإصدار قائمة بالمبيدات المسموح الاتجار بها وقائمة سوداء بالمحرمة منها.

2- تنظيم عملية بيع المبيدات والاتجار بها من خلال إصدار قانون ينهي العشوائية وينظم الاتجار بها من خلال تراخيص صادرة من وزارة الزراعة، على غرار التراخيص التي تمنح لمزاولة مهنة الصيدلة، فالمعلوم أن الأدوية لا يسمح بمزالة بيعها لمن هب ودب بل تعطى بشروط معينة، ومع أن الاتجار بالمبيدات أخطر من الاتجار بالأدوية فمسألة تنظيم بيعها لا بد أن تكون أشد وأدق وينبغي تطبيق بعض الشروط المطلوبة على من يرغب بمزاولة بيعها.

3- اشتراط الخبرة والمعرفة في من يتعامل بها خاصة بأيعي التجزئة ويمكن عمل دورات تدريبية تشمل التوعية بأخطارها ودور البائع في إرشاد المشتري بكيفية الاستخدام وفترات الاستخدام، لاسيما وأننا في مجتمع لا زالت فيه نسبة الأمية مرتفعة خاصة في المناطق الريفية وهي مناطق الزراعة، فالكثير ممن يعملون في بيع المبيدات لا يجيدون القراءة، وإذا قارنا بائع الأدوية ببائع المبيدات سنجد أن معظم من يعملون في الصيدليات هم من خريجي أقسام الصيدلة، ومن المفترض أن تكون مراكز بيع المبيدات تابعة لوزارة الزراعة ويعمل بها متخصصون من خريجي الزراعة ولكن لكي لا يعقد الأمر فلا بد أن تعقد دورات إرشادية وتوعوية لمثل هؤلاء -كأضعف الإيمان- بعد إجراء مسح شامل لمتاجر ومحلات المبيدات وتسجيلها لدى مكاتب وزارة الزراعة والمتابعة الدورية لها. 

4- التوسع في إنشاء مراكز الإرشاد الزراعي على امتداد مناطق الريف اليمني خاصة وأن 70 % من سكان اليمن يقطنون المناطق الريفية وأكثر من 54% من القوى العاملة يمتهنون الزراعة وبالتالي يظهر لنا مدى أهمية التوعية ورفع الوعي في هذه المناطق، وهو الدور الذي ينبغي أن تقوم به مراكز الإرشاد الزراعي من خلال عقد الندوات والمحاضرات الدورية وورش العمل التي ينبغي أن تستهدف كل مزارعي مناطق وقرى الريف يتم فيها التوعية بمخاطر الاستخدام السيئ للمبيدات وأهمية إتباع الإرشادات اللازمة في الاستخدام.

5- إنشاء معمل فحص مركزي متطور وحديث - إن لم يكن موجوداً- مهمته فحص دوري لعينات من المنتجات الزراعية المنتشرة في أنحاء اليمن للتأكد من خلوها من السموم القاتلة ووفقاً للنتائج المعملية يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة في المنطقة التي ثبت أنها كانت مصدراً لتك المنتجات الملوثة من خلال رفع التوعية لدى مزارعيها أو معاقبة بائعي المبيدات في حال كان التسمم صادراً عن مادة منتهية أو محظورة وما إلى ذلك.

 تلك بعض من نقاط خارطة الطريق التي يمكن من خلالها الحد من أورام الموت بقطع دابر تجاره و صناعه والأمل كبير أن تصحا الضمائر وتتكاثف الجهود من أجل الرأفة بالإنسان والحد من طول طابور هذا النوع من الموت، فهناك من قضى نحبه وهناك من ينتظر.. فالموت لتجار الموت.


في الإثنين 02 مارس - آذار 2009 05:39:15 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.org
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.org/articles.php?id=4969