|
مهما حاول البشر أن يبتعدوا عمّا خُلقوا عليه، تعيدهم آدميتهم، أحاسيسهم، وحنينهم إلى أصل تلك الصبغة التي صُبغوا بها.
مع اختلاف واضح بين شخص وآخر، وبون شاسع بين جوهر وآخر، وقيمة وأخرى، يشبه الأمر من يملك بيتين: أحدهما في صخب المدن، كل شيء فيه يعمل بضغطة زر، يجمع فيه ما يظن أنه لدنياه؛ والآخر بيت ريفي في طرف بعيد، كأن الحضارة عجزت عن الوصول إليه.
جدرانه بلا طلاء، وكرسيه من خشب نال من بريقه التراب، لم يُزل عنه حتى اعتاده. ومدفأته، منذ أن جُمعت حجارتها، توقد نارها كلما حُرّك جمرها الذي خمد.
في ذلك البيت، يضع زينته، ويرتدي قميصه الأبيض، ويحتسي قهوته الداكنة، ويُسقط عن عقله كل تلك الأصوات المتطفلة على هدوئه، التي كانت تعمل جاهدة لتجعل حياته كما تريد هي، لا كما يريد هو. تسلب منه خيار عقله، وحريته، وحقه في نبضٍ بين جنبيه.
تملي عليه كيف يلبس، وكيف يتحدث، وكيف يجامل، أو كيف يُنافق! تسلب منه عمره دون أن يشعر، حتى إذا جاء يومٌ قد تأخر، وجد أنه كان في غفلة من ذاته، وقال: متى مضى ذلك؟ ومتى كان؟
يهز كرسيه، ويصغي لصوت طقطقة الخشب الذي تلتهمه النار، يحسب أنها تؤلمه وهي تخرج عنه أوزاره. وينظر إلى قدميه الحافيتين، وكيف كان يُقحمها في جزمته الضيقة لتتحول الأنظار إليها معجبة! وإلى آخر زر في ثوبه، كيف كان يخنق به صوته لئلا يقول ما يجول في ذهنه، فهناك لا بد أن تكون كما يحبون، لا كما تحب أنت.
متى فهمت ذلك، ستُمسك بطرف حياتك، لتصل إلى نشوتها التي ترجو.
في الخميس 04 سبتمبر-أيلول 2025 06:11:41 م
