اليمن وصراع الهويات المأزومة
نبيل البكيري
نبيل البكيري
ظل العرب ينظرون لليمن باعتبارها مصدر هويتهم العربية وأرض أجدادهم الأولين، الذين تركوا بلاد العرب السعيدة بعد حادثة انهيار سد مأرب، ميممين وجوههم صوب الجزيرة والشام والعراق، قبل الإسلام وإلى كل من مصر وشمال أفريقيا وصولا إلى الأندلس بعد الإسلام.
وقد شكلوا حينئذ امتدادا عروبيا لبلادهم الأولى أرض الجنتين أرض سبأ وحمير ومعين، أرض قحطان التي تتاقذفها اليوم هويات صغيرة طائفية، وجغرافيا لم تكن يوما ما هوية معتبرة في تاريخ اليمن الموغل في القدم، كهوية واضحة الملامح مكتملة الأركان لأمة تمتد اليوم على رقعة كبيرة من الأرض من الخليج العربي شرقا وحتى المحيط الأطلسي غربيا.
صحيح أن الهوية مصطلح جديد في حقل الدراسات الاجتماعية ظهر منذ منتصف القرن الماضي، مع بداية صعود التيارات القومية عموما، لكنه جاء تعبيرا عن مرحلة جديدة في سياق تطورات سياسية كبرى إن على مستوى النظريات أو الواقع، بحكم انبثاق وولادة مشروع الدولة الوطنية ذي الهوية القطرية التي كان للاستعمار دور كبير في نشأتها عربيا، لتبرز الهويات القطرية من عراقية وسوريا وأردنية فلسطينية وكلها هويات لما بعد سايس بيكو.
يمنيا، من الملاحظ أن كلمة "يمن" أو "يمنت" الواردة في المصادر التاريخية الكثيرة هي الاسم التاريخي الأطول بقاء في المصادر التاريخية حتى اللحظة، كمسمى لهذه الرقعة الجغرافية من الأرض التي تقع في جنوب الجزيرة العربية ومكة المكرمة ويمينها، مقابل الشام، أو شامت أي شمال الجزيرة العربية وشمال مكة المكرمة، وبالتالي فإن المصادر التاريخية هذه تتحدث عن أن حدود اليمن المقصودة هي البحر الأحمر غربا والخليج العربي وخليج عمان شرقا والبحر العربي جنوبا وصحراء الربع الخالي وما يتاخمها شمالا.
وأن هذه الرقعة الجغرافية من الأرض سُكنت من قبل أقوام كلهم عرب، شيدوا حضارات كبرى ورائدة مما استدعى مؤرخ اليونان الشهير هيروديت أن يطلق عليها بلاد العرب السعيدة أو العربية السعيدة، لما كانت تتمتع به من عمران وزراعة وتطور سياسي كبير من منظور تلك اللحظة التاريخية، عدا عن أنها كانت مصدرا وحيدا للعطور والبخور الذي كان يمثل تجارة رائجة في القرون الخمسة الأولى قبل الميلاد.
جذور الهوية التاريخية
لم تكن يمنية اليمنيين كهوية تاريخية وحضارية يوما ما موضوعا للنقاش، بالنظر إلى ما يمثله اليمن كمسمى ثابت تاريخيا، يتخذ في كل مرحلة من مراحل التاريخ هوية سياسية معينه، والأهم من هذا هو أنه حتى الهويات التاريخية السياسية التي برزت في مختلف المراحل التاريخية كانت تستند في جوهر وجودها على الأساس أو المنشأ القبلي لطبيعة الدولة التاريخية ومسماها.
من المفارقات أيضا، أن مسمى الشعب كما في معظم النقوش المعينية كانت تطلق على الوحدات السكانية في تلك الدول وهذا مؤشر هام على مدى الحضور المبكر لمفهوم الشعب في النقوش التاريخية للدولة اليمنية القديمة، والأهم من هذا أيضا هو الحضور المبكر لمفهوم المواطنة الحديثة في تلك الحقبة التاريخية التي ذكرته إحدى النقوش المعينية فيما يتعلق بحقوق أبناء الأم المعينية من زوج غير معيني في دلالة واضحة على الحضور القانوني والتشريعي المنظم لحقوق الأفراد والجماعة في إطار الدولة، حيث أنتجوا حضارة وطنية راقية بحسب رئيس قسم الدراسات الشرقية في جامعة برنستون.
كل هذه المعلومات التي تحضرنا اليوم تؤكد وحدة الهوية التاريخية المدنية للأمة اليمنية كنواة للأمة العربية كلها التي تشظت إلى هويات وطنية قطرية عدة، مع قيام ونشوء الدولة الوطنية الحديثة دولة الاستقلال الوطني من الاستعمار، هذه الدولة التي بدأت معها ملامح مرحلة جديدة على صعيد الهويات القطرية والوطنية التي عكست وتعكس هويات سياسية مؤطرة وفقا للكيانية الدستورية والسياسية للنظام السياسي الحاكم الذي نشأ بعد الاستقلال، ولا تعكس الأصل الثقافي والاجتماعي والاثني لهذه الهويات الجديدة ولكنها أيضا لا تتعارض معها بقدر تكاملها.
صراع الهويات
كما ذكرنا سابقا فإن اليمن -أرضا وتاريخا وحضارة- يمثل هوية ثقافية لأمة عربية جنوب الجزيرة العربية، عبرت عنها قديما وحديثا هويات سياسية عدة كان أهمها حديثا هو الهوية الجمهورية للأنظمة السياسية الحاكمة عقب الثورات اليمنية في القرن الماضي كثورة الـ26 سبتمبر/أيلول 1962 وثورة الـ14 أكتوبر/تشرين أول 1963م، وكذلك الهوية الوطنية الجامعة للجمهورية اليمنية التي أنشأت في العام 1990م، لكن فشل هذه الأنظمة في تعميق أسس الهوية الوطنية وفقا لمفهوم الشراكة والمواطنة المتساوية والعدالة، أدى لتراجع وانحسار شديد لمفهوم الهوية الوطنية مقابل صعود الهويات الفرعية المأزومة.
شمالا، سعت الدويلات الإمامية المتعاقبة التي حكمت شمال الشمال في فترات تاريخية متباعدة لطمس الهوية اليمنية بشتى الوسائل والسبل انطلاقا من الفكرة المذهبية الزيدية التي تستند على مفهوم كهنوتي للحكم والسلطة تحت مسمى نظرية الحق الإلهي للحكم المنحصر في سلالة من يطلقون على أنفسهم السادة الهاشمين، هذه النظرية التي جوبهت بمقاومة يمنية سياسية وثقافية عاتية أسسها العلامة والمفكر اليمني الأشهر أبو الحسن الهمداني الذي يعد بحق أبو القومية اليمنية وصاحب كتاب الإكليل الأشهر الذي رصد من خلاله تاريخ اليمن القديم وأخبار أهله وأنسابهم وأحسابهم وحروبهم وأشعارهم وحكاياتهم.
ليأتي بعد أبي الحسن الهمداني، القيل اليمني الأشهر نشوان بن سعيد الحميري، عازفا على وتر الهوية اليمنية الحميرية القحطانية في وجه النظرية العنصرية للحكم التي رفعها الأئمة الزيدية في وجه معارضيهم اليمنيين منذ القرن الهجري الثالث، ليتطور بعد ذلك الصراع إلى تيار عريض عبرت عنه جماعة المطرفية اليمنية الشهيرة وتيارها الفكري المتقدم إنسانيا في تنظيرها لأسس المواطنة الأولى للإنسان القائمة على العدل والشورى والمساواة والحرية.
ولما كان تعريف الهوية عند محمد عابد الجابري هو "الوعي المتجدد بالذات"، فإن الفكرة الزيدية المذهبية، كانت نقيضا موضوعيا للهوية اليمنية التاريخية والحضارية، هذا التناقض الذي تفجر قديما وراهنا على شكل حروب بخلفيات مذهبية عصبوية واضحة ضد الخيارات الوطنية المجمعة على كيانية الهوية الوطنية الجمهورية للدولة اليمنية الديمقراطية المدنية الحديثة التي تتعارض مطلقا مع الرؤية الطائفية المذهبية للزيدية السياسية التي تعتبر الحوثية تعبيرا صارخا عنها اليوم بتحالفها مع نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح الذي يعبر هو الآخر بتحالفه مع الحوثية عن نزوع مذهبي عصبوي جارف ضد الهوية الوطنية اليمنية الواحدة التي يراد اختزالها بعصبوية مذهبية جغرافية ممثلا بالهضبة الجغرافية لمناطق النفوذ التاريخي للزيدية التي أثبتت أنها أهم عائق أمام قيام دولة المواطنة المتساوية والمتوازنة في النظرة الطبقية العصبوية التي تقسم الزيدية المجتمع اليمني على أساسها.
جنوبا أيضا، ظلت مناطق الجنوب وحضرموت خاضعة منذ قدوم الاستعمار البريطاني عام 1839 وسيطرته على مدينة عدن، للنفوذ البريطاني الذي حاول خلق بيئة سياسية متعددة الأقطاب، والهويات ليسهل التحكم بها والسيطرة عليها، وهو ما تمثل بخلق كيانات عدة وتأطيرها بشكل دستوري، وهو ما تجلى بقيام دويلات وسلطنات مشيخية في جنوب اليمن وصلت مع رحيل المستعمر البريطاني لما يقارب 21 سلطنة ودويلة ومشيخة، لكل منها هويتها الخاصة من علم و جواز سفر، وهي كلها هويات جهوية برزت في ضل غياب الهوية الوطنية الجامعة التي لعبت الجبهة القومية بعد الاستقلال في القضاء عليها من خلال العودة للهوية الوطنية اليمنية الجامعة التي أعلنت عنها تحت مسمى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
وقبل هذا، كانت تحاول بريطانيا قبل رحيلها، أن تؤسس لكيان يتعارض مع الهوية اليمنية لهذه الرقعة الجغرافية بالحديث عن مسمى الجنوب العربي، والذي حاولت بريطانيا عام 1956م الإعلان عنه لمواجهة مطالب الاستقلال التي دشنتها الاتحادات العمالية والسياسية المطالبة برحيل الاستعمار، ولكن هذه التسمية لم يكتب لها النجاح وظلت مجرد تعبير عن مرحلة أزمة هوية خارج سياق الهوية التاريخية لليمن ككل.
مسمى الجنوب العربي، هو ما عاد مؤخرا، خلال العشرية الماضية وعبر عن نفسه من خلال تجمعات حراكية معارضة لفكرة الوحدة القسرية التي نشأت نتيجة لحرب صيف 1994م، مطالبة بانفصال جنوب اليمن، الذي تطلق عليه بالجنوب العربي وفقا للتسمية البريطانية القديمة، محاولة من خلال هذه التسمية نفي أي علاقة لجنوب اليمن بشماله في ردة فعل سطحية وغير واعية ولا تدرك أبعاد ومآلات هذا الانفعال اللحظي المضاد لحقائق التاريخ والواقع الذي لا يمكن تجاوزه، وهو المتعلق بحقيقة وحدة الهوية اليمنية شمالا وجنوبا.
أزمة الهوية الوطنية"
أزمة الهويات الفرعية التي تنفجر في لحظة ما، كحالة اليمن اليوم، هي تعبير جلي عن عمق أزمة الهوية الوطنية ككل، من خلال عودة المكونات المجتمعية نحو هوياتها الثانوية والفرعية مذهبية أو قبلية أو جهوية، للاحتماء بها في مواجهة الهويات المنافسة التي تبرز على السطح في ظل غياب المشروع الوطني الجامع الذي تشكله حالة إجماع وطني على شكل ودستور وكيانية الدولة الوطنية التي تنمحي في ظل دستور يساوي ويحفظ كل الهويات الفرعية التي تعبر عن نفسها في ظل هوية وطنية جامعة وتتعايش كتنوع خلاق لا متنافر.
فشل مشروع الدولة الوطنية، بهويتها الجمهورية على مدى نصف قرن، ساهم إلى حد كبير في عودة "الهويات القاتلة" بحسب تعبير أمين معلوف؛ تلك الهويات التي تنشأ كنتيجة طبيعية لفشل مشروع الهوية الوطنية التي تعبر عن مشروع الدولة الأمة بالتعبير الاجتماعي الغربي، الذي سبقته وثيقة المدينة التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم كوثيقة حاكمة لمجتمع المدينة المتعدد دينيا، وهي مبادئ قائمة على مبدأ التعاقد بين الحاكم والمحكوم، على أساس المواطنة المتساوية والحقوق والحريات، وهي كلها استحقاقات لمفهوم الهوية السياسية الوطنية الحديثة القائمة على مفهوم التعاقد.
إن أزمة الهوية اليمنية اليوم ليست سوى نتاج طبيعي لفشل مشروع الدولة الوطنية بصيغتها الجمهورية التعاقدية التي تقوم على مبدأ المواطنة التي يفترض أنها المعيار الحاكم للمجتمع، وبالتالي فإن كل هذه التشظيات الراهنة، هي استمرار للفشل الذي قاد إلى حرب طاحنة أدت إلى عودة نبرة الهويات ما قبل الوطنية، وهي هويات قبائلية عشائرية مذهبية، عفى عليها الزمن، كالهوية القحطانية مقابل الهوية الهاشمية والزيدية مقابل الشافعية وهي كلها هويات، ما قبل الهوية الوطنية، لا يمكن لها أن ترسم حدود هويات مجتمع متحرر في رؤيته لذاته وتاريخه ومجال هوياته الأوسع قوميا وإسلاميا.



في السبت 01 إبريل-نيسان 2017 10:48:04 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.org
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.org/articles.php?id=42966